المسكيني: المثقفون العرب غرقوا في تأبين جثة الماضي دون قدرة حقيقية على الحداد!

الفيلسوف التونسي أكد أن مهمة الفلسفة هي تقديم هوية إنسانية كونية

فتحي المسكيني - غلاف الكتاب
فتحي المسكيني - غلاف الكتاب
TT

المسكيني: المثقفون العرب غرقوا في تأبين جثة الماضي دون قدرة حقيقية على الحداد!

فتحي المسكيني - غلاف الكتاب
فتحي المسكيني - غلاف الكتاب

لا يفتأ المفكر التونسي فتحي المسكيني أن يوجه سهام نقد قلمه اللاذع نحو الهوية التي صنعتها الدولة القومية الحديثة، منخرطا في رحلة عميقة لا يكل صاحبها عن التأمل والتساؤل والبحث عن تلك الذات المتجردة من الرواسب ذات الهوية الموروثة المتراكمة!
أستاذ الفلسفة بجامعة تونس يقرر بوضوح قاطع كما في كتابه «الكوجيطو المجروح.. أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة» أن الهوية «اختراع ثقافي خطير، طورته كل الثقافات وبخاصة تلك التي لم تعد تمتلك كنزا خلفيا أو مخزونا احتياطيا لنفسها غير حراسة الانتماء بواسطة الذاكرة الممنوعة من التفكير»، ولذلك ينادي ويدعو دائما إلى أن تكون (الحرية أولا) «حرية الذات، وحقها الحيوي الكوني في الانتماء الجذري للنوع الإنساني، بعيدا عن أسئلة الهوية المسبقة التي تلاحقها وتكبلها، وتشكلها كما تشاء».
صدرت للمسكيني مؤلفات فلسفية عدة كـ«فلسفة النوابت»، و«الهوية والزمان»، و«نقد العقل التأويلي»، وأخيرا صدر له كتاب عن الثورات العربية في «سيرة غير ذاتية»، كما صدرت له عدة ترجمات فلسفية من أبرزها، «الكينونة والزمان» للفيلسوف الألماني مارتن هيدغر، الذي فاز أخيرا بجائزة الشيخ زايد للكتاب عن فرع الترجمة.
«الشرق الأوسط» حاورت فتحي المسكيني، وسائلته - بالمراسلة عبر الإنترنت - عن أهم أفكاره ورؤاه، عن الذات والهوية، ومهمة الفلسفة وأسئلتها، وعن العلاقة بالماضي والتراث.
* تتضمن غالب كتاباتك هجاء عنيفا للهوية التي صنعتها الدولة الحديثة، نتيجة لجهاز الهوية الذي ينتج (بطاقات الهوية، والبصمة، ويحدد اللغة والدين والقبيلة)... ألا يعد هذا طرحا مثاليا، كيف نتصور أن تقوم دولة أو كيان حديث دون هذه المحددات؟
- من يكتفي بإخبارنا بالحقيقة هو لا يفكر. ففي واقع الأمر ليس ثمة حقائق جاهزة عن أنفسنا أو عن العالم. ولذلك أفضل ما ندعيه هو التفكير الذي يستمد من التدرب على توسيع حدود العقل لدينا وجاهته. وهي دوما وجاهة مؤقتة. بقي أن ننبه إلى أن التفكير ليس هجاء لأحد، وخصوصا هو لا يمكن أن يكون هجاء للهوية بما هي كذلك. بل هو تفاوض عسير مع إمكانيات هوية مغلقة أو مهجورة أو ممنوعة أو مسكوت عنها. ولذلك علينا أن نميز بين دفاع دعاة الأصالة عن الهوية (العروبة، الإسلام، البربرية، السنة، الشيعة،..) وبين المفهوم الحديث، الإجرائي والإداري، للهوية، الذي هو من صنع الدولة القومية الحديثة. وهو جزء من ترسانتها القانونية (إلى جانب السيادة والشرعية والحدود والإقليم واللغة، إلخ). قد يستفيد الجميع، الإسلاميون والعلمانيون، من الخلط بين الهوية (الثقافية، الدينية،) والهوية (القانونية، الإدارية، القومية). لكن النتيجة هي في آخر المطاف وخيمة.
ما يجدر بالفيلسوف أن يقترحه هو تمرين الناس على هوية إنسانية حقا، كونية أو قادرة على الكونية، ومن ثم يتيسر عندئذ تمرين الدولة القومية نفسها (سواء كانت دينية أو علمانية) على الاعتراف بدائرة حقوق في الهوية لا يمكن لأي جهاز سلطوي أن يحتكرها أو يراقبها سلفا. ما صنعته الدولة الحديثة هو هوية مصطنعة، إجرائية وإدارية كي تمارس سلطة بيوسياسية منتظمة وناجعة على أجساد طيعة مؤهلة للخضوع والاستعمال العمومي للمجتمع كشبكة حيوية من تقنيات الرقابة وأشكال التذوت، كما شرح ذلك فوكو بطرافة شرسة.
* تساءلت مرة: «إلى أي حد يمكن للفيلسوف أن يفكر في الذات بلا هوية، متى تقترح علينا الفلسفة المعاصرة ذاتا بلا رواسب ذات هوية لا شفاء منها».. هذه الذات المجردة ألا تصبح بهذا التجريد مجرد جسم كائن حي، وجوده كوجود الكائنات الحية الأخرى؟
- كان هذا الكلام نقاشا مع إشكالية الفلسفة الغربية الحديثة: فهي من جهة، ما فتئت تؤكد، منذ ديكارت، أن الأنا المفكر هو درجة من الانتماء إلى أنفسنا هي من الصفاء واليقين والاستقلال والإثبات لنفسها بحيث يمكن أن نؤسس عليها شروط إمكان الحقيقة حول ظواهر العالم من حولنا. ولكن في المقابل، منذ هيغل، انخرطت الفلسفة الغربية فجأة في بناء سرديات كبرى حول «هوية» هذا الأنا وتاريخه الروحي وأطوار وعيه بذاته والتشكلات اللغوية التي تكلمها. وبالتالي فوجئنا بنوع من «الخيانة» للمشروع الديكارتي الذي كان رائدا في بلورة تصور كوني للأنا القادر على السيطرة على الطبيعة من حوله بواسطة عقله التقني فحسب. لكن القرون التالية من تاريخ الحداثة قد شهد تراجعا مريعا عن تلك النزعة الكونية في الأنا المحض للإنسان بما هو إنسان، وتحول إلى برنامج فينومينولوجي للهوية الغربية التي لم تدخر جهدا في ترجمة انتصارها الميتافيزيقي على المفهومات قبل الحديثة للإنسان، إلى برنامج لاستعمار العالم والعمل على «أوروبة» أو «غربنة» الوعي البشري قاطبة، وذلك تحت حماية فلسفية شديدة (هيغل، مل، فيبر..).
ولذلك ثمة فرق بين «ذات بلا هوية» (نعني ذاتا قادرة على التحكم في هواجس الهوية) وبين «الذات المجردة التي تصبح بهذا التجريد مجرد جسم / كائن حي، وجوده كوجود الكائنات الحية الأخرى». لكنه فرق سعيد: نحن فعلا نريد أن نقترح معنى حيويا للهوية. فالحياة ليست أقل انفعالات الكائن أو الجسم. بل بالعكس، نحن قلما نكون أجسامنا، وبالتالي قلما نكون أحياء بالمعنى الراقي للكلمة. فمجرد امتلاك جسم مادي، عضوي، حي، لا يعني أننا نعيش حياتنا بالشكل الذي يجعلها حياة قابلة للعيش، كما تقول فيلسوفة الجندر الأميركية، جوديث بتلر.
* في شق آخر، سبق أن ذكرت أن «الفلسفة ليست بالضرورة نقدا للدين، بل تأصيلا جذريا لإمكانيته في الطبيعة البشرية»، إذن كيف تفسر هذا الصراع التاريخي القائم بين الفلسفة والأديان التي ترى أن العقلانية التي تسعى إليها الفلسفة تهدف إلى هدم فعالية المقدس؟
- في الحقيقة ما نسميه «صراعا تاريخيا بين الفلسفة والأديان» هو ظاهرة «ثقافية» أو «آيديولوجية» حديثة العهد جدا، وليس جزءا من ماهية الفلسفة في لحظاتها الأصيلة. بل إن اسم الفلسفة الأكبر هو «الإلهيات» وليس شيئا آخر. وهل يوجد خطاب آخر للبحث في وجود الله أو خلود النفس أو طبيعة العالم غير الميتافيزيقا؟ - قد تكون أقوال الفلاسفة مثيرة للحيرة أو مدعاة للتساؤل العميق أو جريئة جدا بالنسبة إلى العقل الكسول، لكن ذلك لا يجعل منها عدوة لمن يبحث عن الحق أو يريد أن يحرر نفسه و«يكسر زجاجة التقليد» كما قال الغزالي الحائر ذات مرة. ربما ما يثير في الفلسفة هو كونها تشترك مع الأديان في ميدان السؤال لكنها تختلف عنه في طريقة الإجابة. إن إله الفلاسفة مختلف عن إله الأديان لكنه إله أيضا. وليس خديعة نظرية. الفرق بين الفلسفة والدين هو كون الفلسفة تصارحنا بأن عقولنا هي سقف الحقيقة الممكنة بالنسبة إلى كائنات من نوعنا. أما الدين فإنه لا يجرؤ على ذلك، وإلا انهدم بنيانه العقدي. والحال أن الدين هو أكبر مؤسسة معنى اخترعها النوع البشري من أجل تدريب البشر على تحمل عبء الكينونة في العالم وتحويلها إلى مشروع أخلاقي لأنفسنا. ولولا الدين لكان النوع البشري قد انقرض منذ وقت طويل. ولذلك فكل من يحرص على تغذية العداء المزيف بين الفلسفة والدين هو لم يفهم شيئا من طبيعة الحاجة الأصلية إلى السؤال الفلسفي، أي إقامة السؤال الكلي عما يتخطى أفق العقل البشري كما هو متاح للكائنات التي من جنسنا، ومع ذلك نحن لا نستطيع ألا نتساءل عن ماهيته أو عن معناه أو عن نمط الكينونة في العالم التي يفرضها علينا. وهذا أمر نعته كانط بأنه «القدر الخاص» بالعقل البشري: كونه مهموما بأسئلة، من جهة، لا يستطيع تلافيها لأنها نابعة من طبيعته، ومن جهة، لا يستطيع الإجابة عنها لأنها تتجاوز قدرته على الإجابة. هل يمتلك الدين ميدانا آخر للمعنى؟ وما الذي يعنيه بكلمة «المقدس» غير تلك المنطقة التي تصبح فيها الأسئلة التي تؤرق العقل البشري ليس فقط ممكنة بل ملحة بشكل لا مرد له؟
قد تظهر الفلسفة في مظهر دين خجول. وقد يبدو الدين في هيئة فلسفة. لكن ما يجمع بين الطرفين هو أرق العقل أمام ما يتعالى على النفس البشرية ويدفع بها إلى نمط رائع ومريع من الأسئلة التي لا يمكن لأي طرف أن يزعم الإجابة النهائية عنها. ومنذ كانط أصبحنا نملك تفسيرا مناسبا لعقولنا عن كيفية تشكل ميدان الرجاء في النفس البشرية وكيف يمكن تمرين النفوس الحرة على إيمان بلا لاهوت جاهز. ثم صرنا اليوم نعرف أن المقدس ينطوي هو ذاته على شكل فريد من المعقولية، ينبغي الإنصات إليها ومساءلتها من الداخل دون أي أحكام «عقلانية» مسبقة. إذ يشير المقدس إلى تجربة معنى على الفلاسفة (كما دعا إلى ذلك هيدغر) أن يدخلوا في حوار عميق معها. وهو ما حاول الانخراط في إنجازه فلاسفة أشداء من قبيل ليفناس وريكور ودريدا.
* كثير من المشاريع والقراءات العربية حاولت أن تقدم صيغة ما للتعامل مع الماضي / التراث، ما بين القطيعة أو التفاعل أو الإحياء والتواصل.. كيف ترى هذه المشاريع وأثرها؟
- يجدر بنا الآن أن نميز تمييزا صارما بين الفلسفة وقراءات التراث. وفي الحقيقة، كل من يحصر التفكير في مشاريع قراءة التراث هو يهون على نفسه كثيرا، مهمة التفلسف. كل العلاقات مع الماضي متهافتة، طالما هي لا تقدم على إعادة اختراع دلالة هذا الماضي بالنسبة إلينا، نحن سكان المستقبل، انطلاقا من أفق الحاضر. ولقد صرفت مجهودات مريرة للسيطرة على دلالة التراث بالنسبة إلى جيل الاستقلال، وكأنه بعد معركة التحرر من استعمار الحاضر، انخرط المثقفون في التحرر من استعمار الماضي. لكن الماضي لا يجب أن يكون خصما لأحد. بل هو جملة من مصادر أنفسنا القديمة علينا الاحتراس في التزود الروحي أو اللغوي أو الميتافيزيقي منها. كانت مشاريع الوقت الضائع: ففي غياب مغامرات كونية للعقل، وهي تتم دوما في الحاضر، تنخرط الثقافات في معارك ذاكرة وعمليات تأبين واسعة لجثة الماضي في وعيها العميق، ولكن من دون أي قدرة حقيقية على الحداد. على كل حال، كانت بعض قراءات التراث ضربا من تملق الذات في وقت عصيب حيث لم يكن المثقف قادرا على التفلسف بالمعنى الدقيق للمفهوم، أي إقامة الأسئلة الكونية حول كينونته في العالم. كان تحويل التفكير الفلسفي إلى قراءات تراث خطأ تاريخيا جسيما، أوهمنا بأنه يمكننا أن نتفلسف بشكل محلي. والحال أن الفلسفة كونية أو لا تكون.

* الحوار كاملا منشور في موقع مجلة «المجلة».



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.