هل يجب أن نحمِّل العلم مآسي البشرية كلها؟

إتيان كلان ومؤلفه «غاليليو والهنود»

هل يجب أن نحمِّل العلم مآسي البشرية كلها؟
TT

هل يجب أن نحمِّل العلم مآسي البشرية كلها؟

هل يجب أن نحمِّل العلم مآسي البشرية كلها؟

في إحدى ليالي شتاء 2005، قامت إحدى طالبات الاثنولوجيا بدعوة الباحث الفيزيائي إتيان كلان «Etienne Klein» إلى سهرة يحضرها خمسة من زعماء شعب من الهنود من الأمازون يدعى: «الكايابو LES KAYAPO»، حضروا إلى أوروبا للقيام بجولة دفاعا عن أراضيهم وما لحق بهم من ضياع، جراء زحف الحضارة الغربية التي تهاجم نمط عيشهم وتهدد نظامهم البيئي. يحكي إتيان كلان، بعضا من تفاصيل ذلك اللقاء، الذي يسمه بالمثير فيقول إن وجوههم أصبحت غليظة، فور انتهائهم من تناول وجبة الطعام المعد لهم واحتسائهم للقهوة. وصارت أصواتهم أكثر فخامة وتنبئ بالجدية، وانطلقوا في حديث مطول، يحكون عن قلقهم على مصير ثقافتهم ومجال وجودهم، ويخبرون عن التهديدات التي تطالهم من العالم الغربي وتكنولوجيته. فطرائدهم أصبحت تهرب من غاباتهم، ومجاري مياههم تجف جراء قطع الأشجار. أما أسماكهم، فهي تتسمم بسبب الزئبق الذي يستعمل لتصفية الذهب، ناهيك عن مخلفات الطريق السيار الذي يقطع أراضيهم، والسد الذي سيزج بهم في المجاعة.

في تلك الأثناء، وبينما هم يتكلمون، بدأ يتشكل في ذهن إتيان كلان مباشرة، عالمان متخاصمان لا يجتمعان: عالم الهنود من جهة وعالم الغرب من جهة أخرى. كما توضح له، كم كان لديه من الأفكار المسبقة عما يسمى «بالشعوب البدائية»، وعن أن العقلانية هي فقط عنوان الغرب ووليدته. إن لقاءه مع الهنود وحواره معهم، أظهر له كم كان ساذجا. فهم يمتلكون العقل ولديهم المنطق، ويقدمون الحجج دفاعا عن رأيهم، كما يتعاملون بالمفاهيم وبدقة عالية. ويقول إنهم مثلنا، نحن الذين ندعي أننا «ورثة» المعجزة اليونانية. فإذا كانت قراءة الفيلسوف كانط لديفيد هيوم قد دفعته لإعلان أنه «قد أيقظه من سباته الدوغمائي»، فٳن إتيان كلان يقول بشكل مماثل، إن لقاءه بهؤلاء الزعماء الهنود قد أيقظه من سباته الدوغمائي أيضا. ويقول: لقد سافرت إلى مناطق متعددة ولكني لم أطرح أسئلة، الذات والآخر بوضوح، كما طرحتها وأنا أواجه الهنود، رغم قراءتي للعالم الإنتروبولوجي كلود ليفي شتراوس الذي كان يعلنها عالية: «لا وجود لشعوب بدائية». في هذا السياق بالضبط، سيتساءل إتيان كلان: إذا كان للهنود عقل مثل عقل الغرب تماما، فما الفارق إذن؟
فصل الإنسان عن الطبيعة
في محاولة للإجابة عن السؤال أعلاه، سنلقي نظرة على كتاب ألفه إتيان كلان خصيصا لذلك، وهو بعنوان «غاليليو والهنود» Galilée et Les Indiens، وسنعتمد طبعة فلاماريون لسنة 2013، وتجدر الإشارة إلى أن إتيان كلان، هو من مواليد سنة 1958 في باريس، وهو متخصص في الفيزياء الدقيقة، ومهتم بفلسفة العلوم حيث كانت مجال اشتغاله في الدكتوراه.
يرى إتيان كلان، أنه ورغم اقتناعه بوحدة العقل البشري، فإن اختلاف الغرب عن الهنود يكمن في العلم كما نشأ في القرن السابع عشر، وهو يركز بالذات، على المنعطف الغاليلي. يقول إتيان كلان: إن المجتمعات المسماة «بدائية» تفكر مثلنا بمجرد أن نتوقف عن التفكير بطريقة علمية. لكن لماذا المنطلق مع غاليليو؟ باختصار،، لأن معه سيتم فصل الذات عن الموضوع الخارجي أي عزل الطبيعة عن الإنسان. لكن الهنود لم يقوموا بذلك، فالعالم والإنسان عندهم شيء واحد. فالإنسان لا يقتصر على ما هو إنساني، بل يدمج معه الهواء الذي يستنشقه، والطريدة التي يقنصها، والنبات الذي يبحث عنه للأكل أو للشفاء، والنهر الذي يضم الأسماك التي يصطاد.. فالعالم ممزوج بالإنسان في وصل لا ينقطع.
إن غاليليو بحسب إتيان كلان، سيدشن طريقة جديدة في التفكير، حيث سينقلنا من النظرة التأملية الدافئة والساحرة للعالم، إلى نظرة باردة له. يقول غاليليو «عندما تلمسني الريشة وتحدث لي دغدغة، فهذا الإحساس ينتمي لذاتي وليس للريشة». فغاليليو، وكما يظهر من هذا المثال، كان يسعى لوضع فصل بين ما ينتمي للذات وما ينتمي للعالم الخارجي، إذ يجب، بحسبه، عدم إسقاط ما هو إنساني على الطبيعة. فهذه الأخيرة، صماء وعاطلة لا سبيل إلى فهمها إلا بتكميمها وترويضها، ووضعها في قوالب رياضية. فالكيفيات التي نسقطها على الطبيعة تشوه الموضوع المدروس، وتعطي صورة زائفة عنه. بكلمة واحدة، مع العلم سيضرب سؤال الغايات والمقاصد عرض الحائط، أي إن أسئلة الخير والشر هي خارج اهتمام العلم.
إذن، «ذا كانت نظرة الهنود تضع الإنسان في تناغم مع الكون»، فن نظرة العلم الحديث وبالضبط مع غاليليو، ستضع الإنسان في مواجهة العالم، فهو مختلف عنه. وهنا نتذكر ديكارت معاصر غاليليو، الذي جعل جسمنا أيضا، لا ينتمي إلينا، بل ينتمي إلى العالم الخارجي. فنحن نوجد بالفكر الحر، وهو المميز لنا عن العالم الخاضع للحتمية، الذي يمكن ضبطه والتحكم فيه، بل السيطرة عليه. وهو طموح ديكارت الأكبر الذي تحقق منه الكثير.
إن ما يحدث في العالم بحسب نظرة الفصل الغاليلية، لا يمت بصلة للإنسان. فهما عالمان متمايزان. فكل ما يطرأ في العالم، يتحرك وفق قوانين ميكانيكية محايدة. فالمطر أو الزلزال أو المرض أو الجفاف، هي ظواهر تحدث، ليس من أجل الإنسان دعما له أو انتقاما منه. كما أن الكواكب لا تتبع مساراتها بسبب ترتيب أخلاقي سام، بل هي ببساطة تحقق حالات من المعادلة الميكانيكية. وهو ما سيتجسد مع نيوتن بوضوح. فالعالم يسير تبعا لنظام آلي حيادي، إذ ليس هناك جزء من الكون استثنائي أو يتمتع بامتيازات خاصة. فكل شيء وكل مكان يخضع للقوانين ذاتها. وليس هناك من مادة نقية سماوية خالصة أو مادة مدنسة أرضية. باختصار النظرة العلمية أفقدت الطبيعة قداستها، وكأننا نعيش في عالم شاحب وفاتر. أو لنقل إننا مقذوفون داخل ساعة كبرى يمكن التحكم فيها، بل التلاعب بها.
هل العلم مغامرة خطرة؟
إن المتأمل في مسار حياته، سيجد أنه تنتابه مشاعر متضاربة، فتارة الإعجاب بما هو علمي وتارة أخرى الإحساس بأن العلم يقودنا إلى الهاوية. إذ لم تعد مغامرة العلم مريحة كما كانت، بل أصبحت مثار نقد واتهام، حيث هناك من يرى بأن العلم سينقذنا، بينما هناك من يلح بأنه قد خذلنا وزج بنا في الكارثة.
نعم كان هناك فزع من قنبلة هيروشيما ونكازاكي. نعم هناك تغير في المناخ ينبئ بالخطر. نعم هناك ارتفاع في منسوب البحر. نعم أصبحت أبقارنا مجنونة. نعم نكاد نختنق بالتلوث.. لكن هل يمكن أن نلقي كل هذا على عاتق العلم؟
إنه بمجرد ظهور تكنولوجيا جديدة مثل «Les OGM» أي الأعضاء المعدلة وراثيا، يظهر منطقان ونظرتان متباينتان ومصطدمتان: واحدة تفكر فيما سيتم جنيه من أرباح، والثانية تخشى من الخسائر والتبعات المترتبة عن ذلك.
إذن لقد أصبحت الشكوك تطرح حول العلم وبوضوح، وهذا ما جعل إتيان كلان يقف موقف المدافع عن العلم، رافضا أن تعلق عليه كل مآسي البشرية، إلى درجة أن البعض يطالب بترك العلم نهائيا. يرى إتيان كلان، أن المشكل لا يكمن في العلم لسبب بسيط، وهو أن العلم لا يقول لنا ماذا علينا أن نفعل؟ فهو يكتشف حقائق وكفى. أما استغلال هذه الحقائق بطريقة مخلة، فهذا يعود لأمر غير علمي. إذن ماذا ننتظر من العلم؟ يجيب إتيان كلان بالطبع، ليس الخلاص. فالعلم يؤهلنا لمعرفة محدودة من دون الدخول في تنافس مع الطرق الأخرى لرؤية العالم. وإذا كانت المعرفة العلمية كونية، فهذا لا يعني أنها كاملة، بل هي معرفة تجيب فقط عن الأسئلة التي تدخل ضمن إطار اشتغاله. فالكثير من الأسئلة التي يطرحها البشر ليست علمية من قبيل: كيف نعيش سويا؟ كيف نحقق العدالة؟ كيف نفكر في الحرية؟ ما الحق؟ هذه الأمور القيمية، لا يمكن أن تكون ضمن حقل العلم. وإذا كان العلم لا يقول لنا ماذا سنفعل، فما منبع الخلاص؟ يقول إتيان كلان: إذا ما أخذنا البيولوجيا كعلم، فهي تخبرنا، مثلا، عن كيفية صناعة كائن معدل وراثيا. لكن هي لا تقول لنا هل سنفعل ذلك أم لا؟ فمن سيقرر إذن؟ يؤمن إتيان كلان بأن الجواب يجب أن يكون بعد مشاورة جماعية تستدعي ما أمكن الذكاء الجماعي. فالعالم دوره محدود، هو أن يقول منجزه، أما أن يجيب عن سؤال الخلاص، فهذا ليس مجاله.
إن الدعوة إلى التخلص من العلم بمبرر أنه كلما عرفنا قليلا تصرفنا جيدا، جعلت إتيان كلان يقول: وكأن الأخطاء المرتكبة باسم العلم تجعل من الجهل قيمة!



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.