مكافحة الإرهاب في أوروبا.. والتحديات الصعبة

خبراء لـ«الشرق الأوسط»: أبرزها حماية البيانات الشخصية ومكافحة تهريب الأسلحة والتصدي للقرصنة الإلكترونية

ضابطان من الشرطة الفرنسية خارج قطار تاليس الذي تعرض لهجوم إرهابي من قبل شاب مغربي متشدد أغسطس الماضي ({الشرق الأوسط})
ضابطان من الشرطة الفرنسية خارج قطار تاليس الذي تعرض لهجوم إرهابي من قبل شاب مغربي متشدد أغسطس الماضي ({الشرق الأوسط})
TT

مكافحة الإرهاب في أوروبا.. والتحديات الصعبة

ضابطان من الشرطة الفرنسية خارج قطار تاليس الذي تعرض لهجوم إرهابي من قبل شاب مغربي متشدد أغسطس الماضي ({الشرق الأوسط})
ضابطان من الشرطة الفرنسية خارج قطار تاليس الذي تعرض لهجوم إرهابي من قبل شاب مغربي متشدد أغسطس الماضي ({الشرق الأوسط})

أصبح وجود نظام أوروبي حاسم لمكافحة الإرهاب أقرب إلى الواقع أكثر من قبل، وذلك بعد أن صوت أعضاء لجنة الحريات المدنية في البرلمان الأوروبي قبل أسابيع قليلة لصالح مقترحات أعدها البرلماني البريطاني تيموثي كيرخوبي، وتتعلق باستخدام سجلات المسافرين في الاتحاد الأوروبي.
هذا على الصعيد الأوروبي، أما في ما يتعلق بتبادل البيانات الشخصية للمواطنين الأوروبيين مع أطراف خارجية ومنها الولايات المتحدة الأميركية في إطار مكافحة الإرهاب، فيبدو أن الأمر مختلف من وجهة نظر كثير من الخبراء في بروكسل في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أكدوا فيها على أن الأمر يواجه عراقيل لعل آخرها الحكم الذي صدر من المحكمة الأوروبية للعدل وتتيح للدول الأعضاء في الاتحاد الحق في تعليق نقل البيانات إلى الطرف الأميركي.
يقول فردريك بلاتو الخبير البلجيكي لـ«الشرق الأوسط»: «بصرف النظر عن وجود هذا الاختلاف بين الأمرين، تواجه عملية مكافحة الإرهاب عراقيل أخرى تتمثل في التجارة غير الشرعية للأسلحة النارية، وأيضًا عمليات القرصنة على الإنترنت واختراق مواقع حكومية قد تتضمن معلومات هامة أمنية أو دفاعية أو غيرها».
وفي ما يتعلق بالسماح أوروبيا باستخدام سجلات سفر المواطنين الأوروبيين، قالت مجموعة المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين في البرلمان الأوروبي إن الاقتراح الأصلي سبق أن رفضه أعضاء البرلمان في 2013، وطالبوا بمواصلة العمل للتوصل إلى اتفاق حول هذا الصدد، وخصوصا في أعقاب التهديد الذي شكله ما أطلق عليهم «المقاتلون الأجانب»، ومخاوف من عودتهم إلى أوروبا من سوريا والعراق.
وقال بيان للكتلة البرلمانية للإصلاحيين والمحافظين الأوروبيين إن نظام سجلات الركاب يسمح بتخزين المعلومات من قبل السلطات، وخصوصا في ما يتعلق بأنماط السلوك، التي تشير إلى وجود سلوك إرهابي أو إجرامي مما يسمح لسلطات إنفاذ القانون بالاعتماد على مثل هذه المعلومات، لمساعدتها في مواجهة التهديدات. ويسمح النظام الجديد بالاحتفاظ بجزء من بيانات الركاب لفترات تصل إلى خمس سنوات في قضايا ذات صلة بالإرهاب وتصل إلى أربع سنوات في الجرائم الخطيرة، مع ضمانات بأن يتم حذف البيانات الحساسة في غضون 30 يوما، هذا إلى جانب ضمانات إضافية لحماية البيانات الشخصية. وجرى تعزيز ذلك من خلال مفاوضات مع المجموعات السياسية داخل البرلمان الأوروبي، كما جرى التوصل إلى اتفاق لحذف الرحلات الداخلية من الاقتراح.
وقال تيموثي كيرخوبي، وهو وزير داخلية بريطاني سابق: «إن نظام البيانات الشخصية ساهم في الفترة الماضية في اكتشاف كثير من الجرائم الخطيرة في الدول الأعضاء، ومنها على سبيل المثال كشف السلطات البلجيكية لـ95 في المائة من قضايا المخدرات، كما ساعد السلطات في السويد على الكشف عن 85 في المائة من جرائم خطيرة، ولكن كان لا بد من نظام لحماية البيانات الشخصية، ويسمح باستخدام التفاصيل الأقل حساسية، واستخدامها بطريقة منتظمة بناء على أنماط السلوك، ومع مرور الوقت يمكن تقليل استخدام البيانات التي تتعلق بالرحلات والركاب»، وأضاف أنه من دون هذا النظام ستعمل دول في الاتحاد الأوروبي بشكل منفرد، وتكون هناك أنظمة خاصة لكل دولة، مما يتسبب في ثغرات، «ولهذا كان لا بد من نظام واحد على المستوى الأوروبي، وإنشاء نهج مشترك لحماية البيانات، مع وجود معايير عالية لضمان حماية البيانات في جميع أنحاء أوروبا».
وأضاف البرلماني الأوروبي بأن التهديد الذي يشكله ما يعرف بملف المقاتلين الأجانب سوف يقل خطره مع استخدام النظام الجديد، لأنه سيجعل الأمر أكثر صعوبة للمقاتلين الأجانب في طريق العودة إلى أوروبا، على الأقل من خلال المطارات الأوروبية. واختتم البيان بالقول إن نظام استخدام البيانات الشخصية للمسافرين في الاتحاد الأوروبي لا يجب النظر إليه على أنه العصا السحرية، ولكن يمكن أن يكون سلاحا إلى جانب أمور أخرى. وسوف تنطلق محادثات مفتوحة الآن مع الحكومات الوطنية، بهدف التوصل إلى اتفاق نهائي قبل نهاية العام الحالي، حسب ما جرى الإعلان عنه في البرلمان الأوروبي.
وفي الأسبوع الماضي وافق المجلس الوزاري الأوروبي على إطلاق مفاوضات مع البرلمان الأوروبي، وتحت إشراف الرئاسة الدورية الحالية للاتحاد الأوروبي، حول حماية البيانات الشخصية للمواطنين، التي تستخدم من قبل رجال الشرطة والقضاء في إطار عمل مشترك، لإجراء تحريات أو تقصٍّ أو ملاحقة، تهدف إلى تفادي أي مخاطر قد تهدد الأمن العام. وقال المجلس الوزاري الأوروبي في بروكسل، الذي يمثل الدول الأعضاء، إن هذا الاتفاق حول الخطوط الأساسية لنقاط التفاوض مع البرلمان يفتح الطريق أمام الرئاسة اللوكسمبورغية الحالية للاتحاد لفتح نقاش مع المؤسسة التشريعية الأوروبية حول هذا الجزء من حزمة حماية البيانات. أما في ما يتعلق بالجزء الخاص بتنظيم حماية البيانات فقد بدأت بالفعل المناقشات مع البرلمان الأوروبي بعد أن أقرها المجلس الوزاري الأوروبي في منتصف يونيو (حزيران) الماضي، ولا تزال المناقشات جارية.
أما في ما يتعلق بالبيانات الشخصية للمواطنين الأوروبيين وتبادلها مع أطراف خارجية، فقبل أيام قليلة قال البرلمان الأوروبي إن نظام الملاذ الآمن الذي ينظم نقل البيانات الشخصية الأوروبية إلى الولايات المتحدة الأميركية يجب أن يتم تعليقه بشكل فوري. وجاء ذلك على لسان كلود مورايس رئيس لجنة الحريات المدنية والعدل في البرلمان الأوروبي، الذي أضاف بأن أعضاء البرلمان يريدون أيضًا وجود قواعد أوروبية جديدة لحماية البيانات، ولضمان حقوق وخصوصية المواطنين الأوروبيين.
ومن جانبها قالت كورنيليا إرنست مسؤولة ملف حماية البيانات الشخصية والشؤون الداخلية في تكتل أحزاب اليسار والخضر في البرلمان الأوروبي، عقب قرار حول هذا الصدد لمحكمة العدل الأوروبية، إنه يوم جيد للحقوق الأساسية في الاتحاد الأوروبي، ويفتح آفاقا جديدة. وأضافت في بيان تلقت «الشرق الأوسط» نسخة منه أن قرار المحكمة يعتبر هزيمة للمفوضية الأوروبية، وهي الجهاز التنفيذي للاتحاد، وهي التي تفاوضت مع واشنطن حول الاتفاق الملغى.
وجاء ذلك بعد أن قضت محكمة العدل الأوروبية بأن الدول الأعضاء في التكتل الأوروبي الموحد يمكن لها أن تقرر إذا ما كانت تريد تعليق نقل البيانات الشخصية إلى الشركات الأميركية، وعلاوة على ذلك فإن قواعد نظام الحماية أو ما يعرف باسم الملاذ الآمن، الذي توصلت المفوضية الأوروبية إلى اتفاق بشأنه مع الولايات المتحدة في عام 2000، هو نظام غير صالح. وهو الاتفاق الذي جاء في إطار العمل المشترك على طريق مكافحة الإرهاب وتجفيف منابع تمويله. ورحب مورايس بقرار المحكمة، وعلق قائلا: «أخيرا هناك من استمع إلى دعوات البرلمان الأوروبي من أجل تعليق هذا النظام الذي لا يتفق مع القوانين الأوروبية التي تتعلق بحماية البيانات».
وقال مورايس إن نظام الملاذ الآمن لم يوفر الحماية والضمانات الكافية، ولمح إلى أن القوانين الأوروبية توفر وبشكل أكبر نظام الحماية للبيانات الشخصية، كما أدان مورايس استخدام البيانات الشخصية من جانب أجهزة الاستخبارات. وقال نواب البرلمان الأوروبي: «ينبغي الآن التحرك من جانب المفوضية الأوروبية نحو إطار بديل لنظام الملاذ الآمن بحيث يتم التأكد من الحماية من عمليات نقل البيانات الشخصية إلى الشركات الأميركية وفقا لقوانين الاتحاد الأوروبي». وأضاف بأن المفوضية الأوروبية كانت قد أجرت مفاوضات لمدة عام مع واشنطن حول مسألة تعديل نظام حماية البيانات الشخصية، ولكن تجمد الأمر ولم يتم الإعلان عن تحقيق أي تقدم في هذا الصدد.
أما في ما يتعلق بمكافحة تهريب الأسلحة النارية فقد اتفق مجلس وزراء الداخلية والعدل في الاتحاد الأوروبي على زيادة التعاون، وتعزيز استخدام وسائل مواجهة تهريب الأسلحة النارية لمكافحة «الإرهاب». وأشاروا في بيان صدر في ختام الاجتماعات الجمعة الماضي في لوكسمبورغ إلى أن الهجمات الإرهابية في كل من باريس وبروكسل وكوبنهاغن في وقت سابق من هذا العام، وكذا الهجوم الأخير على قطار تاليس الذي تم إحباطه في 21 أغسطس (آب) 2015، قد أظهرت الحاجة إلى مواصلة تعزيز استخدام وسائل مكافحة تهريب الأسلحة النارية.
ومن جهته قال وزير الداخلية والدفاع في لوكسمبورغ اتيان شنايدر في مؤتمر صحافي: «جرى تبادل المعلومات بين الدول الأعضاء وفي وكالة الشرطة الأوروبية (يوروبول) والشرطة الدولية (إنتربول) وتم الاتفاق على تعزيز التعاون». وأضاف أن «الوكالات تبحث في قابلية التشغيل البيني للأنظمة المختلفة وعلى وجه الخصوص في قواعد بيانات اليوروبول والإنتربول.. وسنركز أيضًا أكثر على التدابير اللازمة لمكافحة الاتجار غير المشروع في الأسلحة النارية في شبكة الإنترنت».
وفي ما يتعلق بالقرصنة على الإنترنت واختراق مواقع حكومية في دول الاتحاد الأوروبي وأيضًا مواقع إعلامية، والخطير في الأمر هو إعلان أشخاص من أنصار تنظيم داعش مسؤوليتهم عن عمليات القرصنة والاختراق، فقد قالت المفوضية الأوروبية في بروكسل إنه عقب هجوم الإنترنت الذي تم شنه على الحاسوب المركزي لشبكة «تي في 5 موند» التلفزيونية الفرنسية، والذي تبناه مساندون لتنظيم داعش، يتحقق الجهاز التنفيذي للاتحاد الأوروبي حاليا مما إذا كان قد تمت مهاجمة شبكة أخرى في أوروبا أم لا، وفقا لتصريحات نشرتها صحيفة ألمانية على لسان غونتر أوتينغر مفوض الأجندة الرقمية.
يأتي ذلك بينما اعتبر الخبير البلجيكي في أمن المعلومات جان جاك كيسكواتر أن عملية القرصنة التي تعرضت لها محطة التلفزيون الفرنسي (تي في 5) تعد مؤشرًا لعمليات أخرى قادمة أكثر خطورة، حسب تصريحاته لإذاعة محلية. وقبلها عبرت المفوضية الأوروبية عن تصميمها الاستمرار في العمل من أجل الدفاع عن وسائل الإعلام وحرية التعبير ومحاربة كل أشكال الجريمة والإرهاب، خصوصا على شبكة الإنترنت. وقالت: «ليس لدينا تعليق خاص، سوى أننا سنستمر في محاربة كل أشكال القرصنة والجريمة عبر الإنترنت»، وفق كلام المتحدثة باسم الجهاز التنفيذي الأوروبي ناتاشا برتود. وأوضحت المتحدثة أن المفوضية تقدمت باقتراحات لتعزيز إجراءات الأمن المعلوماتي، مشيرة إلى المداولات الجارية في هذا الشأن بين البرلمان والدول الأعضاء.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.