ما هي الدول التي تحتاجها البشرية في الألفية الثالثة؟

هانز آدم الثاني يرسم صورتها ويعتبر الديمقراطية خاصيتها الأساسية

ما هي الدول التي تحتاجها البشرية في الألفية الثالثة؟
TT
20

ما هي الدول التي تحتاجها البشرية في الألفية الثالثة؟

ما هي الدول التي تحتاجها البشرية في الألفية الثالثة؟

أضحى سؤال الدولة سؤالا مهمّا جدا في زمننا المعاصر، ففي ظل الأوجه والأشكال المتباينة للدولة، علمانية، دينية، قومية، اشتراكية، ليبرالية، وفي ظل تعدد الأهداف وتنوع الآيديولوجيات، أصبح من الصعب أن نجيب عن السؤال: أي دولة نريد؟ خصوصا أننا في الألفية الثالثة وما يفرضه ذلك علينا من تحديات لا يمكن الاستهانة بها، وإن كان هذا السؤال مهمّا في العالم الغربي، فأهميته عندنا مضاعفة، في ظل واقع الحكم في بلداننا العربية والإسلامية وما تعانيه، في دول لا تمت بصلة إلى ما تطمح إليه الألفية الثالثة، دول أصبحت فضاء للموت عوض أن تكون مجالا للحياة.
للإجابة عن هذا السؤال، ارتأيت قراءة كتاب أمير إمارة ليشتنشتاين هانز آدم الثاني «الدولة في الألفية الثالثة»، ترجمة حسان البستاني، إصدار «الدار العربية للعلوم - ناشرون». في هذا الكتاب يحاول هانز آدم الثاني تقديم وصفة سياسية لإنشاء دولة تصلح للألفية الثالثة، يكون بإمكانها تلبية أماني البشر وحاجاتهم وخدمة المواطن، عوض أن تكون تهديدا حقيقيا لحياته ووجوده، خصوصا أن الكتاب يجمع بين الماضي والحاضر، ويقدم رؤية تاريخية تستخلص منها ملامح الدولة المستقبلية من رئيس دولة منتخب عن طريق ديمقراطية مباشرة، رجل عارف بأحوال السياسة فكرا وممارسة. فكيف تكون دولة الألفية الثالثة؟ ما أهم ملامحها؟ وما الآليات الأساسية لأجل إحقاقها؟

أولا: الدولة شركة والمواطن مساهم

يرى هانز آدم الثاني بأن البشر قد يحققون نجاحا كبيرا في الألفية الثالثة إذا تمكنوا من تحويل كل الدول إلى شركات خدمات تعمل لصالح الشعوب، الهدف الأول والأخير لها هو خدمة المواطن من دون الإغراق في أهداف قومية أو هوياتية معينة، قد تجلب على الناس مشكلات لا يمكن حصرها، مثلما يحدث في كثير من دول العالم المعاصر حاليا، التي بدلا من الانكباب على خدمة المواطن، تخلق لنفسها قضايا كبيرة جدا تضيع فيها كل الطاقات والإمكانات التي يمكن أن تستثمر لمصلحة الناس وتحقيق ما يصبون إليه. إن دولة المستقبل في نظر هانز آدم الثاني تنظر إلى المواطن باعتباره زبونا للشركة الدولة، ومساهما فيها في الوقت نفسه، له كل الحق في الوجود والاختيار وليس عنصرا مضافا ينتظر ما يمكن للدولة أن تجود به عليه من حسنات. هكذا يصبح من الواجب على الموظفين الرسميين في الدولة التصرف مع زبائنهم كموظفين في شركة خدمات يستحقون كل العناية والتقدير والاحترام، ما داموا هم مساهمين في تلك الدولة، أو بالأحرى الشركة، ويدفع لهم نصيبهم من الأرباح، كما يكون بإمكانههم أن يبيعوا أسهمهم إذا لم يكونوا مسرورين لسياسة الإدارة، الشيء الذي يفرض على دولة المستقبل أن تناضل لأجل زبائنها، من خلال منافسة سلمية على أساس الخدمة الجيدة والفعالة والسعر المقبول، فإذا لم يتوفر هذا الشرط يمكن للمواطن شراء أسهم في شركة أخرى بالمبلغ نفسه وفي اليوم نفسه، أو استخدام المال في أمر آخر، فتصبح للزبون القدرة على الاختيار كما يختار بين برغر كينغ أو إعدادها بنفسه، أو كما يختار بين سيارة ثنائية الدفع أو رباعيته.
في دولة تكون مهمتها الرئيسة في السياسة المحلية حكم القانون، يكون الشرطي في العادة الممثل الأكثر أهمية لها أمام المواطنين، حيث يقوم الشرطي مقام النادل، والمجلس التشريعي مقام المطبخ، ولا يشعر الزبائن بالسعادة ويزورون المطعم مرة أخرى إلا إذا كانت الخدمة ودودة وفعالة والطعام جيدا والأسعار منخفظة. وهذا ما لا يمكن تحقيقه إلا إذا اعتبرت الدولة مؤسسة تخدم الشعب، وليس العكس، فهي شركة خدمات تخوض منافسة سلمية، وليست احتكارا يضع الزبون أمام خيارين، قبول خدمة سيئة بأعلى الأسعار أو الهجرة.

ثانيا: تقرير المصير حق أساسي

في كلمة ألقاها هانز آدم الثاني عام 1992 في جامعة برينستون نيوجرسي، قال بأن حق تقرير المصير يفسر بحيث يكون وسيلة لتجنب إراقة الدماء والدخول في نزاعات. فعوض أن تقمع الأقليات أو تطرد أو تباد، يمكن أن تحتضن أو يمنح لها حق تقرير المصير. فالقومية دمرت إمبراطوريات عدة، وتسببت في كوارث سياسية في أوروبا في القرن العشرين، ومارست تأثيراتها الهدامة داخل أوروبا وخارجها. كما أن التاريخ يظهر أن الدول الكبرى بإمكانها الاستمرار، على الرغم من التنوع العرقي والثقافي الذي يمكن أن تتوفر عليه. فأوروبا لم يكن بإمكانها أن تصير قوة مستمرة إلا عندما استطاعت أن تتحد وتضم، داخلها، مرجعيات مختلفة ومتنوعة. ولنرَ، على سبيل المثال، ما يمكن أن يجنبنا الاعتراف بحق الآخرين في تقرير المصير من مساوئ، ما حدث في يوغوسلافيا عندما رفضت في الاعتراف بحق إقليم كوسوفو في تقرير المصير، لتدخل في حرب إبادة لولا تدخل حلف الناتو في حرب لا تزال بصمتها واضحة في ذاكرة أوروبا المعاصرة.

ثالثا: النظام
السياسي لدولة المستقبل
يمكن أن يعتمد النظام السياسي لدولة المستقبل على ديمقراطية مباشرة، مثل تلك التي تسود في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يجري انتخاب مرشحي أحزاب سياسية يمثلون الشعب في مناصب محلية ومناطقية ووطنية، على أساس برنامج سياسي محدد، وفصل سلطات محدد بشكل دقيق، مع وجود محكمة دستورية عليا تملك سلطة إلغاء القوانين والمراسيم، بالإضافة إلى ضرورة وجود نظام قضائي مستقل، وفصل واضح بين الدين والدولة. كما يمكن أن تعتمد دولة المستقبل على ديمقراطية مباشرة، يكون بموجبها من حق الشعب اتخاذ قرارات هامة بنفسه عن طريق الاقتراع المباشر، كما هو معمول به في سويسرا، حيث ينطلق القرار من الجماعات السكانية صعودا إلى مركز القرار، فينتخب أعضاء الحكومة من الشعب مباشرة، حيث لا يختصر الحق السياسي للشعب على انتخاب ممثلين له، يقومون، بعد ذلك، باتخاذ كل القرارات نيابة عنه، بل يحق للشعب اتخاذ قرارات هامة بنفسه عن طريق الاستفتاء العام، الذي يمنح الشعب حق الاقتراع وحق التقدم بمبادرات من خلال عدد محدد قانونيا من التواقيع التي تقترح إحداث تغيير ما في الدستور والقانون.
إن الديمقراطية خاصية أساسية في دولة المستقبل، تضاف إلى تقرير المصير. فإما نعتقد أن الدولة هي كيان إلهي يجب على الشعب أن يخدمه، ولا تكون حدود هذا الكيان موضع تساؤل، وإما نعتقد بمبدأ الديمقراطية وأن الدولة أوجدها الشعب لخدمة هذا الشعب. وحدها الديمقراطية القوية، ووضع حد لاحتكار الدولة على أراضيها، يحولان الدولة في الألفية الثالثة، إلى شركات خدمات تخدم الشعب. ويبدو أن هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان عدم سوء استخدام الأفراد الحاكمين والنخب الحاكمة للدولة في قمع الشعب ونهبه.

رابعا: النظام الاجتماعي

تلتزم دولة المستقبل بتحمل واجباتها الاجتماعية، كتوفير تعليم جيد، والقضاء على البطالة، ودعم العدالة الاجتماعية، وفرض سياسة ضريبية أكثر عدلا.
لا يمكن القضاء على البطالة في دولة المستقبل في نظر هانز آدم الثاني، إلا من خلال تشجيع الشركات على المنافسة في الاقتصاد المعولم لاستحداث أعمال جديدة، وقيام النظام التربوي بلعب دور مركزي في القضاء على الظاهرة، بالإضافة إلى منح الجماعات السكانية مهمة دعم العاطلين عن العمل. أما في ما يخص النظام التربوي، فلا يجب أن يتعدى دور الدولة وضع الإطار القانوني فقط، وفسح المجال لقيام نظام تعليمي مخصخص، يمول بواسطة القسائم التي تمول السلطات العامة اليوم، سواء أكانت حكومة مركزية أم محلية، من خلال دعم مالي مباشر. وبدلا من استخدام أموال دافعي الضرائب لتمويل النظام التربوي، من الأفضل تقديم المعونات المالية إلى الأهالي أو الطلاب ليتمكنوا بأنفسهم من اختيار المدرسة التي يعتبرونها الأفضل برأيهم. ويكون على المدارس الأخرى، تطوير ذاتها أو الانسحاب من السوق. كما أن دولة المستقبل يجب أن تتوفر على نظام ضريبي عادل. فعوض أن يستفيد الأثرياء من الضرائب، على الرغم أنهم يستهلكون بشكل أكبر، يجب على الضرائب أن تكون أكثر مساواة وإنصافا.
هكذا تكون دولة المستقبل قد جعلت من المواطن حجر الزاوية في كل فعل وفي كل قرار، فقد أعطته كل الحقوق وألزمته بكل المسؤوليات، ما دامت هذه الدولة تنطلق منه وتعود إليه، وإن كان يبدو للوهلة الأولى، بأن هذه الدولة تبقى بمثابة حلم من الصعب الوصول إليه، فلنعلم بأن هذه هي دولة المستقبل، إنها دولة الألفية الثالثة، وعلى الرغم من أن الوصول إلى هذا النموذج يبقى صعبا جدا، لكن هذا لا يعني أن على المجتمعات أن لا تسعى إليه أو تحاول الاقتراب منه.



أنوار البابا الطيب

البابا في العراق (أ.ب)
البابا في العراق (أ.ب)
TT
20

أنوار البابا الطيب

البابا في العراق (أ.ب)
البابا في العراق (أ.ب)

لماذا ننعته بـ«الطيب»؟ لأنه جعل من الانفتاح على الإسلام والمسلمين أحد المحاور الأساسية لعهدته البابوية. وقد لقيتْ مبادراته أصداء واسعة في كلا العالمَين العربي والإسلامي. وربما كانت أجمل صورة سيحتفظ بها التاريخ عنه هي عندما رأيناه يوقِّع في أبوظبي على وثيقة «الأخوة الإنسانية» مع شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، بتاريخ 4 فبراير (شباط) عام 2019. عندئذٍ تَعانق الإسلام والمسيحية لأول مرة على الأرض العربية من خلال هاتين الشخصيَّتين الدينيَّتين الكبيرتين. وهي الوثيقة التي تدعو إلى السلام العالمي والعيش المشترك بين الأمم. إنها تدعو إلى الحوار والتعاون والتفاهم بين مختلف الأديان والأقوام والشعوب. وهذا يمثل تطبيقاً حرفياً أو شبه حرفي للآية الكريمة التي تقول: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...» (الحجرات الآية 13).

ولكن المصيبة هي أن التيار الآخر المتشدد الذي يجتاح العالمَين العربي والإسلامي حالياً يرفض هذا الانفتاح والحوار والتعايش. إنه يراهن على الانغلاق والتعصب وإثارة النعرات الدينية والمذهبية وتهييجها إلى أقصى حدٍّ ممكن. فأي التيارين سوف ينتصر يا ترى؟ هل التيار الظلامي هو الذي سينتصر أم التيار الأنواري؟ هل المسلمون الحقيقيون هم الذين سينتصرون أم المتأسلمون المتاجرون بالدين كما يقول ممدوح المهيني في مقالة رائعة هنا في «الشرق الأوسط»؟ بناء على انتصار هذا التيار أو ذاك سوف يُحسم مصير العرب والمسلمين ككل. ليس لدينا أدنى شك في أن تيار الانفتاح والتقدم هو الذي سوف ينتصر في نهاية المطاف؛ لأنه يتماشى مع حركة التاريخ؛ ولأن العرب صناع حضارات كما برهنوا على ذلك في الماضي إبان العصور الذهبية. وليس لدينا أدنى شك في أن تيار التعصب والانغلاق سوف ينهزم؛ لأنه مضاد لحركة التاريخ. ولكن متى سيتحقق ذلك؟ المعركة لن تكون سهلة ميسورة، وإنما صعبة وضارية. هذا أقل ما يمكن أن يقال. قوى الماضي التي تشد إلى الخلف لا تزال حتى الآن أقوى من قوى المستقبل التي تشد إلى الأمام. القوى الظلامية الشعبوية الراسخة طيلة عصور الانحطاط لا تزال أقوى من القوى النهضوية التنويرية التي تبزغ أنوارها حالياً في شتى ربوع العالم العربي.

لتوضيح هذه النقطة أكثر، دعونا نَعُدْ إلى البابا ذاته وإلى تاريخ الأديان المقارنة. فعن طريق المقارنة تتوضح الأشياء. و«من لا يقارن لا يعرف» كما يقول المثل الصيني. لقد عبَّر البابا يوماً ما عن خطورة الحزازات المذهبية داخل المسيحية، عندما قال ما فحواه: «عندما كنت طفلاً صغيراً في بلادي، الأرجنتين، كانوا يقولون لنا إن البروتستانتيين جميعاً كفرة، سوف يذهبون إلى الجحيم. جميعهم عن بكرة أبيهم». كان ذلك في أربعينات القرن الماضي عندما كان البابا في التاسعة أو العاشرة من عمره. عندما يقول البابا هذا الكلام بعد أن كبر وبلغ من العلم والنضج مبلغه فإنه يكاد ينفجر بالضحك. ثم يضيف: كنا نعتقد اعتقاداً جازماً بأنه لا يمكن أن يدخل الجنة إلا الكاثوليك؛ لأنهم الفرقة الناجية الوحيدة في المسيحية.

وقد استطاعوا فرض هذه الفكرة لأنهم الأقوى والأكثر عدداً. نقول ذلك على الرغم من أن البروتستانتيين هم جماعة الإصلاح الديني. وبالتالي فهم الأكثر عقلانية وتطوراً في فهم الدين المسيحي، وهم الأكثر تحرراً من قوالب العصور الوسطى البالية والعقائد الدوغمائية المتحجرة. ولكنهم كانوا مغلوبين على أمرهم لأنهم أقلية، والحق دائماً مع الأكثرية. والأكثرية كانت تعدّهم زنادقة وكفاراً، بل ومرتدين عن الدين. ولذلك كانت تذبحهم وتُعمل المجازر فيهم على أساس طائفي محض. ولهذا السبب فروا من فرنسا بمئات الألوف هائمين على وجوههم. أما الآن فقد انتهت الحزازات المذهبية في أوروبا المستنيرة المتحضرة، وأصبحت من مخلفات التاريخ. ولم يعد الكاثوليكيون يكفِّرون البروتستانتيين أو يحرمونهم من نعمة الله ودخول الجنة. فلماذا لا يتحقق ذلك يوماً ما بين المسلمين عندما يستنيرون ويتحضِّرون؟ لا شيء مستحيلاً في التاريخ. حركة التقدم والتطور سوف تفعل فعلها يوماً ما بعد أن يتثقف الشعب ويتعلم. ثم يضيف هذا البابا الطيب قائلاً: «نحن جميعاً ننتمي إلى الجنس البشري. نحن جميعاً من مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين إلى آخره من مخلوقات الله، أو من عيال الله، كما يقول المفكر التونسي محمد الطالبي». فلماذا لا نؤمن بالوحدة من خلال التنوع والتعدد؟ لماذا لا نعدّ أنفسنا جميعاً إخوة في البشرية والإنسانية والآدمية؟ وهذا هو مضمون الوثيقة التاريخية الموقَّعة في أبوظبي. الناس الطيبون الأخيار موجودون في كل الأديان والمذاهب. ولكن المشكلة هي أن الأصوليين الانغلاقيين يرفضون ذلك رفضاً قاطعاً. إنهم لا يقيمون وزناً لأي شخص إن لم يكن ينتمي إلى طائفتهم أو مذهبهم، أو حتى تنظيمهم الحزبي ومرشدهم الأعلى. نقول ذلك على الرغم من أن القرآن الكريم يقرُّ صراحةً بالتنوع والتعددية. ألم يقل: «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة»؟ ولكنه لم يشأ. هل الله عاجز عن جعل الناس كلهم على دين واحد؟ مستحيل. معاذ الله. الله قادر على كل شيء. ولكنه شاء التنوع والتعددية لحكمة تعلو على عقولنا وأفهامنا. وهذا يعني أن الفرقة الناجية كما يفهمها البابا هي تلك الفرقة التي تجمع كل الناس الطيبين الفاعلين للخير أياً كانت أديانهم ومذاهبهم. نقطة على السطر.

ثم يذكِّرنا البابا فرنسيس بهذه الحكمة الجوهرية: ينبغي أن نتحاشى المغالطات التاريخية. بمعنى لا ينبغي أن نسقط مفاهيم الحاضر على الماضي. بمعنى آخر لا ينبغي أن نحاكم أناس الماضي المساكين المحدودين عقلياً على ضوء مقاييس الزمن الحاضر. في الماضي كنا متعصبين وطائفيين لأن عقلية ذلك الزمان ما كانت تستطيع أن تتصور وجود دين آخر صحيح غير الدين المسيحي، أو وجود مذهب واحد صحيح غير المذهب الكاثوليكي البابوي. لم يكن يخطر على بالهم إطلاقاً إمكانية التعايش مع الآخر المختلف ديناً ومذهباً. كيف يمكن أن تتعايش مع كافر؟ أعوذ بالله، معاذ الله. ولكن أوروبا تطورت وتقدمت وتجاوزت كل هذه الانغلاقات المذهبية والطائفية. لقد خلفتها وراء ظهرها بسنوات ضوئية. ثم يردف البابا قائلاً: «إن العالم الإسلامي، الذي لا يزال غاطساً جزئياً في ظلمات العصور الوسطى، سائر على طريق التقدم والاستنارة لا محالة. ولكن ينبغي أن نكون صبورين معه. فهذه الطفرة المعرفية والإيمانية ليس من السهل تحقيقها بين عشية وضحاها». وهذا ما يقوله ريجيس دوبريه أيضاً وكل عقلاء الغرب. الأصولية المتطرفة لن تنتصر في نهاية المطاف في العالم العربي، ولكنَّ هزيمتها ليست بالأمر السهل، فالثورات العلمية والفلسفية والسياسية، بل وحتى الدينية، التي هضمتها الشعوب الأوروبية على مدار ثلاثة قرون، لا يمكن للشعوب العربية أن تهضمها على مدار ثلاثة عقود. يلزمنا وقت أطول. ثم إننا لا نهدف إلى استئصال الدين كما يزعم بعضهم، وإنما فقط إلى استئصال المفهوم الطائفي والظلامي والتكفيري للدين. فرق كبير.

نحن جميعاً ننتمي إلى الجنس البشري

البابا

ثم يرى البابا أنه لكي يتمكَّن العالم العربي من تجاوز الأصولية القروسطية المظلمة فإن عليه أن يقبل بتطبيق المناهج التاريخية والفلسفية الحديثة على نصوصه التراثية الكبرى مثلما فعلنا نحن مع الإنجيل والتوراة. فهذه هي الخطوة الأولى التي لا بد منها لتجاوز العقلية الانغلاقية والتفسيرات القديمة للدين. وهذا ما فعلناه نحن في أوروبا. ولولا ذلك لبقينا نذبح بعضنا بعضاً على أساس طائفي أو مذهبي حتى الآن. لا يمكن تجاوز الطائفية إلا عن طريق ثورة عقلية وفكرية حقيقية، خصوصاً فيما يتعلق بفهم الدين وتفسيره. هذا شيء مؤكد. وبالتالي فأمام المسلمين مهمة ضخمة ينبغي أن يحققوها في السنوات المقبلة. كان الله في عونهم.

هذا، وقد صرَّح البابا في أثناء زيارته التاريخية الناجحة جداً للعراق عام 2021 قائلاً: «شيئان متضادان لا يجتمعان بأي حال من الأحوال: الإيمان بالله من جهة، وارتكاب العنف والتفجيرات العشوائية من جهة أخرى. من يؤمن بالله لا يمكن أن يستبيح دماء الناس الآمنين. ولا يمكن أن يمارِس أعمال التفجير والتكفير والترويع. كفانا عنفاً، كفانا تطرفاً، كفانا تعصباً. الرسالة موجهة للدواعش وكل الجماعات المتطرفة بطبيعة الحال».

أخيراً لقد كشف لنا البابا في مذكراته الأخيرة سراً دفيناً مهماً، وهو أنه تعرَّض لعملية اغتيال حقيقية في أثناء وجوده على أرض العراق. ولكن الله نجاه منها بمعونة المخابرات البريطانية. وهي من أقوى المخابرات وأكثرها دقةً وفاعليةً في العالم. ففي أحد لقاءاته العامة خلال تلك الزيارة، كان هناك شخصان داعشيان مدججان بالقنابل ومستعدان لتفجير المكان كله بمَن فيه البابا وغير البابا. مجزرة حقيقية. ولكن المعلومة البريطانية الحاسمة وصلت قبل آخر لحظة لحسن الحظ، فتمكنت السلطات العراقية من القبض عليهما وتحييدهما. انظر بهذا الصدد مذكرات البابا الصادرة في الترجمة الفرنسية عن دار نشر «ألبان ميشال» قبل بضعة أسابيع، في 400 صفحة بعنوان: «البابا فرنسيس مفعم بالأمل». السيرة الذاتية التي شكلت حدثاً تاريخياً في مجال النشر. ظهرت بشكل متزامن في أكثر من 100 بلد.