«بريك لاين».. قارتان و3 أديان في شارع

شرق لندن كان في الماضي القسم المنسي من العاصمة، ولا تزال هناك مناطق كثيرة في ذلك القسم لا تشبه غرب العاصمة، إلا أن دورة الألعاب الأولمبية عام 2012 رسمت خريطة جديدة لشرق لندن وأعطته زخما ووضعته في الواجهة بعدما اختيرت منطقة «استراتفورد» لتحتضن المدينة الأولمبية، وهذه المنطقة كانت في الماضي من أكثر مناطق لندن فقرا ولم تكن الحكومة تعيرها اهتماما يذكر، وأذكر خلال زيارة خاصة أثناء بناء المدينة الأولمبية حين أخبرنا المسؤول عن إنشاء المدينة التي تشقها قناة ماء، كيف اضطروا إلى تمضية أكثر من عامين في تنظيف تلك القناة لأنها كانت بمثابة مكب للنفايات لدرجة أنهم استخرجوا منها سيارات كانت مرمية في قعرها.
ولم تكن «استراتفورد» بهيئتها الجديدة ومركزها التجاري الضخم. ومحطة القطارات الحديثة فيها المستفيد الأول من التغيير الذي طرأ على شرق لندن، لا بل يمكن القول إن «منطقة (شورديتش) ارتقت إلى مستوى عال وأصبحت من أهم المناطق اللندنية وأغلاها من حيث أسعار العقار نسبة لقربها من وسط المدينة التجاري ومركز المال والأعمال والمصارف العالمية، والتحول السريع الذي طرأ على أشهر شوارعها المعروف باسم (بريك لاين)».

شارع وتاريخ غني

يعد هذا الشارع بمثابة مدينة، لا بل بمثابة تاريخ يشهد على مئات السنين من التطور والتغير، تصل إليه عن طريق القطار وأقرب محطة هي «شورديتش هاي ستريت» أو «أولدغيت إيست» أو «ليفربول ستريت» ولكن المحطة الأولى، وهي الأجدد، الأقرب إليه.
بدأت قصة هذا الشارع في القرن الخامس عشر عندما كان يضم مصنعا للحجارة (من هنا جاءت تسميته)، وشهد القرن السابع عشر قدوم المهاجرين اليهود، ومعهم بدأ أول سوق للخضراوات والفاكهة، وبعدها تحول الشارع إلى مركز للنسيج والخياطة في محيط «سبيتافيلدز» التي ظلت مرتعا للمهاجرين الباحثين عن فرص للعمل في مصانعها.
واستمر المهاجرون اليهود بالمجيء إلى «بريك لاين» حتى القرن التاسع عشر، وبدأت معهم الأسواق المفتوحة في الشارع ولا تزال موجودة حتى يومنا هذا، وتقام أيام الآحاد في «بيتيكوت لاين» و«كولومبيا رود».
تغيرت ديموغرافية المنطقة بحلول القرن العشرين عندما بدأت تتحول هوية «بريك لاين» لشيء شبهه البعض بـ«بنغلاديش الصغيرة» أو «بنغلاتاون» بسبب تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين البنغلاديشيين، ولم تكن جنسية سكان المنطقة والشارع، الوحيدة التي بدأت في التغير، لأن الأديان أيضا تبدل زخم وجودها، فمع المهاجرين اليهود بني السينيغوك الأول لطائفة «الأشكناز» وبعدها نشرت الكنيسة الميثودية دينها، ومع مجيء البنغلاديشيين بني أول مسجد في شرق لندن.
واليوم، تبدل المشهد ولم يعد «بريك لاين» مرفأ المهاجرين الآسيويين، غير أن الشيء الوحيد الذي ورثه الشارع وجود أهم المطاعم الهندية في المدينة، ويقصدها سكان العاصمة من جميع أنحائها.

من بنغلاديش إلى بانكسي

مر الشارع بعدة حقبات وتوالى على سكنه كثير من المهاجرين من مختلف الجنسيات والأديان، تبدل اليوم ولبس حلة جديدة عصرية وفنية، وأصبح مركزا للمعارض الفنية بشتى أشكالها، عندما تزوره تتنشق الفن وتتلمسه من خلال فن الغرافيتي الذي يزين الجدران، حيث لم يبخل الفنان بانكسي بتقديم أعماله في المنطقة، واللافت أن الشارع لا يزال على حاله، فلا يزال يوجد مخبز «بيغل» Beigel الأشهر الذي بدأ مع مهاجر يهودي، والذي يفتح أبوابه يوميا على مدار الساعة.

أسواق شعبية

ولا تزال السوق الشعبية تزين الشارع كل يوم أحد، ولكنه ركب الموجة العصرية وأصبح يعانق المحلات والبوتيكات الجميلة المتراصة على جانبه. وقد تكون زيارة «بريك لاين» يوم الأحد من أهم ما يمكن أن تفعله في لندن وبجميع الفصول، فالأمطار لا تقف في وجه السياح واللندنيين الباحثين عن التبضع «الغريب» بحيث تنتشر بسطات بيع القطع المستعملة «الفينتاتج»، وغيرها من الملبوسات العصرية الجديدة، بالإضافة إلى بيع جميع أنواع المأكولات المتوفرة حول العالم، من مأكولات لبنانية إلى برازيلية ومكسيكية.. إضافة إلى بسطات لبيع جميع أنواع العصائر والفاكهة، وسيارة تاكسي إنجليزية سوداء تقليدية تم تحويلها إلى مقهى لبيع القهوة، كل هذا على وقع الموسيقى التي تصدح في كل مكان.. سيارات مركونة إلى جانب الطريق يقدم اصحابها عرضا موسيقيا مع فرقتهم، وفرقة أفريقية أخرى تعزف على أوتار أجمل الآلات.. وأزقة صغيرة تأخذك إلى ما يعرف باسم «بروري» حيث تنتشر المعارض الفنية التي تستضيف أهم الأعمال للفنانين المعروفين والصاعدين على مدار أيام السنة.
تفتح السوق الشعبية بسطاتها من التاسعة صباحا وحتى الساعة الخامسة بعد الظهر، ولكن عندما يذهب الباعة فهذا لا يعني أنه حان وقت الذهاب، لأن الشارع نابض ولا يعرف معنى التثاؤب، فتنتشر فيه كثير من المقاهي والمطاعم وحتى أماكن مخصصة لتدخين الشيشة. وعندما تمر بالقرب من المطاعم الهندية وعلى رأسها مطعم «طيب» الأشهر تشدك هتافات العاملين في المطاعم الذين يتنافسون فيما بينهم على جذب الزبائن، فتشعر للحظة أنك في أحد شوارع «مومباي» أو «بنغالور».

خلطة إثنية مميزة

أجمل ما في «بريك لاين» الخلطة، وأعني هنا الخلطة الإثنية للزوار والعاملين والمارة والسياح، فهي أشبه ببوتقة تنصهر فيها الإثنيات لتصبح خلطة واحدة متجانسة، حيث تشتري من الهندي العصير، وبعد ذلك تشتري من النيبالي شالات الصوف، وتشتري الأنتيكات من الإنجليزي الأبيض، وتستمع إلى موسيقى البريطاني الأسود.. وترى فيها جميع الفئات العمرية.. الشباب يأتون للتمتع بالفن المعاصر، والأكبر سنا يأتون للتمتع بتاريخ هذا الشارع، المتسوقون يأتون لشراء الجلود الطبيعية وقطع الملابس الفريدة، والذواقة يأتون لتذوق أكل الشارع Street Food من دون أن ننسى الذين يأتون خصيصا وفي جميع الأوقات لتذوق «بيغل السولت بيف» Salt beef Bagel في مخبز «Beigel» الأقدم والأشهر.

شورديتش

وإذا كان هذا الكم الهائل من النشاطات المتوفرة في شارع «بريك لاين» غير كاف، فيمكنك الخروج منه باتجاه منطقة «شورديتش» للانتقال إلى عالم آخر من المقاهي العصرية، التي تذكرك بالبلدان المتوسطية، ويمكنك أن تعرج على فندق «ذا باوندري» The Boundary لتتذوق الشاي الإنجليزي في مطعم «ألبيون» Albion أو التوجه إلى التراس في الطابق الأخير من الفندق لتلقي نظرة على المباني العملاقة في وسط لندن التجاري الآخذ في التوسع والتحسن.

سوق الزهور

وفي صباح لندن باكرا من يوم الأحد لا شيء يضاهي زيارة سوق «كولومبيا رود» المتخصصة في بيع الشتول والزهور، فزيارة هذا المكان غير عادية، حيث الباعة يتوزعون على طول الشارع، يبيعون أبهى وأجمل الزهور والأشجار بأسعار تنافسية، وتوجد مقاه صغيرة تصطف جنبا إلى جنب تبيع القهوة والحلويات، وحتى سكان الشارع يشاركون في بيع السكريات من خلال وضع لافتة خارج نوافذهم ويبيعون الحلوى والقهوة وهم في لباس النوم. المشهد أكثر من رائع ويكفي أن صباحك يبدأ بتنشق عطر الورود الفواحة.