جوديث بتلر فيلسوفة النوع والهوية: كيف نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟

تبنت مثل إدوارد سعيد «الحل الثالث» ودعت إلى تعايش فلسطيني يهودي في دولة واحدة

جوديث بتلر
جوديث بتلر
TT

جوديث بتلر فيلسوفة النوع والهوية: كيف نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟

جوديث بتلر
جوديث بتلر

تعد الفيلسوفة جوديث بتلر، أبرز زعماء النظريّة النقديّة المعاصرة (الجيل الثالث). وهي يهوديّة أميركيّة ذات أصول روسيّة – مجريّة، عانت عائلتها من الاضطهاد النازي، وفقدت جزءا من عائلتها في المحرقة النازيّة (حيث أبيدت عائلة جدتها في قرية صغيرة في جنوب بودابست). ولدت الفيلسوفة يوم 24 فبراير (شباط) 1956 بكليفلاند بولاية أوهايو. واهتمت بالفلسفة السيّاسيّة والاجتماعيّة ونظريّة الأدب والدراسات الثقافيّة والجنسانيّة والنوع الاجتماعي والهويّة. حصلت سنة 1984 على أطروحة الدكتوراه من جامعة يال، حول مفهوم الرّغبة عند هيغل، ونشرت رسالتها سنة 1987 تحت عنوان: «ذواتٌ راغِبَة: تأملات هيغيليّة حول فرنسا القرن العشرين»، وطورت فيها فهمًا جديدًا للعلاقة بين الرغبة والاعتراف (دمجٌ لفكر اسبينوزا وهيغل).
غادرت سنة 1993 جامعة جونس هوبكينز، بعد حصولها على كرسي ماكسين إليوت بشعبة البلاغة والأدب المقارن بجامعة بيركلي بكاليفورنيا، وهي السنة التي أصدرت فيها دراستها الشهيرة «هذه الأجساد التي يجب اعتبارها». كما حصلت سنة 2006 على كرسي حنة ارندت للفلسفة في كلية الدراسات الأوروبيّة العليا بسويسرا. وانتخبت سنة 2009 رئيسة محكمة هوسرل حول فلسطين، والتي تجمع المثقفين الأميركيين حول القضيّة الفلسطينيّة لحشد شروط سلام دائم وعادل بين إسرائيل وفلسطين، وذلك بفضل موقفها الثابت من رفض وشجب عنف الدولة الإسرائيليّة.
تنتمي جودي (كما يحلو لأصدقائها الجامعيين مناداتها)، إلى النظريّة النقديّة المعاصرة، بفضل إسهاماتها المتعددة حول قضايا فلسفيّة متنوعة، حافظت من خلالها على إرث مدرسة فرانكفورت. لذلك حصلت سنة 2012 على جائزة أدورنو الذائعة الصيت، عن جدارة واستحقاق، رغم هجوم الصهاينة عليها علنًا. وهناك الكثير من الدراسات التي اهتمت أخيرا بفكرها الفلسفي والسياسي، منها تحديدًا: «الفلسفة السيّاسيّة عند جوديث بتلر»، من تأليف بيرجيت شيبرز (2014)، الذي عالج فيها سياسات تشكّل الذات، فلسفة الإنسان السيّاسيّة، مفارقة العنف، نحو مجتمع ما بعد العلمانيّة. إلى جانب الدراسة النقديّة التي أنجزها ستيفان هابر سنة 2006. تحت عنوان: «نقد مناهضة النزعة الطبيعيّة: دراسات حول فوكو وبتلر وهابرماس»، ناهيك عن مئات المقالات، وسيرتها التي كتبتها سارة صالح تحت عنوان: «جوديث بتلر» (2002)، وفحصت فيها مفاهيم: الذات، الجنوسة، الجنس، اللغة، والنفس.
تَشكَّل الفكر الفلسفي لبتلر منذ مراحل مبكرة من حياتها. وقد جالت في الفكر الحديث، وساجلت اسبينوزا وروسو وهيغل وكانط، وطورت فلسفة فوكو وفرويد والتوسير وجاك لاكان وهابرماس وجاك دريدا وسيمون دي بوفوار. في حوار معها، مع مجلة الفلسفة (العدد 66)، قالت بتلر، إن علاقتها بالفلسفة بدأت من قبو منزلها العائلي، حيث وضع والداها كتابات فلسفيّة مختلفة: «هناك قرأت اسبينوزا (كتاب الإثيقا) وكيركغارد وآخرين». بعد اطلاعها على هيغل، ستتبنى بتلر مفهوم الاعتراف الذي أثر في حياتها السيّاسيّة والفلسفيّة فيما بعد، نظرا لالتصاقه بوضعها الذاتي. فالرغبة في العيش، كما تحدث عنها اسبينوزا، غير ممكنة في نظرها إلا من خلال الاعتراف الهيغيلي، بحيث لا يرتبط الاعتراف بتحقيق الرغبة في العيش فقط، وإنما العيش بطريقة حرة ومختارة، أي أنه يطرح سؤال الهويّة تحديدًا التي لا تنظر إليها كشيء ثابت ومحنط، بل كهويّة تتشكل بحسب الظروف التي ينمو فيها الفرد وبفضل تنشئته الاجتماعيّة التي يخضع لها. وهكذا فمعرفة الذات لا تتم من خلال الغير ولا ترتبط به، لأنها قد تكون هويّة غير اجتماعيّة، أو خاضعة لمعيّاريّة اجتماعيّة هي بمثابة أحكام قبليّة غير صحيحة، لذلك نقرأ لها في كتابها «الذات تصف نفسها»:
«بينما نحن نطلب معرفة الآخر، أو نطالب الآخر أن يعرّف نفسه على نحو نهائي ومؤكد، فإن من المهم لنا ألا ننتظر جوابًا شافيًا بأي حال. إننا بامتناعنا عن السعي إلى القناعة، وبإبقائنا السؤال مفتوحًا، بل حتى ثابتًا، نمنح الآخر فرصة أن يعيش ما دام بالإمكان فهم الحياة بوصفها، على وجه الدقة، ذلك الذي يتجاوز أي وصف قد نقدمه له... إذا كان في السؤال رغبة في الاعتراف، فعلى هذه الرغبة أن تبقي نفسها حيّة بوصفها رغبة وألا تحلّ نفسها... إن الرغبة يجب أن تدوم. في الواقع، يكون الإشباع نفسه، أحيانًا، الوسيلة التي يتخلى بها المرء عن الرغبة، الوسيلة التي ينقلب المرء بها ضدها، ويرتب لموتها السريع».
من المعلوم أن سؤال الرغبة والحاجة إلى الاعتراف عند جودي، ليس أمرًا معزولاً عن العلاقة مع الغير، كما أنه لا ينفصل كليًّا عن سؤال الهويّة وعلاقتها بالذات. فالهوية ليست سابقة على الوجود الاجتماعي بالقدر الذي يكون فيه هذا الوجود هو أساس الهويّة. وقد استعارت جودي هنا، عبارة سيمون دي بوفوار: «المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك»، وهو ما يقود إلى التساؤل حول الهوية (وأساسًا الهويّة الجنسيّة) التي تتميز اليوم بالتعدد والتنوع: كيف يمكن الاعتراف برغبتي؟ وكيف تؤسس المعايير لهذه الرغبة؟ وهل يمكنك الاعتراف برغبتي لأتصرف كراغبة في شيء ما، ولربما ما يحلو لي؟ لذلك تصرح: «عندما أطرح السؤال الأخلاقي: كيف يتوجب علي أن أعامِل الآخر؟ أنا أقع مباشرة في قبضة مملكة من المعيّاريّة الاجتماعيّة، ما دام الآخر لا يظهر، ولا يشتغل بوصفه آخر بالنسبة لي، إلا ضمن إطار أستطيع أن أراه وأفهمه في انفصاله وخارجيّته. وهكذا، فرغم أني قد أفكر في العلاقة الأخلاقيّة بوصفها ثنائيّة، أو بالأحرى سابقة على الاجتماعي، فإني لا أقع في قبضة مجال المعيّاريّة وحسب، ولكن في إشكاليّة القوة... فالقواعد لا تعمل على توجيه سلوكي وحسب ولكنها تقرر النشوء الممكن للقاء بيني وبين الآخر» (الذات تصف نفسها 69).
تحاول جودي الجواب عن سؤال طرحته في خطابها، بمناسبة نيلها جائزة أدورنو (خطاب تحت عنوان: «أخلاق لعصر هش»): كيف يمكن أن نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟ بحيث يقر أدورنو أنه «لا توجد حياة حقيقيّة ضمن حياة زائفة»، حياة حقيقية داخل عالم مبني بشكل واسع على اللامساواة والاستغلال والإقصاء. إنه سؤال مركب يطرح من خلاله أدورنو العلاقة بين الأخلاق والشروط الاجتماعيّة، أو بصيغة أعم، العلاقة بين الأخلاق والنظريّة الاجتماعيّة. تصرح بتلر: «أحبذ أن أظهر أنه لا يمكننا أن نناضل من أجل حياة جيّدة، حياة تستحق العيش، دون الاستجابة للحاجيات التي تسمح للجسم بضمان الاستمراريّة». لذا فكيف يمكن التفكير في حياة قابلة للعيش دون افتراض تصور - مثال واحد أو موحد لهذه الحياة؟
فحصت جودي في خطابها ذاك، سؤال الحياة الجيّدة عند حنة آرندت، وتقول: «ميّزت حنة آرندت بشكلٍ حاسم في كتابها «حياة الذهن» (1971) بين الرغبة في العيش والرغبة في العيش الكريم، أو بالأحرى الرغبة في حياة جيّدة. لم يكن البقاء بالنسبة لحنة آرندت ولن يكون هدفًا في ذاته، ما دام أن الحياة لم تكن أصلاً جيّدة. فالحياة الجيّدة وحدها تستحق أن تعاش. لقد وضعت بسهولة حلاً لهذه المشكلة السقراطيّة، ولكن - كما يبدو على الأقل - بشكل متسرع جدًا. لست متأكدة من أن إجابتها ستنقذنا في إغاثة، كما أني لست مقتنعة أنه ذات يوم ستكون إجابة فعّالة». فآرندت «تفصل أساسًا، حياة الجسد عن حياة الذهن، وبموجب هذا، أقامت في كتابها (شرط الإنسان الحديث)، تمييزًا بين الفضاء العمومي والفضاء الخاص. يضم الفضاء الخاص عالم الضرورة، إعادة إنتاج الحياة المادية، الجنسية، الحياة، الموت، والطابع الانتقالي للحياة. كانت تعتبر بشكل واضح، أن الفضاء الخاص يدعم الفضاء العمومي للفعل والفكر. ولكن السياسة في تصورها، تتحدد بالفعل، في الإحساس الفعّال بالكلام. كما يصير العمل اللّفظي، أيضًا، فعلاً سياسيا في الفضاء التداولي والعمومي، ما يجعل دخوله للفضاء العمومي ينطلق من الفضاء الخاص، وبالتالي فالفضاء السيّاسي يعتمد أساسًا على إعادة إنتاج الخصوصي كجسرٍ واضح، من الخاص إلى العام».
هكذا تصل بتلر إلى أن التحرك السيّاسي في الفضاء العمومي، لا يتم فقط عبر الجسد، على من طرق التجمع والغناء أو الهتاف، أو حتى الصمت في الشارع هي جزء لا يتجزأ من البعد الأدائي للسيّاسة، حيث يتحدد الخطاب كفعل جسدي من ضمن أفعال جسديّة أخرى. تتصرف الأجساد حينما تتكلم، وهذا مؤكد، ولكن الكلام ليس وحده طريقة للفعل بالنسبة للأجساد – ومن المؤكد أنه ليس وحده شكلاً للتّحرك السيّاسي.
تعتبر جودي من دعاة الحل الثالث للقضيّة الفلسطينيّة: البحث عن الاعتراف المتبادل بين الشعبين، أي تسويّة للعيش المشترك حيث الأمن والاستقرار. غير أن هذا الأمر يرتبط بالفلسطينيين وبقرارهم الذي تعتبره القرار الحاسم. وقد تذكرت موقف إدوارد سعيد الذي تراجع عن حل الدولتين حيث تقول: «من وجهة نظري أن شعوب هذه الأراضي، يهودًا وفلسطينيين، يجب أن يجدوا طريقة للعيش سويّة على أساس المساواة. ومثل الكثيرين، أتطلع إلى كيان ديمقراطي على هذه الأراضي، وأؤيد مبدأ تقرير المصير والعيش المشترك لكلا الشعبين، وفي الواقع، لكل الشعوب. وأمنيتي، كما هي أمنية عدد متزايد من اليهود وغير اليهود، أن ينتهي الاحتلال، ويتوقف العنف بكافة أشكاله، وأن يتم ضمان الحقوق السيّاسيّة الأساسيّة لكافة الشعوب في (هذه) الأرض عبر تركيبة سيّاسيّة جديدة». ويعود ذلك، إلى اكتشافها الفكر اليهودي في سن الرابعة عشرة من عمرها كما تقول (مجلة الفلسفة العدد 66): «تابعت الدروس حول الدين والعبريّة في معبدي بمدينة كليفلاند، كما اطلعت أيضا على الروايات والكتب حول إسرائيل والهولوكوست. لقد شغلتني هذه المسألة منذ مدة طويلة، وتحضر في الكثير من كتبي»، منها على سبيل المثال: «الخطاب المثير: سيّاسات الأداء» (1997)، و«الحياة النفسيّة للقوة: نظريّات في الإخضاع». وتشكل جودي مثالا لـ«المثقفة الجريئة المتعاطفة»، كما وصفها البيان التضامني للمثقفين الفلسطينيين بعد الهجوم الذي تعرضت له سنة 2012 إبان ترشيحها في ألمانيا. فهي عضو في الهيئة الاستشاريّة لـ«الصوت اليهودي من أجل السلام»، وممثلة في اللجنة التنفيذية لـ«أساتذة من أجل السلام الفلسطيني - الإسرائيلي، في الولايات المتحدة الأميركيّة»، وفي «مؤسسة مسرح الحريّة في جنين».
تطرح بتلر دومًا السؤال (مجلة ف ع 66): هل ينبغي لزوم الصمت؟ هل ينبغي إنكار الوضع اليهودي تحت ذريعة أننا لا نقبل سياسة إسرائيل؟ لا، فإسرائيل لا تمثل كل اليهود، والصهيونية ليست زعيمة اليهودية، لأنه «لا يمكنني شخصيًّا، أن أكون يومًا مناهضة للساميّة. كنت ساذجة! وصرخت أولاً، في وجه هذه الاتهامات في ألمانيا سنة 2012. حينما حصلت على جائزة أدورنو، بأن هذا ليس إلا لغوًا، ولكن ليس الأمر كذلك، إنه حقًا أمر جدي... كانت هذه التجربة صادمة، ومؤلمة جدًا. بالنسبة لليهودي، لا يوجد امتحان أسوأ. وبالنسبة لي كيهوديّة، لا يوجد ما هو أسوأ من الاتهام». وهي ترفض العنف تحت أي مبرر، حيث صرحت في محاضرتها سنة 2010 في الجامعة الأميركية بالقاهرة، في ذكرى إدوارد سعيد: «كنت دومًا ميَّالة إلى الفعل السيّاسي اللاعنفي»، و«إنه لصحيح أنني لا أؤيد ممارسة المقاومة العنفية، كما لا أؤيد عنف الدولة، ولا يمكنني تأييد ذلك، ولم أفعل ذلك يومًا»، وهذا ما تؤكده كتاباتها في هذا المضمار: «حياة قلقة – مستباحة: قوى العنف والعزاء»؛ و«أطر الحرب: متى يؤسى على الحياة؟»؛ و«طرق متفرقة: اليهودية ونقد الصهيونية»؛ «حياة هشة»: حول سلطة العنف والمآثم بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!