على عكس الأعمال المنقولة من اللغات الأجنبية إلى العربية

الأدب العربي بعد ترجمته.. جهد ضائع في سوق القراءة الأجنبية

د. جمال الجزيري و د.خالد عبداللطيف رمضان و د. رشا الغانم و غلاف «موسم الهجرة  إلى الشمال» للطيب صالح بالإنجليزية غلاف «في حضرة الغياب».. مختارات من شعر درويش بالإنجليزية
د. جمال الجزيري و د.خالد عبداللطيف رمضان و د. رشا الغانم و غلاف «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح بالإنجليزية غلاف «في حضرة الغياب».. مختارات من شعر درويش بالإنجليزية
TT

على عكس الأعمال المنقولة من اللغات الأجنبية إلى العربية

د. جمال الجزيري و د.خالد عبداللطيف رمضان و د. رشا الغانم و غلاف «موسم الهجرة  إلى الشمال» للطيب صالح بالإنجليزية غلاف «في حضرة الغياب».. مختارات من شعر درويش بالإنجليزية
د. جمال الجزيري و د.خالد عبداللطيف رمضان و د. رشا الغانم و غلاف «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح بالإنجليزية غلاف «في حضرة الغياب».. مختارات من شعر درويش بالإنجليزية

طموح مشروع أن يرى الأديب أعماله وقد ترجمت إلى اللغات الأجنبية، بل إن قصور الترجمة في الوطن العربي إلى اللغات الأخرى، يدفع بكثير من الأدباء لأن يترجموا أعمالهم على حسابهم أملاً في أن تصل أفكارهم إلى العالم. ولكن الذي يحدث على أرض الواقع، أن هذه الجهود الفردية المكلفة والمضنية غالبًا ما تذهب عبثًا، فلا نجد صدى جماهيريًا للأعمال العربية المترجمة، بعكس الأعمال الأجنبية التي تترجم إلى العربية ونجد لها رواجًا كبيرًا في سوق الكتب. وأيضًا فإن الأدباء العرب الذين كتبوا أعمالهم بلغات أجنبية حققوا حظوة جيدة لدى الغرب وبعضهم حصل على جوائز عالمية.
هذه التساؤلات حملتها إلى عدد من الأكاديميين والنقاد والمتخصصين في الترجمة، لنقف على حقيقة الأسباب المؤدية إلى هذا الفشل.. إن صحت قسوة التعبير.
الدكتور مصطفى الضبع، ناقد وأكاديمي من مصر، يرى أن هذا السؤال يكتسب أهميته من وقوفه على واحدة من أهم القضايا التي لم تطرح من قبل: «تلك القضايا الكاشفة عن كثير من الأسئلة غير المطروحة التي من شأنها أن تفيد من الوعي النقدي». ويضيف: «تتسع مساحة الإجابة عن السؤال لتشمل عددا من الدوائر ذات التأثير، تلك التي لا يمكن حصرها في دائرة واحدة، ويكون من الصعوبة بمكان أن نقصرها على عامل واحد»، ويفصل الدكتور مصطفى الضبع الأمر بقوله: يمكن بلورة هذه الدوائر فيما يلي:
1- النقد، حيث تفتقد الساحة العربية لحركة نقدية منظمة تقوم عليها مؤسسة علمية (غابت الجامعات والأكاديميات المتخصصة)، وهي حركة من شأنها تفعيل الدائرة الثلاثية: إبداع (ينتج)، نقد (يصطفي من المنتج)، ترجمة (تختار من المصطفى).
2- الجوائز: الجوائز العربية والمسابقات الإبداعية في جانب كبير منها تفتقد مصداقيتها حين تختار أعمالا على أسس سياسية أحيانا وتقوم آلياتها على اختيار أعمال ضعيفة المستوى (يمكن التدليل على ذلك بأعمال متعددة فازت بجوائز لا تستحقها) لذا أرى أنه من الأنسب توسيع لجان التحكيم لتضم نموذجا للقارئ العادي الذي يغيب دون مبرر، فلجان التحكيم حتى الآن تقتصر على نوع واحد فقط (النقاد) دون غيرهم.
3- الإعلام (عامة) والصحافة الأدبية (خاصة): تتعدد دور النشر في كل بلد عربي وتصدر المطابع أعمالا يوميا تقريبا وفي المقابل يغيب دور الصحافة الأدبية في كثير من بلدان الوطن العربي، ولم تستطع الصحافة الأدبية (في الغالب) أن تقدم أو تسهم في تقديم مشروع نقدي يعمل على تقديم الخارطة الإبداعية ويقول: «شخصيا تقدمت بأربعة مشروعات نقدية لأربع دوريات، فقط - مشكورة - تبنت مجلة البيان الصادرة عن رابطة أدباء الكويت المشروع المقدم لها وتقاعست الدوريات الأخرى».
4- الترجمة: المترجم المستقل يعتمد على الترجمة للعربية وليس منها، إذن هو لا يوظف معرفته بثقافته في انتقاء أعمال يدرك قيمتها في بيئته، والترجمة في الغالب يغلب عليها طابع العلاقات الشخصية، لقد تركنا المترجم الغربي يترجم النص العربي وفق معاييره هو، وفق معايير شعبية النص وجودته في بيئته العربية، والمؤسسات المعنية بالترجمة تعمل في الغالب من ناحية واحدة.. نقل المترجم للعربية وليس منها.
5- المؤسسة الثقافية: وأعني بها اتحادات الكتاب أولا ثم اتحاد كتاب العرب ثانيا الذي لا يعمل على تقديم مشروع يستهدف خدمة الإبداع العربي، ثم الناشر ثالثا الذي ينحصر دوره في النشر دون العناية بما يسمى خدمة ما بعد النشر والتوزيع كما أن بعض دور النشر تسهم في تفشي ظاهرة مزيفة أعني ظاهرة البيست سيلر (best seller).
6- المؤسسة السياسية / الثقافية العربية خارج الحدود: السؤال الذي يطرح نفسه عن دور الملحقيات الثقافية ومراكز الثقافة العربية في الخارج والتي لم تتضافر جهودها أو تجتمع أفكارها في مشروع يعمل على تقديم الثقافة العربية بوصفها كيانًا واحدًا لا كيانات منفصلة.
7- المبدع: (أحيانا) يعمد بعض الكتاب إلى الكتابة وفق شروط الترجمة وهو ما يجعل أعمالهم مقيدة بشروط لا تخص الفن بقدر ما تخص الموضوع الذي يتماشى مع آيديولوجية المترجم.
ويختتم الدكتور مصطفى الضبع تحليله بالقول: «هذه العوامل جميعها تفضي إلى ظاهرة ضعف مستوى الأعمال المترجمة ومن ثم عدم رواجها جماهيريا في الغرب».

أعمال باهتة وسماسرة أجانب

أما الدكتور عبد السلام المساوي الأكاديمي والناقد من المغرب، فيعتقد بأن الأسباب التي تجعل الأعمال الأدبية العربية المترجمة هامشية لدى القارئ الأجنبي هي أن الموضوعات المطروقة في هذه الأعمال، وخصوصا الروائية منها، لا تثير فضول هذا القارئ الباحث دائما عن الطرافة والغرابة والشذوذ. وكثير من هذه الموضوعات لن تمررها الرقابة العربية ولن تسمح بذلك آلياتها الدينية والاجتماعية والسياسية. ومن ذلك أيضا، يتابع الدكتور عبد السلام المساوي، أن معظم الأعمال التي تحظى بالترجمة هي أعمال باهتة، وُجِدَ أصحابها في مؤسسات أو مواقع سلط ثقافية، أو لهم سماسرة في هذا البلد الأجنبي أو ذاك.ويرى بأن هذا سلوك مفضوح أصبحنا نعيشه في أقطارنا العربية، وله انعكاسات سلبية جدا على مكانة الأدب العربي المعاصر لدى القارئ الأجنبي التواق إلى الاطلاع على النماذج المشرقة منه، علاوة على تفويت الفرص وإقصاء أعمال كان حريًا أن تنقل إلى اللغات الأجنبية لقيمتها الفكرية والجمالية الرفيعة. وأستطيع أن أذكر لك أسماء كثيرة لنساء ورجال ما إن أصدروا عملهم الأول أو الثاني حتى طوَّقوه بالمترجمين من اليمين ومن اليسار ومن فوق ومن تحت!!
ويضيف الدكتور المساوي: «بالأمس القريب كنا نفرح ونحن نقرأ عن بعض الأعمال التي حققت مكانتها الأدبية عربيا وبعدها انتقلت إلى اللغات الأخرى دون أن يسعى أصحابها إلى ذلك، والأمثلة كثيرة: الطيب صالح، وطه حسين، ونجيب محفوظ، ومحمد شكري، وأمل دنقل، ومحمود درويش، وأدونيس... واللائحة طويلة. إذن، فالأدب العربي المعاصر لا يفتقد إلى النماذج الباهرة التي تستحق أن تترجم وتنتقل إلى القارئ الأجنبي بعيدا عن مشوشات الفساد الثقافي.. واليوم صرنا نتوجس من وجود ميلشيات للترجمة ومحتكريها.

ترجمة المحسوبيات لا الكفاءات

الأكاديمي الناقد الدكتور خالد عبد اللطيف رمضان من الكويت يحلل الظاهرة بقوله:
لعل هناك عدة عوامل مجتمعة تسهم في عدم رواج الإبداعات العربية المترجمة إلى لغات أخرى، أولها خصوصية اللغة العربية وجمالها، فإذا ترجمت فقدت الكثير من رونقها وجمالها، فالنص الذي يعجبنا باللغة العربية قد لا يعجبنا إذا نقل إلى لغة أخرى، يضاف إلى ذلك حداثة عهدنا قياسا إلى الأمم الأخرى في الفنون السردية، ويضيف الدكتور خالد عبد اللطيف رمضان: «نحن نتلقف الإبداعات العالمية المتميزة ونترجمها إلى لغتنا وإعجابنا بها نابع من تميزها بتكنيك السرد لا بجمال لغتها، وكثير من الإبداعات العربية التي ترجمت إلى لغات أخرى لم تترجم لتفردها وتفوقها وإنما المجاملات والمحسوبية لهما تأثيرهما في مجتمعاتنا العربية مما يدفع بأعمال دون المستوى للترجمة إلى لغات أجنبية أخرى وإعطاء صورة سلبية للإبداعات العربية. أما إذا كتب مبدع عربي بلغة أخرى فإنه من المؤكد متمكن من هذه اللغة، ولم يكتب إلا لكونه متميزا في مجاله لذلك تلقى كتبه الرواج والاهتمام. أما الشعر العربي فسحره في تراكيبه اللغوية وإذا ما ترجم فقد معظم ما يميزه وانتفت عبقريته.

التمييز بين ثلاثة أنواع

الدكتور جمال الجزيري متخصص في الترجمة وله كثير من الأعمال الصادرة بهذا الشأن يميز بين ثلاثة أنواع من الأعمال الأدبية العربية التي تتم ترجمتها إلى اللغات الأجنبية: الأعمال التي تترجم بسبب موضوعاتها، والأعمال التي تترجم بسبب جودتها الفنية، والأعمال التي تترجم بسبب المجاملة أو الشللية.
ويقول: بالنسبة للأعمال التي تترجم بسبب موضوعاتها، فهي تلقى رواجا لدى فئة معينة من القراء الغربيين، مثل أعمال علاء الأسواني وأعمال نوال السعداوي. وأظن أن سبب رواجها هو كسرها للتابوهات العربية وتمثُّلها لرؤية العالَم لدى الجمهور الغربي. وهذا هو الاتجاه السائد في الترجمة إلى اللغات الأجنبية، فتتم ترجمة الأعمال التي تتمثّل النموذجَ الغربي في النظر للحياة، وهذا يندرج من وجهة نظري تحت العولمة الثقافية بمنظورها الغربي.
أما الأعمال التي تترجم بسبب جودتها، حسبما يقول الدكتور جمال الجزيري، فلها جمهورها، ولكنه جمهور قليل بالمقارنة بالفئة الأولى. ويحتاج انتشارها لدى القارئ الغربي إلى وقت طويل. أما الأعمال التي تترجم بسبب الشللية أو المجاملة، فانتشارها محدود بالطبع في نطاق المكتبات المشتركة في إصدارات دار النشر.
ويعود الدكتور الجزيري إلى الأسئلة الرئيسية، فيقول: تروج لدينا الأعمال الغربية المترجمة للعربية لسبب رئيسي، وهو أنها تقدم شيئا ليس موجودا بكثرة في أدبنا العربي: وهذا الغياب النسبي يرجع لسببين: أولا، بعض الأعمال الغربية بها عمق إنساني كبير مفتقد لدينا، فليست مجرد شعر أو حكي، وإنما تقدم تجربة إنسانية عميقة لكتّاب يعيشون في عمق الحياة ويستطيعون أن يجسدوا عمق الصراعات والتطلعات الإنسانية. وثانيا، عنصر التشويق غالب على كثير من الأعمال الغربية المترجمة حتى لو لم يكن بها عمق إنساني.
ويعتقد أن عدم انتشار الأدب العربي في العالم الغربي، فالأمر يرجع في الأساس إلى عدم وجود مؤسسات ترجمة عربية أو أجنبية تهتم بتقديم الأدب العربي بصورة شاملة للقارئ الغربي. فمعظم جهود الترجمة جهود فردية يقوم بها مترجمون أجانب أو عرب لهم علاقة بدور نشر أجنبية ويستطيعون أن يقنعوها بنشر ترجمة هذا العمل أو ذاك، أو مؤسسات قليلة مثل الجامعة الأميركية في القاهرة، وترجماتها تكون انتقائية في الغالب ووفقًا لمعايير خاصة لا تبتغي تقديم صورة حقيقة للأدب العربي، وإنما تنتقي بعض الأعمال التي تخدم أهدافها. «وأنا شخصيا أنظر إلى مثل هذه المؤسسات - على الرغم من الخدمات العلمية الجيدة التي تقدمها - على أنها ذراع للاستعمار بشكل غير مباشر». ويرى أن هناك سببا أساسيا آخر يتعلق بالأدب العربي ذاته، وهو عدم وجود مشروع أدبي عربي إنساني، بمعنى أن الكثيرين من الكتاب العرب - مثلهم مثل المواطنين العرب - لا يعرفون معنى الحياة، ويعيشون على حافتها أو سطحها ويتهيبون الولوج أو الغوص فيها، وبالتالي تأتي كتاباتهم عبارة عن قشور لا تهم أحدا إنسانيا في كثير من الأحيان.

نقد وتقييم وجوائز

الدكتور فيصل الحولي أكاديمي وناقد من الأردن يقول:
إن جلّ ما حركته أسئلتك يدخل ضمن ما يطلق عليه (عالمية الأدب) وهو مصطلح ينص على ارتقاء نص أدبي ما إلى مستوى الاعتراف العالمي لعظمته وفائدته خارج حدود لغته ومنطقته والإقبال على ترجمته ودراسته. ويقول الدكتور فيصل الحولي: «إن العمل الأدبي لا يدخل دائرة العالمية بمجرد توافر مواصفات إبداعية فيه وإنما لا بد له من توافر مجموعة من العوامل منها وسائل الاتصال الثقافي من ترجمة ونقد وتقييم وجوائز وطنية وعالمية. وعليه فإنه من الضروري أن تتوافر شروط في العمل الأدبي ليصل إلى مستوى العالمية منها: عامل فني يتمثل في جودة العمل الأدبي من الناحية الفنية والمضمونية ويترتب على ذلك أن يكون النص إبداعيًا وراقيًا» ومنها، كما يقول الدكتور الحولي، «عامل توسيطي ويتمثل في كيفية توصيل تلك الأعمال إلى العالم عبر قنوات التواصل ترجمة ونشر»، وهنا يتساءل الدكتور الحولي: هل الترجمة التي نقل بها الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية هي ترجمة ذات نوعية متطورة، وهل حظي الأدب العربي باهتمام دور النشر الكبيرة في العالم؟ أما العامل الثالث باعتقاد الدكتور الحولي فهو التلقي النقدي المتمثل في النشاطات النقدية والتفسيرية التي تدور حول العمل الأدبي في الثقافة الأجنبية.

تجربة حقيقية

الدكتورة رشا غانم مُدرسة النقد الأدبي بالجامعة الأميركية في مصر، فتخبرني بأحداث واقعية جرت معها فتقول: «أتحدث إليك عن تجربة حقيقة لي أثناء تدريسي لكورس النقد لمجموعة من الباحثين الأجانب في الجامعة الأميركية بالقاهرة 2009م لاحظت أن أغلبهم قد حصل على الماستر في التراث العربي فقال لي أحدهم وهو الآن بروفسور في جامعة أوكلاهوما بالولايات المتحدة الأميركية واسمه توماس هافتر إنه حصل على الماستر في الجاحظ، وهو من الأدباء العرب القدامى المشهورين من أشهر كتبه (البخلاء) و(البيان والتبيين) ت:255هـ 868م وأخذ يسرد لي كيف التعامل مع كتب التراث في البداية كان يمثل له صعوبة كبيرة فقلت له لماذا اختارت التعامل مع كتب التراث في فترة مبكرة من حياتك قال لي: (لأن الكتب التي تم تأليفها قديما أطمئن إليها ففيها ثقافة عربية خالصة ونحن عندما ندرس هنا نذهب إلى جامعتنا لنلتحق بكرسي الشرق الأوسط، وهو المكان المخصص لكل الدراسات الشرق أوسطية)، وهذا يدل على أن أغلب التراجم الحديثة المترجمة من العربية للأجنبية لا تحقق حضورا لديهم على عكس الترجمات الأجنبية التي تحدثت عن العرب وحضارتهم تلقى قبولا في القراءة عندهم، أما بالنسبة للقارئ العربي فإن المترجم من الأجنبية للعربية يلقى حضورا لديه من وجهة نظري لأننا قانعون أن مستوى ما يقدم لدينا من بلاد الغرب هو الأكثر وعيا وفكرًا».



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.