القاهرة.. هل تتحول إلى عاصمة «الباعة الجائلين»؟

احتلوا أرصفتها وأصبحوا صداعا مزمنا للمسؤولين وأصحاب المحلات

باعة جائلون يحتلون الأرصفة والشوارع بالقاهرة
باعة جائلون يحتلون الأرصفة والشوارع بالقاهرة
TT

القاهرة.. هل تتحول إلى عاصمة «الباعة الجائلين»؟

باعة جائلون يحتلون الأرصفة والشوارع بالقاهرة
باعة جائلون يحتلون الأرصفة والشوارع بالقاهرة

«زحمة يا دنيا زحمة.. زحمة ومعادش رحمة».. على أنغام هذه الأغنية الشهيرة للمطرب الشعبي أحمد عدوية، التي تسخر من الزحمة وضغوط الحياة، ومن هذا المنطق، فرض أحد الباعة الجائلين نفسه على أحد الأرصفة، وقام بتحويله إلى مقهى مكتظ بعدد من الكراسي والطاولات البلاستيكية، ليزيد الطين بلة وسط العاصمة المصرية، التي تعاني من ويلات الزحام والتكدس المروري، وانتشار أعداد كبيرة من الباعة الجائلين على أرصفة الشوارع والميادين، خاصة الحيوية منها.. حتى أصبح العثور على رصيف فارغ وآمن بمثابة عملة نادرة، أو أثر لعهود سابقة تنتمي للقرن الماضي.
ولا تستغرب إذا وجدتهم يبيعون على الأرصفة كل شيء، بداية من الملابس وكل الأجهزة المنزلية والإكسسوارات حتى الفول والطعمية والكشري، أشهر الأكلات الشعبية المصرية. ولم تفلح حالة الغضب الشعبي أو السخط الحكومي، حتى الآن في إيجاد حل لهذه الظاهرة، التي باتت تهدد أمن العاصمة وهدوءها، وتنذر بكارثة أن تصبح القاهرة عاصمة «الباعة الجائلين»، على حد وصف أحد سائقي التاكسي، الذي يتابع قائلا: «شوارع كثيرة وأساسية أصبحنا لا نستطيع أن نمشي فيها، بعد أصبحت مكدسة بالباعة الجائلين من شتى الأصناف، والغريب أن هذه الحال تستمر حتى ساعات متأخرة من الليل».
خالد مصطفي، المتحدث الرسمي باسم محافظة القاهرة، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «ظاهرة انتشار الباعة الجائلين زادت بشكل ملحوظ في أعقاب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، حيث انقطعت أرزاق هؤلاء الباعة وبدأوا في النزوح إلى القاهرة من الأقاليم والمدن المختلفة، كما أن تجارتهم لا تحتاج لرأسمال، مما يؤدي إلى انتشارها بشكل أكبر»، مضيفا: «حاول د. عبد القوي خليفة، محافظ القاهرة الأسبق، أن يجمعهم ليعلمهم حرفة معينة، إلا أنهم رفضوا ذلك، في حين أن مصادرة البضاعة تسبب مشكلات أكبر حتى ولو كان ذلك يعد تعديا على حقوق المواطنين وأصحاب المحلات، والمحافظة الآن تدرس توفير أماكن لهم بالتعاون مع الغرفة التجارية، حتى يكون نشاطهم في إطار قانوني على الأقل».
ويرجع العديد من أهالي وسكان أحياء العاصمة زيادة المشكلة إلى عدم سن قوانين تقنن هذه المشكلة وتحجمها، مما أدى إلى تفاقمها، وسط حالة من الصمت الحكومي غير المبرر. كما أن البطالة وانشغال جهاز الشرطة بهموم الأمن السياسي كانا وراء تفشي الظاهرة بشكل كبير، كما يقول إبراهيم السيد، الذي يعمل طبيبا ويعيش في حي مدينة نصر: «المشكلة تتفاقم بشكل كبير وسط صمت من الأجهزة المعنية والبلدية التي لا تتخذ إجراء قويا تجاه هذه التجاوزات على الحقوق العامة، فالأرصفة باتت ملكا لباعة الفول، والمقاهي، حتى أصبح لا يوجد رصيف نمشي عليه، ناهيك بالسيارات المخالفة التي يتركها أصحابها نظرا لعدم توافر جراجات خاصة لهم».
وبنبرة غضب، يضيف الطبيب الشاب: «أمام الدولة أحد خيارين؛ إما أن تجرم هذه التجاوزات الموجودة في الشوارع والأرصفة وتصادر بضاعتهم وتفرض غرامات عليهم، أو أن توفر لهؤلاء مكانا مخصصا لهم يؤجر بسعر معقول بعيدا عن شوارع المدينة التي هي ملك مشاع للناس».
وما بين مطرقة الوضع الاقتصادي وسندان الوضع السياسي المتردي، أصبح الرصيف هو الملاذ لعرباتهم ومصدر رزقهم، وسط غلاء أسعار إيجارات المحلات وعدم توفير مكان مخصص لهم من قبل الدولة، حتى بات المواطنون يتوقعون تأخر الحلول حتى الانتهاء من خارطة المستقبل بانتخاب رئيس للبلاد والبرلمان الجديد.. باختصار ينتظرون عودة الدولة، كما يقول حسين علي الذي جلس أمام «نَصْبَة» فرش عليها بضاعته على أحد الأرصفة بميدان رمسيس الشهير. يقول حسين: «نحن كباعة جائلين مستعدون لترك الشارع فورا إذا وفرت لنا الدولة المحلات، فهذه التجارة المنتشرة في الشارع هي مصدر الرزق الوحيد لنا، ويعول أغلبنا أسرا كبيرة، وتفتح هذه التجارة الكثير من البيوت»، مضيفا: «أسرتي مكونة من خمسة أفراد؛ زوجتي وثلاثة أطفال، وكل ما نطلبه ونريده من الحكومة بدل قمعنا في الشوارع أن توفر لنا فرص عمل أو توفر لنا أماكن بديلة وحيوية، حيث إن هذه التجارة هي مصدر الرزق الوحيد لنا».
يتابع حسين: «حصلنا على وعود كثيرة لم يتحقق منها شيء لأنها مجرد وعود يومية، غير طلب الرشوة التي يحصل عليها رجال الشرطة مقابل تركنا في الشوارع، التي تعد خير دليل على الفساد المتفشي في البلاد».
أما إبراهيم متولي، صاحب أحد المحلات بمنطقة وسط البلد، فيقول: «الباعة الجائلون أصبحوا (صداعا) في رأس الدولة، وتزيد أعدادهم بشكل مبالغ فيه نتيجة نزوحهم من القرى والأقاليم المختلفة، كما أن معظمهم يبيع بضاعة يتاجر فيها تجار آخرون، بعد تسليم بطاقته الشخصية له دون الحصول على إذن مسبق أو تصريح من البلدية، هذا بخلاف مشكلاتهم التي لا تنتهي معنا، فنحن أصحاب المحلات ندفع ضرائب وإيجارا وكهرباء للدولة لنباشر تجارتنا بشكل قانوني دون أن يتعدى على حقوقنا أحد، وهو ما لا يحدث معهم، حيث يتكدسون بأعداد كبيرة أمام المحلات الخاصة بنا، ويزاولون نشاطهم غير القانوني وسط صمت وتقاعس من الأجهزة المعنية»، مضيفا: «يجب على الدولة الوقوف فورا على أسباب المشكلة ومعالجتها قبل أن تصبح وباء يصعب التخلص منه».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».