«بالخلاص يا شباب».. قسوة الجلاد وصلابة الضحية

أمضى ياسين 16 عامًا في السجون السورية من دون تهمة

غلاف «بالخلاص يا شباب»
غلاف «بالخلاص يا شباب»
TT

«بالخلاص يا شباب».. قسوة الجلاد وصلابة الضحية

غلاف «بالخلاص يا شباب»
غلاف «بالخلاص يا شباب»

لم ينل أدب السجون في سوريا حقه من الرصد والدراسة والتحليل رغم الإصدارات الكثيرة التي ظهرت في هذا المضمار ويكفي أن نشير إلى رواية «السجن» لنبيل سليمان، و«القوقعة» لمصطفى خليفة، وسواها من الشهادات واليوميات التي توثق تجارب السجون في سوريا منذ سبعينات القرن الماضي وحتى الوقت الراهن. وتجربة «بالخلاص يا شباب» للكاتب السوري ياسين الحاج صالح هي واحدة من التجارب المهمة التي وثقت لوجوده في ثلاثة سجون وهي المسلمية في حلب، وعدرا في دمشق، وسجن تدْمر الصحراوي.
يتضمن هذا الكتاب مقدمة وعشر مواد أساسية أربكت الكاتب في تصنيفها وجعلته يعتقد بأنها لا تنتمي إلى «أدب السجون» ولا حتى إلى السيرة الذاتية لسجين، كما نفى أن تكون بحثًا اجتماعيًا أو وثيقة حقوقية تفضح نظام البعث السوري، لكنه يعتقد بالمقابل بأنّ ما يوحِّد هذه النصوص هو إحالتها المشتركة إلى السجن ويأمل بتحويلها إلى موضوع ثقافي يقوّض بواسطته الجوانب الأسطورية للسجين السياسي التي صنعها شغف الناس بالأساطير والأبطال.
تشير الوقائع الأساسية التي تصدرت الكتاب إلى أن الراوي ياسين الحاج صالح قد سُجن عام 1980 وأخلي سبيله في عام 1996، أي بعد أن أمضى في السجن 16 عامًا و14 يومًا بالتمام والكمال. كان الراوي في يوم اعتقاله طالبًا في كلية الطب بجامعة حلب، كما كان عضوًا في «الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي» الذي يُعتبر مناهضًا لحزب السلطة ومناوئًا لها.
سُجن الراوي من دون تُهمة محددة، وتعرّض إلى تعذيب معتدل بواسطة «الدولاب» و«بساط الريح». وبعد أن أمضى 15 سنة في سجنَي المسلمية وعدرا نُقل إلى سجن تدْمر الرهيب الذي تُهيمن عليه ثلاثة اشتراطات رئيسية وهي أن تكون الرؤوس مُنكَّسة بحجة أنهم «لم يفعلوا شيئا يرفع الرأس!»، وأن يكون الكلام همسًا كي لا ترتفع أصواتهم مستقبلاً، وأن تكون شعور رؤوسهم وذقونهم وشواربهم حليقة كي يشعروا بالمهانة والاستصغار.
لم يكتفِ النظام السوري المستبِد في سبعينات القرن الماضي باستيراد مختلف أجهزة التعذيب من دول أوروبا الشرقية وإنما استدعى خبراءها كي يفيد منهم في شؤون التحقيق، وانتزاع الاعترافات، و«تربية» السجناء فلا غرابة أن يستقبل الجلادون السوريون ضحاياهم بـ«التشريفة» وهي حفلة «فلقة» تصل إلى 100 ضربة كيبل على باطن القدمين للشيوعيين وإلى 500 ضربة للإسلاميين بحجة شراستهم ودمويتهم. والهدف من هذه الحفلة «التشريفية» هي كسر عين السجين لا غير!
يتمحور النص الثاني على ترويض وحش السجن، وبإمكان السجين أن يروض هذا الوحش بأدوات مختلفة مثل القراءة، والكتابة، وتعلّم اللغات الأجنبية، والانغماس في أشغال الإبرة، وصناعة المسابح، ولعب الشطرنج والورق والنرد وما إلى ذلك. وأكثر ما يُروّض هذا الوحش هو زيارة الأهل فهي «مناسبة لتنظيم جريان الزمن وضبط تدفقه» (ص33). كما أنها تُخرج الزمن العتيق المتراكم داخل أقبية السجن وتستبدله بزمن طازج يُنظِّم موعد الزيارة المقبلة ويدوْزن إيقاعها من دون إرباك كما يحصل لأصحاب الزيارات غير المُنتَظمة. تجلب الزيارات، فضلاً عن أخبار الأهل، الإشاعات التي تُروِّج للإفراج عن السجناء، ومصدرها إما الأجهزة الأمنية أو تمنيات الأهالي في مناسبات شتّى مثل «الحركة التصحيحية» وأعياد الفطر والأضحى ورأس السنة.
تجدر الإشارة إلى أنّ أي سجين سوري لم يخرج بعد إنهاء محكوميته إلا بعد مضي عدة أشهر أو أعوام ربما من سنوات حكمه الأصلي ما لم يجتز اختبار «المساومة» التي تُعتبر ضربًا من التدريب على الخيانة، والموافقة على «التعاون» مع الأجهزة الأمنية من خلال الوشاية وكتابة التقارير عن أصدقائه ورفاق دربه. وهذا «التعاون» من وجهة نظرهم هو تعبير عن «حُسن نيّة» السجين إزاء الدولة!
لا يخرج السجين مباشرة إلى أهله، وإنما يُنقل إلى سجن اعتيادي أخف وطأة كي يرمم نفسه خلال عدة أسابيع أو شهور ربما، ولكي يتم «تعييرهم على الزمن العائلي والوطني والعالمي كما تُعيّر الساعة على ساعة قياسية» (ص40). كما يتدربون على رفع رؤوسهم وأصواتهم، ويتعلمون من جديد كيفية النظر إلى عيون الناس المحيطين بهم. لعل الأهم في هذا النص هو موقف القاص هيثم الخوجة الذي رفض التصويت في تجديد البيعة لرئيس النظام فانهالوا عليه بالضرب المبرِّح لأن صوته كان الأعلى نبرة في الاحتجاج.
قد يخرج النص الثالث من سيرته الفردية إلى الفضاء الجمعي لسجناء «المسلمية» الذي أمضى فيه الراوي 11 عامًا و4 أشهر وهي المدة الأطول التي قضاها في السجون الثلاثة آنفة الذكر حيث نكتشف أن السجناء السياسيين غالبيتهم من الطلبة الذين كانوا متذمرين من طبيعة الحكم الاستبدادي حتى أن أحدهم قد هتف: «لا دراسة ولا تدريس - حتى يسقط الرئيس» لكن أحدًا لم يستجب له خصوصا أن عناصر المخابرات قد بدأت بإطلاق النار فوق رؤوس المحتجين الذين تبددوا في الحال.
يُعتبر السماح بإدخال الكتب إلى السجن حدثًا مفصليًا في حياة السجناء الذين سوف يصبح بعضهم كُتّابًا وصحافيين أو مثقفين في أضعف الأحوال رغم أن غالبية هذه الكتب فلسفية صعبة الفهم لمفكرين من طراز هيغل وإدوارد سعيد وعبد الله العروي وغيرهم. ثم يوضِّح لنا الراوي حصيلته من فهم هذه الكتب العويصة ودرجات التطور التي طرأت عليه في الأشهر اللاحقة.
ينطوي هذا النص على مفارقة مفادها أن غالبية السجناء سياسيين ومع ذلك فإن بعض الجلادين من أمراء المفارز يطلبون منهم أن يهتفوا: «بالروح، بالدم، نفديك يا حافظ» لكن الكثير من السجناء امتنعوا من الهتاف فانهالوا عليهم بالضرب المبرّح وحينما شعروا بأن الأمر سيفلت من أيديهم قرروا إنهاء هذه الدراما المحتدمة بعد أن تصرف الراوي بانفعال وضرب رأسه بالحائط احتجاجًا على الجلادين الذين أوسعوا رفيقه أسامة شاكر ضربا، فيما حاول شخص آخر الانتحار لكنه لم يفلح في حزّ شرايين ذراعه بغطاء علبة مربي.
لا تخلو إدارات السجون من شخصيات منافقة تتملق النظام ليل نهار، فالسجّان «أبو رائد» كان ينشد لحافظ الأسد على الدوام هذه الأغنية التي يقول مطلعها: «لوحي بمنديلك لوحي - حزب البعث يا روحي - من بعدك أبو باسل - سوريا وين تروحي؟».
ثمة أسباب ثلاثة لمنع رفع النظر إلى الجلادين وهي ترويع السجناء، ومنع وقوع أي تواطؤ بين السجين والسجّان، والحؤول دون التعرّف على الجلادين والانتقام منهم مستقبلا.
تندرج هذه النصوص الثلاثة في خانة «أدب السجون»، بل إنها سيرة ذاتية للراوي نفسه خصوصا أن اسم الكائن السيري الصريح مدوّن على غلاف الكتاب الذي ينطوي على بعض اليوميات والمذكرات الشخصية المحايثة لأدب السيرة الذاتية. أما الحوارات والمقالات الآخر فهي تنتمي من دون شك إلى أجناس أدبية معروفة وقد ساهمت في إعطاء القارئ صورة واضحة عن قسوة نظام الأسد الأب، وبشاعة الابن الذي سامَ السوريين المعارضين سوء العذاب وعلى رأسهم عشرات الآلاف من المنتمين إلى أحزاب إسلامية ويسارية وناصرية وكردية.
يقدِّم الكاتب لمحة عن تاريخ الاعتقال السياسي في سوريا منذ 1958 كما يتحدث عن مثقفي السجون السورية، ويخلص إلى القول بأن ما كُتب عن السجن حتى اليوم هو قليل جدًا قياسًا بحجم التجارب القاسية التي عانى منها السجناء السياسيون السوريون.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.