أزمنة وأمكنة في أفلام عربية حديثة

تتضارب وتتشتت

من فيلم «دلافين» لوليد الشحي
من فيلم «دلافين» لوليد الشحي
TT

أزمنة وأمكنة في أفلام عربية حديثة

من فيلم «دلافين» لوليد الشحي
من فيلم «دلافين» لوليد الشحي

* يتصرّف طارق، بطل فيلم نجوى النجار «عيون الحرامية» كما يؤديه الممثل المصري خالد أبو النجا، مع الماضي كما لو أنه جاء وليد حلم وليس واقعًا مرّ في سنواته القريبة الغابرة. في مشاهد استرجاعية نجده دخل الاعتقال الإسرائيلي بسبب نشاطاته المناوئة للاحتلال. حين خروجه ينتقل من رام الله إلى نابلس باحثًا عن ابنته الصغيرة نور. في رام الله يجد عملاً لدى نافذ فلسطيني (سهيل حداد) يملك مصنع خياطة تعمل فيه أرملة شابّة (سعاد ماسي) تعنى بفتاة صغيرة قد تكون ابنة طارق (التي تركها طفلة) والغالب أنها ليست كذلك. سيبقى السبّاك حائرًا في وضع أكبر لا يقل حيرة ويلف المجتمع بأسره وتتدخل فيه عوامل الاحتلال وظروفه خصوصًا عندما تكشف المخرجة، في الوقت المناسب، أن الرجل الذي يعمل بطل الفيلم لحسابه لديه علاقات مستترة لتهريب الماء إلى المستوطنات الإسرائيلية حارمًا الفلسطينيين منها.
لكن في طيات ذلك كله، يبقى هو وذكرياته أقرب لرجل يسبح في محيط. نحن لا نرى معظم ما يتحدث عنه من تاريخ ما يجعل حديثه أقرب إلى ذكرى ناتجة عن حلم مستبعد. الفتاة الصغيرة التي يبحث عنها قد لا تكون الفتاة الصغيرة التي يعتقد أنها ابنته. هذا وحده يطرح شخصية تتعامل والزمن على نحو وجودي ومع المكان كموقع متجدد تمليه ظروف غير إرادية. فطارق ورد إلى المكان بحثًا، لكن من الممكن أن يكون بحثه ذاك قد أودى به إلى المكان الخطأ.
أعمق حالاً
الأمر مشابه، وإن لم يكن على نحو كامل، مع رغبة المخرج اللبناني غسان سلهب في التعامل مع حقائق وخيالات أبطاله. في «الوادي»، وهو آخر أفلامه، نتعرّف على رجل يقود سيارته إلى واد في منطقة جبلية لكنه لا يموت. حين يصعد من الهوّة إلى الطريق فإن ما خسره هو ذاكرته التي ربما كان يود أن يخسرها. لا التاريخ ولا المكان يعنيان له الكثير. لا يزال يستطيع تصليح سيارة معطلة ما يدلف به لمصاحبة من كان في السيارة إلى حيث يعيشون في معزل عن لبنان ولو أنهم ما زالوا في لبنان.
كون السيارة رمز لاتجاه في الحياة فإن سقوطها هو إدانة لذلك الاتجاه. السيارة الأخرى التي تعطلت هي تفعيلة لكي يلتحق فاقد الذاكرة بمجموعة مختارة من الناس، ربما أقل رمزية من السيارة التي قام السائق برميها لكنها تحتوي كذلك على بداية جديدة له ما يجعلها اتجاها آخر في الحياة. لقد طلق حياة ملأها قرارات وأقبل على حياة بلا قرارات شخصية فهو لا يستطيع أن يتخذ قرارًا فيما لا يعرفه.
كل شخصيات المخرج سلهب هي رجالية وكلها غائبة أو مغيّبة. تعود من الخارج لتدخل الزمن من جديد فتجد نفسها غريبة فيه. تزور وتنضوي أو تحقق الفصل بين الماضي والحاضر فتضيع في ذلك الشق بينهما.
هذا المنوال أصعب إنجازًا، كما هو أعمق حالاً، بكثير من منوال تعدد الأزمنة التي تمضي إليها أفلام أخرى تنتقل بين الماضي والحاضر على نحو استرجاعات تبقى بصرية وتخفق في أن تصبح ذات دلالات وجدانية.
خذ مثلاً فيلم «سكر مر» لهاني خليفة حيث تنتقل الأحداث من الحاضر إلى الماضي ثم إلى الماضي الأبعد ثم الأقرب ثم الأبعد فالحاضر من جديد ثم ما قبله وذلك في مناسبة واحدة هي مناسبة رأس السنة. لا يكفي ذلك، بل ينتقل بين هذه الأزمنة المحددة برأس السنة إلى بعض الأحداث التي تقع في فترات أخرى مثل شهر أغسطس (آب) أو سواه. كل ذلك بمبرر وحيد هو رغبة الدخول والخروج بين الأزمنة لخلق حالة سرد جديدة ومغايرة. لكن ما يحدث هو مجرد انتقال بصري لا يبحث في عمق الحالات أو يدلي بإضافات لم يكن من الممكن تناولها عبر سرد منظّم.
في هذا الشأن فإن «بتوقيت القاهرة» لأمير رمسيس، هو أفضل حالاً لأن بطله (نور الشريف في آخر ما مثل) فقد الصلة بالتاريخ لإصابته بالألزهايمر (أو بنوع من التخريف كون الفيلم لا يسعى ليبحث في علم الأشياء) وما بقي من ماضيه ليس إلا صورة بطلته المفضلة من الأمس (ميرفت أمين) يريد الوصول إليها. هذه النقلة بين ماض غابر وحاضر واقع لرجل تختلط عليه الأزمنة مثيرة للاهتمام وأفضل من جوانب كثيرة مارسها الفيلم في سياقه روائيًا على الأقل. فالسيناريو، من كتابة المخرج نفسه، كثير المصادفات غير المفسرة أو المبررة.

* استعادات
نجد في «أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة» لخديجة السلامي وفي «الشجرة النائمة» لمحمد راشد بوعلي مثل هذا الانتقال الواعي بين الأزمنة من دون أن يكون أسلوب تنظيمها وورودها صحيحًا أو أكثر من تداول تقليدي.
«الشجرة النائمة» يعمد إلى رغبة في احتواء «الفلاشباك» ضمن أسلوب عمل فني منظم، لكن الرغبة هي أصعب تحقيقًا على النحو المراد في هذا العمل مما تبدّى عليه العمل. وفي فيلم «أنا نجوم..» يقع - بسهولة - ضمن لعبة الاسترجاع الزمني التقليدية فننتقل في هذا الفيلم ضمن معالجة «الفلاشباك» التقليدية: الشخصية الأساسية (فتاة تم تزويجها غصبًا) تسرد ونرى ما تسرده.
استخدامان جيدان للزمن ومكوّناته موجودان في فيلمين جديدين هما «دلافين» للمخرج وليد الشحي و«غدي» للمخرج أمين درة. هذا من دون الاعتماد على تفعيلة «الفلاشباك» التقليدية.
في الأول حكاية تتعامل والصبي الذي لا يلقى الحب الذي ينشده من أبيه ولا الألفة المتولدة من وحدة الأسرة وروابطها الوثيقة، فيشترك في رحلة بحرية خطرة مع صديق له ليجدا نفسيهما مهددين بالموت غرقًا. النهاية وحدها مفتوحة على احتمالات شتّى. لكن ما يأتي في نطاق هذا الحديث هو الشعور بالغربة عن واقع يعايشه كل من الأب وابنه كما كل عن الآخر ولأسباب تنأى تحت ذكريات مفتوحة على آلام الذات.
«غدي»، من ناحيته، يحيط بالزمن من ناحية برع فيها المخرجون اللبنانيون: هناك قصّة لا تحتاج إلى انتقال زمني تقليدي مطلقًا لأنها تبدأ بمعلّق يسرد تاريخ حياته. هذا التاريخ موجز في الدقائق العشر الأولى على نحو سردي حسن النص وذي دلالات.
في الفيلمين هناك عمق في استخدام المكان: هو مكان متعدد في «دلافين» (غرف، ردهات ثم بحر وأرض مفتوحة) ومكان واحد في «غدي» (شارع في بلدة ودكاكينها وبعض بيوتها)، لكن الدلالات المكانية كافية لأن تخلق النسيج الاجتماعي المطلوب ودلالاته ذات المرامي البعيدة.



أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
TT

أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)

بعد أكثر من سنة على عرضه في مهرجاني «ڤينيسيا» و«تورونتو»، وصل فيلم المخرجة البولندية أغنييشكا هولاند «حدود خضراء» إلى عروض خاصّة في متحف (MoMA) في نيويورك. «لا يهم»، تقول: «على الأفلام التي تعني لنا شيئاً أن تشقّ طريقاً للعروض ولو على مدى سنة أو أكثر».

فيلمها الأخير «حدود خضراء» نال 24 جائزة صغيرة وكبيرة واجتاز حدود نحو 30 دولة حول العالم. ترك تأثيراً قوياً منذ افتتاحه في المهرجان الإيطالي، حيث نال جائزةَ لجنة التحكيم الخاصة وفوقها 8 جوائز فرعية.

مردّ ذلك التأثير يعود إلى أن الفيلم (بالأبيض والأسود) تحدّث عن مهاجرين سوريين (ومهاجرة من أفغانستان) علِقوا على الحدود بين بروسيا وبولندا، وكلّ حرس حدود كان يسلبهم شيئاً ومن ثمّ يعيدهم إلى حيث أتوا. الحالة لفتت نظر جمعية بولندية أرادت مساعدة هؤلاء الذين تناقص عددهم بعدما اختفى بعضهم وسُجن آخرون. الدراما كما قدّمتها هولاند (75 سنة حالياً) نابعة من مواقف ونماذج حقيقية وأحداثٍ وقعت عالجتها المخرجة بأسلوب تقريري غير محايد.

نقطة حياة: «حدود خضراء» (مترو فيلمز)

لحظات إنسانية

> حال مشاهدتي لفيلم «حدود خضراء» في «مهرجان ڤينيسيا» خطر لي أنه يلتقي مع أفلام سابقة لكِ تناولت قضايا مهمّة وحادّة مثل «يوروبا، يوروبا» و«الحديقة السّرية» و«أثر» (Spoor) الذي عُرض في «برلين». كيف تُصنّفين أفلامك؟ وكيف تختارين قضاياها؟

- أفلامي السابقة تنوّعت كثيراً في موضوعاتها باستثناء أنني قصدت دوماً تناول ما اعتقدت أنه أجدى للمعالجة. والأفلام التي ذكرتها هي بالنسبة لي من بين أهم ما أخرجته. اخترتها لجانبها الإنساني أو، أُصحّح، لقضاياها الإنسانية. اخترتها لأن الأحداث وقعت في لحظات تاريخية ليست فقط مهمّة، بل هي لحظاتٌ بدت فيها الإنسانية بمنحدرٍ. هناك كثيرٌ ممّا يحدث في هذا العالم، وما حدث سابقاً يشكّل صدمة لي ولملايين الناس والفيلم هو صلتي مع هذه الأحداث. رأيي فيها.

«حدود خضراء» الفرار صوب المجهول (مترو فيلمز)

> «حدودٌ خضراء» هو واحد من أفلام أوروبية تناولت موضوع المهاجرين، لكن القليل منها انتقد السّلطات على النحو الذي ورد في فيلمك.

- أنا لست في وارد تجميل الأحداث. ولا أريد الكذب على المشاهد وأقول له إن ما تعرّض له مهاجرون مساكين على الحدود التي لجأوا إليها بحثاً عن الأمان غير صحيح، أو أنه حدث في شكل محصور. ومهنتي هذه استخدمها لقول الحقيقة، ولأفيد المشاهد بما أصوّره ولا يمكنني الكذّب عليه أو خداعه. ما شاهدته أنتَ على الشّاشة حصل وربما لا يزال يحصل في دول أوروبية أخرى.

نحو المجهول

> كيف كان رد فعل الجمهور البولندي حيال فيلمك؟

- إنها تجربة مهمّة جداً بالنسبة لي. سابقاً كان هناك حذرٌ من قبول ما أقدّمه لهم من حكايات. كثيرون قالوا إن هذا لا يمكن أن يحدث. نحن في أوروبا والعالم تغيّر عمّا كان عليه. والآن، مع هذا الفيلم، وجدتُ أن غالبية النّقاد وقراء «السوشيال ميديا» يوافقون على أن هذا يحدث. هناك من يأسف وهناك من يستنكر.

> نقدُك لحرس الحدود البولندي والبروسي في هذا الفيلم يؤكّد أن المعاملة العنصرية لا تزال حاضرة وربما نشطة. اليمين في أوروبا يجد أن طرد اللاجئين الشرعيين أو غير الشرعيين بات أولوية. صحيح؟

- نعم صحيح، لكن الاكتفاء بالقول إنه موقف عنصريّ ليس دقيقاً. نعم العنصرية موجودة ولطالما كانت، وعانت منها شعوب كثيرة في كل مكان، ولكن العنصرية هنا هي نتاج رفض بعضهم لقاء غريبٍ على أرض واحدة، هذا رفض للإنسانية التي تجمعنا. للأسف معظمنا لا يستطيع أن يمدّ يده إلى الآخر في معاملة متساوية. الحروب تقع وتزيد من انفصال البشر عن بعضهم بعضاً. ثم لديك هذا العالم الذي يسير بخطوات سريعة نحو المجهول في كل مجالاته.

> هل تقصدين بذلك التقدم العلمي؟

- بالتأكيد، لكني لست واثقة من أنه تقدّمَ حقاً. الذكاء الاصطناعي؟ هذا وحده قد يذهب بما بقي من ضوابط أخلاقية ومجتمعية. أعتقد أن التأثير الأول لذلك أننا نعيش في زمن نعجِز عن فهم تغيّراته، والنتيجة أننا بتنا نهرب إلى حيث نعتقده ملجأً آمناً لنا. نهرب من التّحديات ونصبح أكثر تقوقعاً معتقدين أن ذلك خير وسيلة للدفاع عن مجتمعاتنا.

ضحايا

> عمَدتِ في «حدود خضراء» إلى تقسيم الفيلم إلى فصول. هذا ليس جديداً لكنه يطرح هنا وضعاً مختلفاً لأننا ننتقل من وضع ماثلٍ ومن ثَمّ نعود إليه لنجده ما زال على حاله. ما الذي حاولتِ تحقيقه من خلال ذلك؟

- هذه ملاحظة مهمّة. في الواقع هناك قصصٌ عدة في هذا الفيلم، وكل شخصية تقريباً هي قصّة قابلة للتطوّر أو التوقف. وهناك 3 فرقاء هم الضحايا والمسعفون ورجال السُّلطة. بعضُ هذا الأسلوب المطروح في الفيلم مشتقٌ من العمل الذي مارسته للتلفزيون وهو يختلف عن أسلوب السّرد السينمائي، وقد اعتمدت عليه هنا لأنني وجدته مناسباً لفيلمٍ يريد تقديم الأحداث في شكلٍ ليس بعيداً عن التقريرية.

> هناك أيضاً حربٌ أوروبية دائرة على حدود بولندا في أوكرانيا. هل يختلف الوضع فيما لو كان أبطال فيلمك أوكرانيين هاربين؟

- نعم. يختلف لأنّ الرموز السياسية للوضع مختلفة. البولنديون يشعرون بالعاطفة حيال الأوكرانيين. السلطات لديها أوامر بحسن المعاملة. لكن هذا لم يكن متوفراً وليس متوفراً الآن للاجئين غير أوروبيين.