ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن

معركة رئاسة بلدية العاصمة البريطانية تعكس تعدديتها الثقافية الغنية

ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن
TT

ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن

ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن

لا جدال في أن العاصمة البريطانية لندن تعد في طليعة مدن العالم «الكوزموبوليتانية»، حيث تتعدد الثقافات وفي كثير من الأحيان تتزاوج وتنصهر. وخلال العام المقبل، بعدما يودّع العمدة الحالي والسياسي والإعلامي المحافظ بوريس جونسون، الذي كان جدّه لأبيه تركيًا مسلمًا اسمه عثمان كمال، سيخلفه الفائز من انتخابات يخوضها الحزبان الكبيران، حزب المحافظين وحزب العمال، بمرشحين شابين يجسدّان مجددًا هوية لندن وتعدديتها الدينية والثقافية واهتماماتها الاقتصادية والبيئة والاجتماعية.
أصلاً، لندن اعتادت على انتخاب شخصيات تتمتع بالجاذبية الشخصية الكبيرة، ولئن كان العمدة الحالي جونسون يُعدّ من أكثر الساسة المحافظين شعبية، وينظر إليه كثيرون على أنه الشخصية الأنسب لخلافة ديفيد كاميرون في زعامة الحزب، وبالتالي رئاسة الحكومة، فإن العمال سبق لهم أن انتخبوا كين ليفنغستون. وكان ليفنغستون، ذلك السياسي اليساري المتشدد اللامع، الرجل الذي صادم مارغريت ثاتشر في عزّ سطوتها، وبلغ تخوّفها من شعبيته وجاذبيته الجماهيرية حد اتخاذها قرار إلغاء المجلس البلدي الموحّد للندن الكبرى بمناطقها الـ15 والاكتفاء بالمجالس المحلية لكل من هذه المناطق.
تنبع أهمية منصب عمدة لندن من المكانة الاستثنائية للعاصمة البريطانية ذاتها. فليست كل مدينة في بريطانيا بمستوى لندن، سواءً من حيث حجمها السكاني، أو مكانتها المالية والاقتصادية والخدماتية والسياحية والثقافية، أو صورتها المميزة كـ«عاصمة عالمية»... لا تنافسها في هذا سوى حواضر قليلة بالكاد تعد على أصابع اليد الواحدة، مثل نيويورك وباريس وطوكيو وبرلين.
وبالتالي، يوفر منصب عمدة لندن لشاغله إطلالتين: إطلالة وطنية كونه رئيس أكبر سلطة محلية منتخبة على مستوى بريطانيا، وإطلالة دولية كون لندن إحدى «العواصم العالمية» القليلة التي تستقطب الرساميل والاستثمارات والسياح، ناهيك من مجتمعات الأعمال، وتجتذب بخدماتها المتطورة كل فئات المجتمع. خلال الأسابيع القليلة الفائتة حسم الحزبان البريطانيان الكبيران معركتيهما الداخليتين، ففاز عضو مجلس العموم البريطاني زاك غولدسميث، بفارق كبير، بترشيح حزب المحافظين الحاكم لمنصب عمدة العاصمة. وكان قد سبقه عضو مجلس العموم والوزير العمالي السابق صديق خان بالفوز بترشيح حزب العمال لهذا المنصب المرموق.
المرشحان «أربعينيان» ينتمي كل منهما إلى التيار التجديدي المعتدل في حزبه، وهما يمثلان دائرتين انتخابيتين في جنوب لندن. ولكن عند هذه النقطة تتوقّف المقارنات، إذ إن خلفيتيهما الاجتماعيتين تختلفان اختلافًا جذريًا.
* البرامج مطلبية
من يعرف مناخات السياسة البريطانية يدرك أن الناخب البريطاني إنما يقترع بناء على البرامج السياسية التي تطرحها الأحزاب، وهو وإن تأثر بعوامل شخصية هنا أو دينية هناك تظل المعايير معايير مطلبية ومصلحية في المقام الأول. وهذا الواقع يتضح أكثر في صفوف التيارين اليميني في حزب المحافظين واليساري في حزب العمال حيث يلعب الولاء الطبقي والمستوى المعيشي – لجهة الدخل – الدور الأساسي في أولويات المحازبين والحركيين الملتزمين.
وهكذا، بصفة عامة، تصوّت المناطق حيث تشكل الملكية العقارية الفردية نسبة غالبة من مجموع التوزع العقاري لحزب المحافظين. كذلك يتمتع هذا الحزب بتأييد سكان الضواحي الراقية خارج المدن الصناعية. أما حزب العمال فيحصل على النسبة أعلى من التأييد في المناطق والأحياء الفقيرة، حيث يكثر الإسكان الشعبي، وكذلك في البيئات الصناعية التقليدية، وحتى الأمس القريب في مناطق المناجم. وفي ضوء هذا الواقع يلاحظ أن في صميم برامج المحافظين السياسية والانتخابية تحفيز المبادرة الفردية ومكافأة الطبقة الميسورة والطبقة ما دون الوسطى بخفض الضرائب وخفض الإنفاق على الخدمات العامة وتحرير الرساميل في أيدي أصحابها. وفي المقابل، تحرص البرامج السياسية والانتخابية للعمال على تعزيز والإنفاق على الخدمات العامة التي تشكل شبكة أمان للفقراء والعاطلين عن العمل والعائلات الكبيرة من الطبقات الفقيرة ما دون الوسطى.
ولكن خلال الفترة منذ عام 1978 جرّب الحزبان الكبيران التطرّف والاعتدال. وأيضًا اقترب الحزبان في عدة مراحل زمنية من مواقع وسط الساحة، إذ لم يكن هناك فوارق آيديولوجية تذكر بين المعتدلين من الحزبين، مثل توني بلير العمالي المعتدل وديفيد كاميرون المحافظ المعتدل، بينما توجد فوارق هائلة بين الجناحين الراديكاليين فيهما.
* أهمية كسب غير الملتزمين
اليوم الحزبان يعدان العدة لخوض انتخابات المجلس البلدي للندن بشخصيتين تتمتعان بشعبية لا تنكر كل داخل حزبه. ويكاد يكون هناك شبه إجماع على أن أيًا منهما لا يعبّر عن الجماعات الراديكالية المتزمتة داخل الحزبين، وذلك لأن من مصلحة الحزبين كسب أوسع حيّز ممكن من جمهور الناخبين غير الملتزمين، وأولئك الذين يقترعون على أساس قضية مطلبية بعينها بمعزل عن الهوى الآيديولوجي.
وبالتالي، اختار المحافظون مرشحًا مهتمًا جدًا بالبيئة – بل هدّد بالوقوف ضد حزبه إذا تبنى الحزب خطط توسيع مطار هيثرو – لكي يسحب أصوات ناخبين يمكن أن يصوّتوا لمرشح حزب «الخضر». ومن جهتهم، اختار العمال مرشحًا ذا خبرة كبرى في الحكم المحلي (البلديات) والنقل، وهما قطاعات يمسان حياة الناس مباشرة، لأنهم يأملون أن يكسب نسبة عالية من الأصوات التي قد تذهب للديمقراطيين الأحرار، وكذلك «الخضر» وبعض القوى المطلبية الصغيرة.
* زاك غولدسميث.. الأرستقراطي الثري
زاك غولدسميث (40 سنة)، واسمه الكامل فرانك زكارياس روبن غولدسميث، ولد يوم 20 يناير (كانون الثاني) 1975 في العاصمة البريطانية لندن. وهو ابن رجل الأعمال الملياردير السير جيمس غولدسميث، المتحدّر من أسرة يهودية ألمانية ثرية، وزوجته الثالثة الليدي آنابيل فاين - تمبست ستيوارت، وهي سيدة أرستقراطية من أصول إنجليزية – آيرلندية.
تربّى زاك مع شقيقيه جيما وبن في قصر العائلة في الضواحي الجنوبية الخضراء للندن على ضفاف التيمس، ودرس ثم تخرج في كلية إيتون، إحدى أعرق وأرقى مدارس العالم الخاصة، غير أنه لم يتابع دراسته الجامعية، بل جال في مختلف أنحاء العالم ونمت عنده اهتمامات كبير بمسائل حماية البيئة. وبناءً عليه أسند إليه عمه إدوارد غولدسميث عام 1997 منصبًا تحريريًا في مجلة «ذي إيكولوجيست» البيئية التي كان العم قد أسسها وتولى نشرها. وفي العام التالي أسندت إليه رئاسة تحريرها وإدارتها، غير أنه عندما قرر خوض غمار السياسة عام 2006 تخلى عن منصبيه في المجلة، وإن ظل يكتب عن البيئة في عدد من الصحف والمجلات البريطانية الكبرى.
عام 2005 عينه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون نائبًا لرئيس مجموعة «فريق سياسة نوعية الحياة» معاونًا لرئيسها الوزير السابق اللورد ديبين (جون سلوين – غامر). وعام 2010 رشحه حزب المحافظين لخوض الانتخابات عن دائرة ريتشموند بارك وفاز بالمعقد البرلماني، منتزعًا إياه من حزب الديمقراطيين الأحرار. وكرر فوزه بالمقعد في الانتخابات العامة الأخيرة في الربيع الفائت بغالبية كبيرة من الأصوات بلغت أكثر من 23 ألف صوت عن أقرب منافسيه. ولدى تحضير الحزب لانتخابات منصب عمدة لندن دخل غولدسميث حلبة المنافسة داخل الحزب وفاز بغالبية ضخمة أيضًا، إذ حصل على 6514 صوتًا مقابل 1488 صوتًا فقط لأقرب منافسه عضو البرلمان الأوروبي سعيد كمال. وهكذا تأهل لخوض المعركة في وجه مرشحي عدة قوى، في مقدمتها حزب العمال.
زاك غولدسميث، تزوّج مرتين، وهو أب لأربعة أولاد. وحاليًا يسكن في حي بارنز الراقي جنوب نهر التيمس بجنوب غربي لندن، وتقدّر المصادر أنه ورث عن أبيه بعد وفاته ثروة تقدّر بما بين 200 و300 مليون جنيه إسترليني. وتجدر الإشارة إلى أن شقيقته جيما غولدسميث - خان، التي اعتنقت الإسلام، كانت متزوجة بلاعب الكريكيت الباكستاني العالمي عمران خان، الذي اقتحم مثل شقيقها غمار السياسة في باكستان. وحصلت على شهادة الماجستير في الفكر الإسلامي المعاصر من معهد الدراسات الشرقية الأفريقية بجامعة لندن.
* صديق خان.. العصامي الطموح
بعكس التربية الأرستقراطية لآل غولدسميث، فإن المرشح العمالي صديق خان (45 سنة) رجل عصامي، كان أبوه المهاجر الباكستاني المسلم سائق حافلة وتعمل أمه في الخياطة، لكنه نجح في حياته المهنية والسياسية ليغدو عام 2008 ثاني مسلم في تاريخ بريطاني يصبح وزيرًا.
ولد صديق عمران خان يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) 1970 في لندن ونشأ في مجمع إسكان شعبي بحي إيرلزفيلد بجنوب المدينة. وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرستين حكوميتين قبل أن يلتحق بجامعة شمال لندن لدراسة الحقوق. ومن ثم مارس صديق تدريس الحقوق، وكذلك زاول مهنة المحاماة بنجاح، بل وانتخب في عدة مواقع قيادية في الجمعيات الخاصة المهتمة بالحقوق المدنية.
من جانب آخر، انجذب صديق للسياسة، وخاض غمار العمل البلدي في صفوف حزب العمال، فانتخب عضوًا في المجلس البلدي لمنطقة وانزوورث بجنوب لندن عام 1994 ممثلاً حي توتينغ، واحتفظ بمقعده في المجلس حتى عام 2006. وعام 2005 دخل مجلس العموم لأول مرة بعد فوزه في الانتخابات عن دائرة توتينغ، واحتفظ بمقعده البرلماني عام 2010، ثم في الانتخابات الأخيرة خلال العام الحالي.
في أكتوبر 2008، بعد تعديل حكومي أجراه رئيس الوزراء حينذاك غوردن براون، عين صديق خان وزير دولة للجاليات والتجمعات المحلية، فبات ثاني مسلم يتولى الوزارة في بريطانيا.
وعام 2009 عين وزيرا للنقل ودخل مجلس الوزراء المصغّر. وهو اليوم، «وزير في حكومة الظل» العمالية لشؤون لندن. تمكن يوم 15 سبتمبر (أيلول) الماضي من حسم معركة ترشيح حزبه لمنصب العمدة حاصلاً على 48152 صوتًا، أي ما نسبته نحو 59 في المائة من الأصوات، متغلبًا على منافسته الأقوى الوزيرة السابقة تيسا جاويل التي حصلت على أكثر بقليل من 41 في المائة من الأصوات.
المرشح العمالي متزوج منذ عام 1994 وزوجته مسلمة اسمها سعدية، وهو أب لثلاثة أولاد.
* الأحزاب الأخرى
المعركة في لندن مفتوحة أمام عدة أحزاب ولا تقتصر بحال من الأحوال على المحافظين والعمال، ففي وسط الساحة الآيديولوجية هناك حزب الديمقراطيين الأحرار، الوسطي الليبرالي الذي ورث المبادئ الليبرالية من حزب الأحرار العريق. وفي يمينها هناك حزب «استقلال المملكة المتحدة» النازع للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، والمناوئ بشدة للهجرة، وعلى يسارها يعد حزب «الخضر» البيئي إحدى أبرز قوى اليسار والقوى البيئية التي تتصادم أولوياتها مع التنمية السريعة وتخويل القطاع الخاص بكل شيء. أيضًا هناك جماعات هامشية متطرفة في اليمين واليسار، تجمعات مصلحية تدافع عن مطالب محلية أو آنية محددة، ولا ترضى بتذويبها أو تخفيفها في جدل سياسي عام يضيع بوصلتها ويضعف زخم الدفاع عنها.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.