فنانون من الشرق الأوسط في رحلة «الركض بين الحضارات» بالولايات المتحدة

أكثر من 50 فنانًا وفنانة يشاركون في مبادرة للتواصل الفني والحضاري

ستيفن ستابلتون مع الفنانة السعودية سارة عبد الله في إحدى الندوات (إدج أوف آرابيا)
ستيفن ستابلتون مع الفنانة السعودية سارة عبد الله في إحدى الندوات (إدج أوف آرابيا)
TT

فنانون من الشرق الأوسط في رحلة «الركض بين الحضارات» بالولايات المتحدة

ستيفن ستابلتون مع الفنانة السعودية سارة عبد الله في إحدى الندوات (إدج أوف آرابيا)
ستيفن ستابلتون مع الفنانة السعودية سارة عبد الله في إحدى الندوات (إدج أوف آرابيا)

بعيدًا عن صالات العرض وردهات المتاحف يقوم فريق من الفنانين ومنسقي المعارض من الشرق الأوسط، برحلة برية عبر الولايات المتحدة الأميركية في مبادرة فنية بعنوان «كلتشر رانرز» (الجري بين الحضارات).
المبادرة التي أتمت العام الأول من مجمل ثلاثة أعوام هي نتيجة تعاون مشترك ما بين مؤسسة «آرت جميل» و«إدج أوف آرابيا»، تسمح للمشاركين بالتواصل والتحاور مع الجمهور والفنانين الأميركيين، وهي مبادرة نتج عنها أعمال فنية وسلسلة من الصور الفوتوغرافية وأعمال فنية أخرى قادمة ستطرح نتيجة التحاور والالتقاء بين الحضارتين.
ستيفن ستابلتون أحد مؤسسي «إدج أوف آرابيا»، أشار خلال حديث مع «الشرق الأوسط»، إلى أن الفكرة ولدت بوحي من بدايات تكوين «إدج أوف آرابيا»: «أردنا أن نقص حكاية وأن نبني مشروعًا يعتمد في نجاحه على تكوين شبكة من الاتصالات ما بين فنانين من أماكن مختلفة وتجارب متنوعة. وهي فكرة تناولتها مجموعتنا (فادي جميل وأحمد ماطر وعبد الناصر الغارم وأنا)». وبالفعل تقدم بالفكرة فادي جميل لرئيس مؤسسة عبد اللطيف جميل للمبادرات المجتمعية الذي رحب بها كونها تعكس رؤيته الخاصة.
أما عن السبب في اختيار الولايات المتحدة، فيشير إلى أنها البلد الأكثر تأثيرًا في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم، «اتفقنا على أن نقدم التسهيلات لمشروع يجوب أميركا واخترنا صيغة الرحلة البرية».
مدة الرحلة ثلاثة أعوام وفي كل عام تشارك مجموعة جديدة، مع وجود مندوب عن «إدج أوف آرابيا»، ويطمح ستابلتون إلى ضم فريق إعلامي للفصل الثاني من الرحلة يتكون من مصور فوتوغرافي ومخرج أفلام «لتسجيل تفاصيل التجربة كلها».
العام المقبل في رأي ستابلتون مهم جدًا، فالرحلة ستتزامن مع الانتخابات الأميركية التي تؤثر نتائجها على العالم وعلى الشرق الأوسط تحديدًا.
أما عن الناتج النهائي للرحلة، فيتوقع ستابلتون أن يكون معرضًا يسجل كل الأفكار والأعمال الفنية التي عمل عليها الفنانون خلال زيارتهم لمختلف المدن الأميركية وحواراتهم مع فنانين ومواطنين أميركيين. المعرض لن يكون تقليديًا، كما يؤكد ستابلتون، بل سيعتمد على فكرة الرحلة كمنطلق، «سنعرض الأعمال الفنية في إطار الرحلة. المشاهد سيتنقل عبر مراحل الرحلة، وهو اتجاه معتمد الآن في العالم، وكمثال ما فعله فنان الغرافيتي بانكسي عبر معرض (ديزمالاند)، نريد أن نقدم نموذجًا جديًا وأن نخرج بالفنانين من الاستوديوهات ليلمسوا القضايا على الأرض».
ويشير إلى مشروع الفنان أحمد ماطر لتسجيل التطورات المعمارية في مكة المكرمة كمثال: «أحمد قضى ثلاثة أعوام في البحث والقراءة والوجود في الأماكن نفسها».
إلى جانب المعرض سيتم إصدار كتاب باللغتين العربية والإنجليزية يعتمد على أسلوب المذكرات.
المشروع يجمع فنانين من الشرق الأوسط والمجتمعات المحلية في أنحاء أميركا، وحتى الآن قطع «كلتشر رانرز» أكثر من 1200 ميل عبر 24 ولاية أميركية. وخلال تلك الفترة استضافت المبادرة عددًا من اللقاءات والفعاليات التي تبحث في التواريخ والقضايا المشتركة.
منذ انطلاقها في سبتمبر (أيلول) 20014 من روثكو تشابل، شارك أكثر من 50 فنانًا ومنظمي معارض من السعودية وإيران والمملكة المتحدة والعراق وتركيا والبحرين والكويت والنرويج وفلسطين وسوريا ولبنان ومصر والمغرب والولايات المتحدة الأميركية، في حوارات وورش عمل ومعارض.
من الفعاليات التي أقيمت ندوة شاركت فيها الفنانة السعودية سارة أبو عبد الله وستيفن ستابلتون في جامعة ولاية لويزيانا ومعهد الشرق الأوسط في واشنطن، حول موضوع «القوة الناعمة للفن في شرق أوسط متغير».
مثال آخر، حين استضاف معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كمبريدج أسبوعًا من ورش العمل المشتركة مع «إدج أوف آرابيا»، جمعت عددًا من الفنانين العالميين والعلماء لمناقشة أوجه التاريخ المتغيرة ورحلات الفنانين ما بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة. شارك في الفعاليات من السعودية الفنان أحمد ماطر والفنانة أروى النعيمي ومن مصر الفنانة لارا بلدي.
كما شارك الفنانون المشاركون في «كلتشر رانرز» ضمن معرض «آرموري شو» في نيويورك للفن الحديث والمعاصر استخدم فيه وسائل تقنية لأرشفة وإذاعة أصوات من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
كما يقدم الفنانون «إرساليات» من المدن المختلفة على موقع «كلتشر رانرز»، ومن تلك الإرساليات ما كتبته الفنانة المغربية سارة أواحدو التي قدمت من خلاله انطباعاتها حول مدينة ديترويت ولقاءاتها مع فنانين مقيمين هناك وعرضًا لمشروعها الفني الذي يدور حول النجمة السداسية على العلم الأميركي؛ حيث قامت الفنانة بتكليف حرفيين من المغرب لصناعة أشكال مختلفة من النجمة السداسية التي تعتبر من أساسيات فن الهندسة الإسلامية، صنعت أواحدو اثنتين وخمسين نجمة، في عمل يهدف لخلق الصلات والعلاقات بين الحضارتين الأميركية والإسلامية العربية.
الفنان الفلسطيني يزن خليلي بنى مشروعه على زيارة مدينتين أميركيتين في أوهايو وإنديانا تحملان اسم فلسطين. وحاول الفنان استكشاف وقع الاسم على السكان وكيف ظل الاسم حاضرًا على الساحة الأميركية عبر وجوده في السياسات الأميركية.
أما الفنان السعودي فيصل سمرا، فقد تضامن مع الفنان الأميركي ماثيو مازواتا في إقامة فعالية للمجتمع المحلي في اتحاد الفن المعاصر بمدينة أوماها بولاية نبراسكا، استكشف فيها سمرا تأثيرات رحلته البرية عبر ستة ولايات قابل فيها فنانين وناشطين من مجتمعات قبلية مثل أوغالا لاكوتا في ساوث داكوتا.
وتشارك سمرا مع المغني ليون غراس وعائلته في محاولة استكشاف التحديات التي تواجه المجتمعات القبلية في أميركا الشمالية وجنوب الجزيرة العربية. العام الأول أنتج حتى الآن كمًا هائلاً من العلاقات والمشاريع الفنية وتستعد المبادرة لإطلاق الفوج الثاني من الفنانين في 2016.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)