تاورغاء دفعت ثمن استضافة قوات القذافي

«الشرق الاوسط» تلتقي عائلات النازحين

آثار الدمار تبدو واضحة في تاورغاء الليبية (صورة خاصة بـ {الشرق الأوسط})
آثار الدمار تبدو واضحة في تاورغاء الليبية (صورة خاصة بـ {الشرق الأوسط})
TT

تاورغاء دفعت ثمن استضافة قوات القذافي

آثار الدمار تبدو واضحة في تاورغاء الليبية (صورة خاصة بـ {الشرق الأوسط})
آثار الدمار تبدو واضحة في تاورغاء الليبية (صورة خاصة بـ {الشرق الأوسط})

كانت هناك بعض اللحظات عندما تثير الرياح الغبار في الفضاء الصحراوي المنبسط الذي تغطيه بعض الشجيرات المتناثرة هنا وهناك، ثم تصنع حبيبات الرمل العالقة بالهواء حجابا برتقالي اللون يحجب أشعة الشمس. وبين الحين والآخر، يسمع دوي صفق الأبواب بسبب الرياح التي تعصف بالمنازل بين الفينة والأخرى، وفي هذه الأثناء، يبدو الأمر وكأنه لا تزال هناك حياة في مدينة تاورغاء (تتبع محافظة مصراتة وتبعد عن مدينة مصراتة 40 كيلومترا إلى الغرب)، ويتخيل المرء أنه في أي لحظة سيعود الناس لبيوتهم ليزيلوا الكتابات من على جدران المنازل، ويصلحوا النوافذ، ثم يلبسوا أحذيتهم التي تركوها متناثرة على درجات السلم ليستأنفوا ما كانوا يفعلونه قبل مغادرتهم منازلهم. لكن فجأة، هدأت العواصف الرملية بنفس السرعة التي هبت بها. وعندما انقشع الغبار، ظهرت المدينة في حالة مزرية: أفق ممتد تغطيه أشجار النخيل الصريعة على الأرض.. بيوت محترقة وهياكل سيارات يعلوها الصدأ.

يصف البعض تلك الصورة، التي ظهرت عليها مدينة تاورغاء، بأنها عار على الثورة الليبية. كانت تاورغاء هي الضحية التي شهدت قدوم متمردي مصراتة للأخذ بثأرهم بسبب الحصار الدموي الذي استمر ثلاثة أشهر ضد مدينتهم. دفعت تاورغاء ثمن ولائها للقذافي، حيث إنها استضافت - على مدى ستة أشهر - قوات النظام التي كانت تطلق القذائف وصواريخ «غراد» باتجاه مدينة مصراتة. غير أنه بعد أن استطاع الثوار كسر الحصار والتقدم باتجاه تاورغاء في أغسطس (آب) من عام 2011، تراجع جيش القذافي من دون قتال وترك أهل المدينة عزلا من دون سلاح. وعندما وصل المتمردون إلى تاورغاء، طاردوا أهلها وأخرجوهم منها، ثم أشعلوا النيران في منازلهم للتأكد من أنهم لن يعودوا إليها مرة أخرى. في الماضي كان يعيش 40 ألف نسمة في تاورغاء، أما الآن فالبلدة خالية تماما من الحياة. قدرت المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن نحو 170 ألف نسمة تشردوا خلال النزاع في ليبيا، لكن البلاد شهدت عملية إعادة توطين سريعة إلى حد كبير. وقد عاد أكثر من ثلثي هذا العدد بالفعل إلى ديارهم أو جرى تسكين بعضهم بشكل دائم في أماكن أخرى. لكن جميع الذين فروا من بلدة تاورغاء ما زالوا يعيشون في مخيمات بائسة مؤقتة في طرابلس وبني وليد وبنغازي.

* كفى إراقة للدماء
* وفي رقعة أرض خالية من الماء بجانب الطريق السريع المزدحم على مشارف طرابلس، يقود طريق وعر زلق إلى مجموعة من الثكنات - المبنية من كتل خرسانية - والتي يعيش بها ثلاثمائة أسرة من بلدة تاورغاء على مدى العامين ونصف العام الماضية. لم يجر بناء تلك الثكنات لتكون منازل دائمة، حيث كانت قد جرى بناؤها كوحدات لإقامة العمال المؤقتين من قبل شركة تركية غادرت ليبيا على عجل عندما اندلع القتال في عام 2011. داخل تلك البنايات، تشعر بحرارة شمس فبراير (شباط) خانقة بالفعل. لم تكن هناك حمامات خاصة أو أي نظام للتخلص من النفايات في ذلك المخيم، الذي تصل إليه رائحة كريهة بسبب حرق القمامة عبر مدخل المخيم. وقد توفر أخيرا صهريج ينقل مياه الشرب للمخيم، حيث كان الناس يشربون المياه المالحة من نهر قريب.
تبدو النساء هن اللائي يحافظن على تماسك عائلاتهن الآني. وعند البناية تلو الأخرى، ترى الزوجات يقفن وقد تشبث الأطفال بأرجلهن. وتحكي كل واحدة منهن كيف جرى اعتقال أزواجهن وأبنائهن الكبار من قبل ميليشيات مصراتة. تقول إحداهن: «كفى إراقة للدماء، نريد فقط أن يعود إلينا أبناؤنا الذين يقبعون في السجون في الوقت الحالي»، ثم انهارت باكية. الأمر الصادم حقا هو السرعة التي ذرفت بها دموعها؛ فقبل تلك الدموع بدقيقة واحدة، كانت تغطي وجهها ابتسامة عريضة وهي ترحب بنا في منزلها. لكنها عندما انفجرت باكية بصوت عال، أصبح واضحا أن دموعها لم تكن بعيدة جدا عن السطح.
أما «زهرة»، فلم يكن لديها أدنى أمل تتشبث به في ما يخص عودة زوجها المعتقل. كان زوج «زهرة» يقود سيارته في طرابلس خلال أيام الفوضى التي أعقبت سقوط تاورغاء في يد قوات الثوار، عندما جرى إيقافه عند نقطة تفتيش ميليشيا من مصراتة. ألقي القبض عليه واقتيد إلى أحد الأماكن، ولم تسمع عنه عائلته أي أخبار لما يقرب من شهر. وأخيرا تلقت «زهرة» مكالمة تخبرها أن زوجها يرقد ميتا في أحد مستشفيات مصراتة. وعندما أحضرت جثته إلى المخيم، لاحظت «زهرة» وجود علامات التعذيب على جسد زوجها. أصرت «زهرة» على أن جريمة زوجها الوحيدة هي أنه كان من أهالي بلدة تاورغاء. تقول «زهرة» عن زوجها إنه «لم يكن عضوا في الجيش النظامي ولم يشترك في الحرب. لقد اعتقلوه عشوائيا من الشارع بسبب بشرته السوداء».
ومثل «زهرة»، هناك العديد من أبناء بلدة تاورغاء يؤمنون بأن العنصرية تعد أحد الأسباب الرئيسة وراء المحنة التي يواجهونها. ويتحدر سكان تاورغاء من عبيد غرب أفريقيا الذين يتميزون ببشرة داكنة أكثر من غالبية الليبيين. وعلى الرغم من أنهم عاشوا في البلاد على مدى عدة قرون ويتحدثون اللغة العربية ويدينون الإسلام ويعيشون في سلام جنبا إلى جنب مع باقي الليبيين قبل الثورة، فإنهم يعتقدون أنهم قد وضعوا بالتبعية في خانة المرتزقة الأفارقة السود الذين جنّدهم القذافي للقتال إلى جانب جيشه خلال الصراع.
لكن المسألة تبدو أكثر تعقيدا. يقول مبروك ميدويسي، وهو زعيم محلي من تاورغاء: «لقد هتف جميع أبناء تاورغاء (يعيش القذافي!)». وأضاف ميدويسي، الذي كان جالسا في مكتبه الصغير على مشارف المخيم: «جميع أبناء تاورغاء من الفقراء، ولكن عندما سأل القذافي عما نريده، قلنا (نريد أن نراك بصحة جيدة فقط)».
كان القذافي يرى أهل تاورغاء كحلفاء. وقبل بضع سنوات من الثورة، بنت الحكومة 1.500 منزل جديد لأهالي البلدة، وقام القذافي نفسه بزيارة رسمية إلى البلدة في عام 2010. وعندما اندلعت شرارة الثورة، كان أهل تاورغاء سعداء إلى حد كبير باستضافة قوات النظام، حيث كانت النساء يقمن بطهي الطعام لهم، كما انضم الكثير من رجالها للقتال ضد متمردي مصراتة. يقول مبروك ميدويسي «عدّ رجال تاورغاء أنفسهم يحمون البلاد ضد المتمردين والميليشيات المسلحة. غير أن ذلك يبدو مشكلة كبيرة في الوقت الحالي لأنه بسبب انضمام البعض للقذافي، يجري معاقبة أهل تاورغاء بشكل جماعي الآن».

* رواية أخرى
* لكن الكثير من أهل مصراتة يصرون على أن العنصرية ليست هي القضية الأساسية. وفي غرفة معيشة أنيقة في منزل يقع في إحدى ضواحي مصراتة، جلست سميرة وزوجها صالح على أريكة تعلوها صور لابنهم «فؤاد». كان سلاح الـ«آر بي جي» الخاص بفؤاد يستند إلى أحد أركان الغرفة. تقول سميرة «في أحد الأيام، عاد ومعه السلاح وقام بإخفائه وراء الباب، وقد وجدته عندما كنت أقوم بالتنظيف في صباح اليوم التالي. كنت سأشعر بدهشة كبيرة إذا علمت أن فؤاد يستطيع حتى استخدام مسدس صغير قبل الثورة، لكنه أصبح مشهورا بمهاراته في استخدام سلاح (آر بي جي) بعدها. كان الناس يدعونه عندما يريدون التخلص من إحدى دبابات النظام».
عندما بدأت الثورة، ترك فؤاد عمله في مدينة سرت ليعود إلى مسقط رأسه في مصراتة للانضمام للواء الشهداء. وخلال حصار المدينة عندما كانت قوات القذافي تقصف المدنيين المحاصرين وتعمل على تجويعهم، انخرط فؤاد للقتال إلى جانب أصدقائه في الخطوط الأمامية. وعندما اشتد القتال، أصبحت زياراته للمنزل أقصر، وزاد قلق أبويه عليه. وخلال الأيام التي اشتد فيها وطيس القتال، كان صالح يذهب إلى المستشفى لمراجعة قوائم الضحايا الذين سقطوا خلال المعارك.
ويظهر فؤاد مع رفاقه الثوار في إحدى الصور المعلقة فوق الأريكة. يبدو فؤاد وهو يعتمر قبعة صحراوية وقد تدلّت على وجهه، لكنها لم تخف الابتسامة العريضة التي ارتسمت على ملامحه، كما لم تخف حقيقة أنه - مثل كل أهل تاورغاء - يمتلك بشرة داكنة. يقول والده صالح «أهالي بلدة تاورغاء لا يملكون من أمر بشرتهم الداكنة شيئا. هناك الكثير من الناس ذوو بشرة داكنة في مصراتة. ويبدو من الصعب تقبل أولئك الذين يتحملون مسؤولية ما حدث هنا. وحاليا، لا نستطيع العيش في نفس المنطقة تحت اسم أبناء منطقة تاورغاء. إذا عاد أهل تاورغاء إلى بلدتهم، فسوف ينتهي الأمر بقتال شديد بين تاورغاء ومصراتة».
كانت هناك صورة أخرى لفؤاد معروضة في مصراتة. فقد ظهرت الإصابة التي تلقاها في الرأس بجانب مئات آخرين في صور علقت على جدران متحف الثورة في المدينة، وهو مبنى يقع في شارع طرابلس يمتلئ بالأسلحة المستخدمة من قبل المتمردين خلال الثورة، بالإضافة إلى مجموعة من التذكارات من باب العزيزية (مقر إقامة القذافي) بما في ذلك القبضة الشهيرة التي تمسك بطائرة أميركية، وكذلك نصب تذكارية للرجال والنساء الذين فقدوا حياتهم أثناء الصراع.
في الثاني عشر من يونيو (حزيران)، تلقى صالح وسميرة الخبر الذي كانوا يخافون دوما من سماعه: قتل فؤاد في إحدى المعارك وذلك قبل شهرين فقط من نهاية حصار مصراتة. كانت صورته هناك، جنبا إلى جنب مع كل الآخرين.
وكان هناك ركن من أركان المتحف خصص لعدد من أبناء تاورغاء. ولكن هذا لم يكن مكانا لنصب تذكاري - كان لائحة اتهام. كانت الصور هنا صورا للمطلوبين للعدالة، معلقة بجانب قوائم مكتوبة بخط اليد لأسماء أشخاص من تاورغاء، والذين يزعم المصراتيون أنهم ارتكبوا أعمال الاغتصاب المنظم ضد المدنيين. ويقول المصراتيون أيضا إن استخدام الطوارق للاغتصاب كسلاح في الحرب يميزهم عن سكان أي من المدن الأخرى دعمت واستضافت قوات القذافي خلال الثورة، وإن هذه الاتهامات عمّقت من سوء العلاقات بين المجتمعين هنا إلى درجة أن أي مصالحة تبدو، في هذه المرحلة، مستحيلة.

* اعتداءات
* إلى الغرب من تاورغاء، على طريق العودة إلى مصراتة، هناك بلدة أخرى عانت من نفس المصير خلال الثورة. فقد استضاف أبناء مدينة العالم أيضا قوات القذافي أثناء الحصار، وأحرقت البلدة أيضا مع تقدم الثوار. ولكن الأهالي عادوا إلى العالم، وجرى توطينهم مرة أخرى في نفس المنطقة التي كانوا يعيشون فيها في السابق، في صفوف مرتبة من المنازل الجاهزة الجديدة المتطابقة إلى حد كبير مع المساكن الواقعة في تاورغاء المقفرة.
ويوضح أيمن، وهو شاب مصراتي قاتل مع كتائب الشهداء، لماذا جرى التعامل مع اثنين من هذه البلدات المجاورة بشكل مختلف. وقال «هناك أناس اتهموا بارتكاب جرائم اغتصاب في العالم»، لكن هؤلاء الناس جرى تسليمهم وهم في السجن الآن. هناك الكثير من الناس من أبناء مدينة العالم الذين يعملون في مصراتة، ولم تكن هناك أي مشاكل على الإطلاق - والتي هي أيضا سكانها سمر. المشكلة مع أبناء منطقة تاورغاء، الذين رفضوا تسليم أي شخص.
أسفل هذه القشرة الخارجية من السيارات السريعة وموسيقى الهيب هوب والمقاهي، لا تزال ليبيا دولة محافظة إلى حد بعيد. فجريمة الاغتصاب قضية يفضل في كثير من الأحيان السكوت بدلا من الحديث عنها، فالنساء اللاتي جرى الاعتداء عليهن قد يعاملن في كثير من الأحيان كمنبوذات لا ضحايا. فأي امرأة تعرضت للاغتصاب قد تجد صعوبة، إن لم يكن استحالة، في العثور على رجل مستعد أن يتزوجها، فهذه بمثابة وصمة اجتماعية تعني أن ضحايا الاغتصاب يؤثرن في كثير من الأحيان الصمت بدلا من تقديم مهاجميهم إلى العدالة. وقد سعى المحققون بشدة للعثور على نساء في مصراتة يشهدن بأنهن تعرضن للاغتصاب على أيدي رجال من أهالي البلدة أثناء النزاع، لكن هذه الاتهامات لن تكتمل، حتى وإن جرى تسليم الجناة المزعومين للمحاكمة، حيث يصر المصراتيون على أن شعب تاورغاء لن يسمح لهم بالعودة إلى مدينتهم.
وفي الوقت ذاته، يصر أبناء تاورغاء على أنهم لن يرحلوا إلى أي مكان آخر، وأنهم إذا أعيد توطينهم مرة أخرى، فسوف يكون في مكان واحد فقط هو تاورغاء. يقول مبروك ميدويسي: «تقول الحكومة: لا تعودوا مرة أخرى، إذا عدت فسوف تهاجمك قوات مصراتة. الكل هنا يقول إنه سيكون علينا الانتقال إلى مكان آخر. ولكن كل ما أريد القيام به هو العودة. كيف يمكن أن أومن بهذه الثورة إذا بقيت خارج بيتي؟!».
تحولت قضية تاورغاء إلى إحدى أكثر القضايا الشائكة التي تواجه وزير العدل الليبي صلاح الميرغني. على الرغم من أن الصراع في ليبيا كان قصيرا نسبيا، فإن الانقسامات بين أبناء ليبيا ينبغي أن تلتئم حتى تتمكن البلاد من المضي قدما وتصبح ديمقراطية موحدة وفاعلة. وقال الميرغني: «ضحايا الاغتصاب هم مصدر الكراهية في هذا المجتمع. فالأمور تمضي على ما يرام إلى أن يجري التطرق إلى هذه القضية، وحينها تشعر أنك قد اصطدمت بحائط».
يعترف الميرغني بأن حكومة المؤتمر الوطني العام الانتقالية كانت بطيئة في معالجة هذه المسألة، على الرغم من أنه من المعروف أن الاغتصاب كان سلاحا أجاز النظام استخدامه خلال الثورة. وحدد القرار الصادر عن وزارة العدل الأسبوع الماضي الخطوط العريضة لعدد من الخيارات في مساعدة الضحايا في هذا المجتمع الإسلامي المحافظ للاعتراف بهن والخروج من محنتهن. أحد الاقتراحات هو تقديم المال لآباء الضحايا للحج، وبالتالي تحسين وضعهم الاجتماعي وزيادة فرص بناتهم الضحايا في العثور على أزواج. وقال الميرغني: «ينبغي علينا معالجة هاتين القضيتين في آن واحد وألا نتحدث عن أبناء تاورغاء فقط لأن مصراتة عانت أيضا الكثير خلال الثورة. ليس لدينا خبرة في التعامل مع حالات الاغتصاب الجماعي، حتى خلال الحقبة الاستعمارية، ويمكنك أن ترى مدى صعوبة التعامل معها. ولكن الضحايا يتعرضن للإهمال وهو ما يغذي الرغبة في الانتقام».
وربما يبدو أن ميليشيات مصراتة تقدمت في نهاية الأمر لملء الفراغ الذي تركه نظام العدالة المتعثر في ليبيا. وقد جرى القبض على مئات الرجال من أهالي تاورغاء وزج بهم في سجون يديرها المتمردون من دون خضوعهم لأي محاكمات أو حتى السماح لهم بتوكيل محامين للدفاع عنهم.
يزعم «محمد»، وهو رجل في منتصف العمر، أنه ليس لديه فكرة عن سبب احتجازه في أحد مراكز الاعتقال في مصراتة، كما لا يعرف متى سيجري إطلاق سراحه. وكان محمد قد نجا من الفوضى التي اجتاحت تاورغاء وكان يعمل في أحد البنوك في طرابلس عندما ألقى القبض عليه اثنان من الجنود من مصراتة في سبتمبر (أيلول) 2011. يقول محمد: «جاءوا إلى مكتبي وسألوني عما إذا كنت من أهالي تاورغاء، فأجبت بنعم، فقالوا لي إنه عليّ الذهاب معهم للإجابة عن بعض الأسئلة، وبعد ذلك سيطلقون سراحي. لكنني ما زلت أقبع هنا». ويشير محمد إلى أنه لم يشارك في القتال، مضيفا: «أنا لا أعرف ما هي التهمة الموجهة لي بالضبط. الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني من أهل تاورغاء».
وبالعودة مرة أخرى إلى المخيم، الذي يقيم فيه نازحو تاورغاء، يؤكد مبروك على وجهة نظره أن «المشكلة هي أن أهل مصراتة لديهم العديد من أشرطة الفيديو التي تظهر أن جميع من جاء إلى مصراتة من جيش القذافي يمتلك بشرة داكنة. لذلك عندما تقول نساء مصراتة إن رجالا ذوي بشرة داكنة اعتدوا عليهن، فإن الجميع يقول ببساطة إن هؤلاء المعتدين من أهالي تاورغاء». غير أنه بدأت تظهر في الأفق علامات - وإن كانت قليلة - على قرب التوصل إلى مصالحة. يقول الميرغني إن هناك قضايا يجري الإعداد لتحريكها ضد 38 شخصية رفيعة المستوى من نظام القذافي متهمين بالتحريض وتنظيم عمليات اعتداء جماعية ضد المدنيين خلال الثورة. غير أنه سيكون من الصعب رفع دعاوى ضد الأفراد الذين نفذوا عمليات الاعتداء تلك، ولكن حتى يحدث ذلك ستبقى تاورغاء بقعة سوداء في ليبيا الجديدة.



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.