تحتضن إمارة الشارقة في متحفها معرض «البعد الإنساني في رسوم جبرانية»، لأعمال الفنان والأديب المعروف عالميًا جبران خليل جبران (1883 - 1931) في أكبر مجموعة من لوحاته ورسوماته، نحو 30 لوحة، ويعود عمرها لأكثر من مائة عام، تُعرض للمرة الأولى في الإمارات العربية المتحدة، افتتحه الشيخ خالد بن عبد الله بن سلطان القاسمي، رئيس دائرة الموانئ البحرية والجمارك في الشارقة، ويستمر المعرض من 7 أكتوبر (تشرين الأول) إلى 10 ديسمبر (كانون الأول) حيث أُقيم بالتعاون مع لجنة جبران الوطنية في لبنان، وحضر الافتتاح نخبة من المسؤولين والمثقفين، منهم جوزيف جعجع مدير متحف جبران، وطارق الشدياق، رئيس لجنة جبران الوطنية، ومنال عطايا، مدير عام إدارة متاحف الشارقة وغيرهم.
من المعروف أن لوحات جبران خليل جبران ورسوماته عُرضت في متاحف كثيرة في الكثير من عواصم العالم، من بلدته بشري في لبنان إلى أكاديمية تيلفير في جورجيا، وبوسطن وباريس. هذه التشكيلة من اللوحات المعروضة، وهي زيتية ومائية، مرسومة ببراعة باستخدام الفحم على الورق وقماش «الكانفس» بالإضافة إلى عرضِ مخطوطات ودفاتر تعود كتبها أثناء حياته بكل دأب ومثابرة. وتُظهر الأعمال مزيجًا من التأثيرات العربية والغربية في فن جبران ومن بينها تبرز لوحة مائية من عام 1916 بعنوان «وجه امرأة مُحجبة»، و«صورة شخصية» له مرسومة بالفحم من عام 1908، ولوحة «موناليزا الحزينة» 1910. تتنوّع الموضوعات الفنية التي عالجها، ولكنها جميعًا تحمل بصمة واحدة، روحانية اللوحة وصوفيتها وبعدها الإنساني. وهنا نجد ذلك التوليف الجدلي بين ما كتبه جبران وما رسمه، لأن الكلمة واللون، صادرتان عن روح واحدة، شهدت العذابات الأرضية، فلاذت إلى الروحانيات الغامضة.
يُعتبر معرض «البعد الإنساني في رسوم جبرانية» الأول من نوعه في الإمارات، وهو في حقيقة الأمر، جهد إماراتي ولبناني مشترك، ولولا هذا التعاون لما تمّ تحقيق هذا المعرض. منال عطايا، مدير عام إدارة متاحف الشارقة قالت لـ«الشرق الأوسط»: «نحن فخورون باستضافة هذا المعرض الرائع الذي يتيح للزوار فرصة استثنائية للتعرف على جانب فني هام لأحد أهم الفنانين والمفكرين في العالم العربي»، مضيفة: «ساهم تعاوننا مع لجنة جبران الوطنية في لبنان في افتتاح هذا المعرض المرموق والأول من نوعه في دولة الإمارات والذي يؤكد على الدور المتنامي لمتحف الشارقة للفنون كوجهة بارزة لاستضافة معرض على هذه الدرجة من الأهمية، كما يعزز اسم إمارة الشارقة كمركز للفن والثقافة والسياحة في المنطقة».
بدوره قال الدكتور طارق شدياق، رئيس لجنة جبران الوطنية: «أضحت إمارة الشارقة مركزًا ثقافيًا بالغ الأهمية لما تتمتع به من تراث غني ولكونها وجهة رئيسية تستضيف أهم المعارض الفنية التقليدية والمعاصرة في منطقة الشرق الأوسط والعالم على حد سواء، لهذا كان من الطبيعي أن يقع اختيارنا عليها من أجل استضافة معرض يعرّف الزائرين على أعمال واحد من أبرز الفنانين والأدباء».
رسم 526 لوحة
لا بد من سرد تاريخ الرسم في حياة جبران خليل جبران كما تشير المقالات والكتب أنه ترك 526 لوحة، ورثتها صديقته وزوجته ماري هاسكل، التي كانت تساعده وتموّله في المهجر، وخيرها بين الاحتفاظ بها أو إرسالها إلى بلدته ومسقط رأسه بشري كما ورد في مذكراتها التي نشرت بعد رحيله. وقد احتفظت ماري هاسكل بـ84 لوحة ورسمة، لتفتح متحفًا خاصًا حمل اسمه في متحف «تيل فير» في مدينة سافانا بولاية جورجيا الأميركية وأرسلت 442 لوحة ورسمًا إلى بلدته بشري إلا أن لوحاته في لبنان لم ترَ النور إلا في خريف 2003 أي في الذكرى العشرين بعد المائة لولادته. وكانت هي من ساهم في تفتحه الفكري والفني وقد أرسلته إلى باريس في 1908 لدراسة فن الرسم، حيث التحق بأكاديمية جوليان، وزار قصر فيرساي، ثم أعجب بلوحة «الموناليزا»، ليبدأ بعدها رحلة جديدة في فن الرسم وهي رسم المشاهير، وقراءة الأدباء الإنجليز والفرنسيين والألمان. وشارك في معرض «الربيع» بلوحة أطلق عليها «الخريف» نال عليها الميدالية الفضية، ثم عاد إلى بوسطن بعد مرور عامين ليتزوج من صديقته.
بورتريهات وكبار الرسامين
بدأ جبران خليل جبران هاويًا للرسم وأصبح محترفًا منذ عام 1911 إذ شهدت لوحاته رواجًا مميزًا، وبدأ عشاق الفن يقبلون على اقتنائها وشرائها ما دفعه إلى الانتقال إلى نيويورك، ولم يفارق الرسم حتى ساعة رحيله. وقد رسم بورتريهات المشاهير أمثال: ساره برناره، راسل لوفليان، ويونغ.
استخدم جبران خليل جبران الرسم بالرصاص والفحم وأقلام التلوين منذ عمر السادسة أو السابعة إلى حين انتقاله إلى الرسم بالزيت في سنوات النضج، ثم انتقل إلى استيحاء الطبيعة والوجود، وعناصرها المتلاحمة، وما يخفيه من أحاسيس وراء الخطوط والألوان والأشكال والأضواء وآلام الوجه والروح كما تشرحها اللوحات المعروضة. ويلاحظ النقاد أنه تأثر برؤى كبار الفنانين أمثال: رودان واوجين كارتيه وليوناردو دافنشي وبونيس دي شافال والفن اليوناني، منطلقًا نحو فضاءات صوفية وروحية، تطغى عليها عناصر اللون الداكن والغامق والمظلم أحيانًا.
بين الكلمة واللوحة
تكشف لنا اللوحات الثلاثون المعروضة حاليًا أن جبران الرسام يرتبط بجبران الكاتب بصورة جدلية، فقد كان يمزج بين كتابة المقالات التأملية الفلسفية ولوحاته ويعكف على رسم أغلفة الكتب والدواوين الشعرية وغيرها، وفي كل ذلك يسعى للتعبير عن ذات الفنان. وتحمل هذه اللوحات دلالات عميقة وتساؤلات وجودية عن الإنسانية والكينونة، معبّرًا عنها بالألوان والفرشاة على القماش بالرصاص والفحم والطبشور القرميدي والاكواريل، ومزيج من المواد اللونية والخصائص التشكيلية من أجل أن ينتج ألوانًا باهتة كئيبة وزاهية مبتهجة في آن واحد، وهي تعبيرات داخلية ونفسية تعجُ بها لوحاته صارخة تارة ومسترخية تارة أخرى.
يذهب نقاد الفن إلى أن الشكل الفني عند جبران خليل جبران يخرج عن أي مقاييس مدرسية كلاسيكية معينة، لكنها تربط بين المدارس الفنية جميعها دون انتقاء، تاركًا بصمات واضحة المعالم في عالم اللون، وذلك نابع من إصراره على تجسيد عالمه الداخلي من دون الانصياع لأي قوالب جاهزة، لذلك نجد ظهور الماورائيات والأساطير والملامح الإنسانية والهموم الفلسفية، كأنه الساحر الذي يسير بين الكلمات واللوحات بروح الكلمة والفرشاة، القلم واللون، والقماشة والورق، ولا يجد أي فرق بين هذه الأشياء. لذلك تتميز لوحاته ورسوماته بالتفاعل مع حياة الإنسان، ونبضاته، وعواطفه، وأحاسيسه.
أعمال كلاسيكية ساطعة بالحركة، وتصوير دقيق للإنسان المثالي بروحانيته العالية، ما بين العوالم المادية والروحية والطبيعية في أسلوب قائم على استخدام الخطوط العريضة، صامتة وغامضة، في ثنايا اللوحة. وبرع في تشكيل الألوان المائية وفرشها على اللوحة، بأصابع ماهرة، وذهنية نيّرة. وقد ترك بعد رحيله مجموعة واسعة من اللوحات والأعمال الأدبية التي تُعّد كنزًا قيمًا للأدب والفن يعكس أفكاره وتصوراته.
30 لوحة لجبران عمرها أكثر من مائة عام في متحف الشارقة
من بينها لوحة {وجه أمرأة محجبة} و{موناليزا الحزينة}
30 لوحة لجبران عمرها أكثر من مائة عام في متحف الشارقة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة