مقاهي بغداد الثقافية.. ولدت فيها أولى التجارب الشعرية

بعضها ما زال شاخصًا حتى اليوم

هناك عدد محدود من المقاهي التي لا تزال تستقطب روادها ولعل أهمها اليوم مقهى الشابندر في شارع المتنبي
هناك عدد محدود من المقاهي التي لا تزال تستقطب روادها ولعل أهمها اليوم مقهى الشابندر في شارع المتنبي
TT

مقاهي بغداد الثقافية.. ولدت فيها أولى التجارب الشعرية

هناك عدد محدود من المقاهي التي لا تزال تستقطب روادها ولعل أهمها اليوم مقهى الشابندر في شارع المتنبي
هناك عدد محدود من المقاهي التي لا تزال تستقطب روادها ولعل أهمها اليوم مقهى الشابندر في شارع المتنبي

خصوصية المقاهي البغدادية متفردة ولا تشبه غيرها من ناحية مكانتها ونكهتها وشخوصها وحتى نوع قهوتها ومشاريبها وأغنياتها التي تختارها لزوارها، وهي تمثل جانبًا مهما من ذاكرة المدينة، فمنذ عشرينات القرن المنصرم، وبالتحديد مع افتتاح أهم شارع في العاصمة بغداد، شارع الرشيد، تحولت المقاهي المنتشرة على جانبيه إلى منتديات ثقافية شكلت مناخًا أدبيًا وثقافيًا وفنيًا جذبت الأدباء والكتاب والمسرحيين والتشكيليين من كل أنحاء البلاد، ومرت المقاهي بفترات من الانحسار والنهوض بحسب تعاقب الأحوال فيها واضطرابها أو استقرارها، لكنها اليوم، تشهد عودة محسوبة وهادئة لمقاهٍ جديدة، كسبت معها الشباب خصوصًا بعد أن أفل نجم الكثير من المقاهي القديمة لأسباب عدة وتهديم بعضها الآخر وتحوله لمخازن تجارية.
ومن أهم المقاهي البغدادية القديمة التي حفرت لها مكانًا في الذاكرة، هي مقاهي البلدية، وعارف آغا، والزهاوي، وحسن عجمي، والبرلمان، والشابندر، والبرازيلية، فيها ولدت أولى التجارب الفنية والشعرية وشهدت تكوين الجماعات التشكيلية واحتدام الجدل الثقافي لأجل إنضاج مشروع وطني ما أو فكرة ثقافية من شخصيات بغدادية عرفت بالريادة في المشهد الثقافي العراقي والعربي.
يقول الناقد والفنان قاسم العزاوي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» عن المقاهي البغدادية: «بعد فترة ازدهار كبرى في نتاج ونهج المقاهي الثقافية في بغداد في مطلع تأسيسها إلا أنها شهدت حالة تراجع وضمور في فترة السبعينات، وتواصل ذلك التراجع في عقدي الثمانينات والتسعينات بعد أن دخل المخبرون إليها لرصد حركة الناس وكلامهم وكتابة التقارير الأمنية للنظام الحاكم ضد من يعتقدون أنه يثير الرأي العام ضدهم».
وأضاف: «هناك عدد محدود من المقاهي التي لا تزال تستقطب روادها، ولعل أهمها اليوم مقهى الشابندر في شارع المتنبي ومقهى رضا علوان في الكرادة باعتبارها تتوسط منطقة مزدحمة بالسكان وتحوي أهم مقرات الصحف والفضائيات المحلية، وكذلك قربها من مقر الاتحاد العام للأدباء والفنانين، وعادة ما تعقد فيها ندوات فنية وأدبية وروادها من النساء والرجال معًا وهناك منتدى أشبه بالمقهى يدعى منتدى بيتنا الثقافي في الأندلس التابع للحزب الشيوعي وتقام فيه حلقات نقاشية وأدبية وثقافية ومعارض فنية».
ولفت العزاوي إلى أن دور المقاهي اليوم هو التواصل مع الآخرين، خصوصا المثقفين، وتبادل الأخبار وقضايا معظمها سياسية أو التحشيد للمظاهرات الشعبية أو مناقشة مسائل ثقافية تخص عرض نتاجهم الفكري والأدبي، وعقد الاتفاقيات الأدبية وتداول أخبار الفن والأدب وهي أيضا ملتقى للزوار من الخارج، كنقطة دلالة معروفة.
وبشأن اختلاف دور المقاهي عن دورها بالأمس، قال: «الغاية هي نفسها التي وجدت من أجلها المقهى وهو التواصل الثقافي والمعرفي، لكنها تطورت بحسب تطورات العمران وما تقدمه من أطعمة ومشروبات وغيرها، كما أنها صارت تستقبل النساء أيضا في وقت كان وجودهن بالأمس محدودًا أو معدومًا تقريبًا».
وعن ذكرياته في المقاهي البغدادية، قال: «كنت أزور مقهى البرازيلي في شارع الرشيد والبرلمان في الحيدرخانة وكان زوارها من الرموز الثقافية المعروفة مثل موسى كريدي وحسين مردان وآخرين، مقهى البرلمان كان نقطة استقطاب لكل الفنانين، لشهرته الواسعة، واستمرت حتى نهاية الثمانينات قبل أن تتحول إلى مطعم فيما التجأ الأدباء إلى مقهى حسن العجمي في الحيدرخانة قرب كعك السيد الشهير الذي تأسس في 1906 وجبار أبو الشربت وعلى امتداد الشارع نفسه مقهى الزهاوي والآن هو من الأماكن والمقاهي التراثية لكن زواره انحسروا بسبب صعوبة الوصول. ومقهى أم كلثوم لا يزال يفتح أبوابه حتى الآن وهو يحتضن عشاق أم كلثوم في شارع الرشيد مقابل سوق هرج، ولا زلت أتذكر المعارك الأدبية التي كانت تدور بين الأدباء في المقاهي مثل معارك مدني صالح والدكتور المطلبي».
وعن ذكرياته في مقهى حسن عجمي يقول الناقد حسين مردان: «يعد مقهى حسن عجمي من أكثر المقاهي شهرة وعراقة، فقد حافظ على حضوره واستمراره عقودًا طويلة، وارتبط اسمه بشارع الرشيد الشهير، وتردد عليه معظم الأدباء والمثقفين، ومن الرواد الذين ارتبط المقهى بهم الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي كان يجلس فيه قبيل إلقائه قصائده الوطنية المحرضة إبّان انتفاضة عام 1948، فكانت الجماهير المأخوذة بسحر قصائده وبلاغتها وتأثيرها، تنطلق من جامع الحيدرخانة لتطوف في شارع الرشيد غاضبة منددة بالمعاهدة الجائرة التي وقعتها الحكومة مع بريطانيا. وفي مقال نشره الناقد «صالح هويدي» في جريدة المدى، يقول: «في الأربعينات والخمسينات توافد على هذا المقهى إلى جانب الجواهري، كل من كمال الجبوري، والسياب، والبياتي، وعبد الأمير الحصيري، وسواهم من وجوه الفكر والأدب والإبداع، يتداولون الرأي ويعقدون حوارات في مختلف شؤون الفكر والثقافة. ولم يتوقف هذا المقهى عن استقطاب الأجيال الأدبية التالية كجيل الستينات والسبعينات والثمانينات، تلك الأجيال التي شهدت حراكًا ثقافيًا أوسع، وتطويرًا لآفاق التجربة الإبداعية وتوليدًا للاتجاهات والرؤى والمفاهيم الجديدة.
لم يكن مقهى حسن عجمي (يقع في باب المعظم مقابل وزارة الدفاع ببغداد) محطة عابرة في حياة الأدباء العراقيين، بل كان منتدى موّارًا ومسرحًا حقيقيًا لذلك الحوار الفاعل والخصب بين المبدعين، فهو المحطة قبل الأخيرة التي وجدوا فيها ملاذهم، قبل أن يهجروه منذ بضع سنوات ويتخذوا من مقهى الشابندر في شارع المتنبي مقرًا لهم.
وبسبب عدم رغبة الأدباء بالمكوث طويلاً في مقهى واحد، إذ كان يصيبهم الملل من كثرة تكرار الوجوه نفسها، أو بسبب توسع دائرة المجموعة وحدوث استقطابات جديدة، يعمد البعض للانتقال إلى مقهى آخر ومجموعة جديدة، ففي نهاية الأربعينات انتقل الشاعر حسين مردان إلى مجموعة مقهى البلدية التي كانت تضم رشيد ياسين، وبلند الحيدري، وزهير أحمد القيسي، وكان شعراء وأدباء الكليات يهرعون إليهم بمجرد الانتهاء من دروسهم، ومن هؤلاء الطلاب، بدر شاكر السياب، وعبد الرزاق عبد الواحد، وأكرم الوتري. فقد كانت تلك المقاهي جامعات حقيقية للأدب والشعر، كما يذكر حسين مردان. ويقول أيضًا: «كنا نعيش في جو من الصداقة الصميمة. فعلبة الدخان التي كان يملكها أحدنا تطرح على الطاولة لتكون مشاعًا للجميع، وكان أكثرنا مالاً هو الذي يدفع ثمن أكواب الشاي، كذلك كنا نشترك في نظم القصائد وكتابة المقالات النقدية..والحقيقة أن المقهى كان يعتبر البيت الدائم لعدد كبير من الشعراء والأدباء العراقيين، ومن أشهر الخصومات التي كانت تحدث في مقهى البلدية كانت بين الشاعرين السياب وعبد الوهاب البياتي، فقد كان الصراع في حقيقته يدور حول الزعامة الشعرية».
الجدير بالذكر أنه وخلال وجودهم في هذا المقهى في بداية عام 1948 صدر ديوان بدر شاكر السياب «أزهار ذابلة» وديوان عبد الوهاب البياتي «ملائكة الشيطان» وفي السنة نفسها طبع بلند الحيدري مجموعته «خفقة الطين» وأصدرت نازك الملائكة كذلك ديوانها «شظايا ورماد».
يقول حسين مردان: «هكذا بدأت حياة المقاهي الكئيبة ترصع سماء الشعر القديمة بنجوم ذات بريق جديد، وقد قوبلت هذه المجموعات الشعرية بشيء من الحماسة من قبل القراء الشباب ومن المثقفين بصورة خاصة.
تقول المصادر التراثية على لسان الآثاري عادل العرداوي: «شكل مقهى البرازيلية العهد الذهبي في الحياة الأدبية والفنية في العراق، إذ أصبح لكل أديب شخصيته الخاصة، وظهرت وجوه أخرى جديدة كالشاعر رشدي العامل، والقاص نزار عباس، ومحمد روزنامجي، والصحافي الكبير عبد المجيد الونداوي. وهناك وخلف الواجهة الزجاجية العريضة وحول منضدة صنعت من أعواد الخيزران كان يجلس الفرسان الأربعة، حسين مردان، وعبد الوهاب البياتي، وكاظم جواد، وعبد الملك نوري، الذين أصبحوا نقطة الارتكاز لكل أطراف الحركة الأدبية في العراق، ومع أنهم كانوا مختلفين من ناحية اتجاهاتهم الأدبية، فإنهم شكلوا وحدة متراصة ضد كل بوادر الشعوذة ومحاولات الارتداد، كما يذكر حسين مردان، وفي تلك الفترة انضم إلى هذه المجموعة كل من سعدي يوسف، ومحمود الخطيب، وماجد العامل، وكان يحضر لـ(البرازيلية) أحيانا بعض المفكرين المعروفين كالدكتور فيصل السامر، والأستاذ إبراهيم كبة، والدكتور علي الوردي، وغيرهم، وفي مقهى البرازيلية بالذات نشأت التيارات والأفكار التجديدية في الشعر والأدب»..
يذكر أن هذا المقهى كان مسرحًا لبدء مسار الحركة التشكيلية ونهضتها في العراق على أيدي الفنانين الكبيرين جواد سليم، وفائق حسن. ومن أشهر رواد هذا المقهى بلند الحيدري، وفؤاد التكرلي، ونهاد التكرلي، وغائب طعمة فرمان، وفيه أيضًا ولدت فكرة تأسيس اتحاد الأدباء العراقيين عام 1952، ولكن الحكومة التي كانت تتعقب خطوات كل شاعر وأديب، شعرت بخطورة مثل هذا التجمع الأدبي، فأوعزت لعدد من مرتزقة الأدب بتقديم طلب مشابه، وقد أجيز الطلب فعلاً، وفي سنة 1952 ألقي القبض على حسين مردان من قبل البوليس السري، بعد صور ديوانه المثير للجدل، «قصائد عارية» وبعد توقيف طويل في معتقل أبو غريب قدم إلى المجلس العرفي العسكري وحكم عليه بالسجن لمدة سنة، ولما عاد مردان إلى «البرازيلية»، كان يقول: «الفرسان الثلاثة كعهدي بهم يجلسون خلف الواجهة الزجاجية ويتحدثون عن الحلم المشترك نفسه، وكانوا قد فصلوا من وظائفهم فصاروا يفكرون بالهرب بصورة جدية.
مقهى البرلمان، وهو مقهى شعبي قديم يقع قبالة جامع الحيدرخانة، له مكانة معروفة لدى عامة الناس في بغداد، يقول إبراهيم الوائلي في ذكرياته عنه: «كان مزدحمًا بالمرتادين، كانت الصحف توزع على الراغبين في قراءتها، ثم إعادتها مقابل أجر لا يتجاوز عشرة فلوس، وكان يرتاد المقهى الصحافي عبد القادر البراك، والشاعر بلند الحيدري الذي يسلّم ويجلس وهو يمزج الضحكة الخفيفة بالانفعال والتذمر من فراغ الجيب، ولكنه لا ينسى الحديث في الشعر واللغة، وكثيرًا ما يدخل الشاب النحيل بدر شاكر السياب وهو يتهادى في مشيته ويتأبط كتابًا فيجلس ويشارك في الحديث.
وفي مقعد قريب يجلس الشاعر حسين مردان والسيجارة لا تفارق شفتيه وأحاديثه في الشعر والنقد. والشيخ علي البازي شاعر المؤرخين جاء من الكوفة. «نحن في سنة 1959م» والحديث للوائلي: «وهذا بدر شاكر السياب يخرج من المقهى وكنت قادمًا إليه فيسلّم وقد امتص المرض دمه وزاده شحوبًا على شحوب، قلت: إلى أين بدر؟ فقال: لست أدري، ولعله كان يعاني أزمة تصطرع في أعماقه فلا يدري إلى أية جهة يصير».
وقد شهد وقتها حركة دائبة من الأدباء الذين توافدوا عليه، وخصوصًا من محافظات القطر، فكانوا يتبادلون قصائدهم، ومناقشة هموم الجيل والظواهر الثقافية والحراك الخصب آنذاك.
وثمة أمران تميز بهما هذا المقهى، أولهما: اتخاذه تقليدًا أسبوعيًا لالتئام الأدباء والفنانين فيه في عطلة الجمعة من كل أسبوع، ولإسهام جيل السبعينات فيه وحضور صوته الذي بدأ بمنازعة أدباء الستينات وتجلي مناظراتهم فيه. لكن هذا المقهى ما لبث أن استقطب أجيالاً أدبية أخرى دخلته وكان لها هامش اجتهاد إبداعي كجيل الثمانينات والتسعينات.
في نهاية الستينات، ظهر مقهى سمي بمقهى «المعقدين» في بداية شارع السعدون (وسط بغداد) ليس بعيدًا عن شارع الرشيد، كان يضم مجموعة من الأدباء المتمردين على السائد في المشهد الثقافي، المتطلعين إلى الاتجاهات الحديثة في الأدب العالمي، كالمسرح الفقير، والمسرح الأسود، والتغريب، فضلاً عما شهدته مناقشاتهم في العبث، والوجود، والعدم، والالتزام، جعلت منهم جيلاً خارجًا على الذائقة التقليدية لعموم الأدباء، كما يذكر صالح هويدي، وهو ما كان وراء سلوكهم الانطوائي وتحفظهم إزاء المجموعات الأدبية الأخرى وإطلاق تسمية المعقدين عليهم، ولعل من أبرز أدباء هذه المجموعة الشاعر عبد الرحمن طهمازي، وشريف الربيعي، وأنور الغساني، وقتيبة عبد الله، والرسام إبراهيم زاير. يقال إن تسمية المعقدين نسبة إلى العلامة الملائمة على الصراع الأدبي المفتوح وبناء الشخصية التي تقترح الحداثة، لا كإنتاج نصي، بل كمناخ للحياة.



«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية
TT

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً، كما عاشت شخوصه وأحداثه في ذاكرة الكاتب طويلاً تُلحُّ عليه أن يخرجها إلى النور. هو كتاب في حب البشر، خاصة أولئك المستثنين من حب بقية البشر. يبحث الرحيمي عن قاع المجتمع، فإذا ما وجده راح ينبش فيه عن قاع القاع. عن تلك الطبقة الدنيا التي ليس هناك ما هو أدنى منها. عن الطبقة التي أقصاها المجتمع عنه، حتى لم يعد يراها وإن رآها فلا يراها بشراً ولا يعدّها من جنسه، حتى نسيتْ هي أيضاً بشريتها. يلتقط الكاتب تلك الطبقة ويكتشف إنسانيتها ويكشف لنا عنها، يلتقط أفراداً منها، ويكشف لنا أنهم مثلنا تماماً وإنما طحنتهم قوى تاريخية ومجتمعية قاهرة حتى حجبت إنسانيتهم عمن حولهم، بل وعن ذواتهم. ينتشلهم الكاتب من قاع القاع ويغدق عليهم من فيض روحٍ مُحِبَّة للبشر ترفض أن تنسى من نسيهم المجتمع والتاريخ.

يكتب الرحيمي عن الريف المصري في شيء كثير من العاطفية والنوستالجيا. يكتب عن الريف الذي نشأ فيه قبل أن ينزح إلى المدينة ويكتب عن التحولات الهائلة التي ألمت به منذ الخمسينات من القرن العشرين إلى يومنا هذا. يكتب عما عاصره في نشأته ولكن أيضاً عما سمعه صغيراً من الأجيال الأسبق. يكتب عن بؤس الفلاح المصري في العصر الإقطاعي وخاصة عمّال «التملية»، المعروفين أيضاً بعمال التراحيل، والذين كتب عنهم يوسف إدريس في قصته الأشهر «الحرام» (1959)، وعن مجيء ثورة 1952 والإصلاح الزراعي الذي طال الكثيرين، لكنه أغفل «التملية» أو هم غفلوا عن الانتفاع منه لأنهم كانوا مسحوقين إلى حدٍ لا يمكنهم معه إدراك أن ثمة تغيرات كبرى تحدث في المجتمع وأنه يمكن لهم الانتفاع منها. يكتب أيضاً عن سائر التحولات التي جرت في الريف المصري بعد انتهاء الدور الإصلاحي لثورة 1952 والنكوص عن إنجازاتها المجتمعية في عصري السادات ومبارك، حتى لم يعد الريف ريفاً وتقلصت الزراعة واختفت المحاصيل ومواسمها التي من حولها نشأت تقاليد الريف المصري الحياتية وقيمه الأخلاقية التي دامت قروناً طويلة حتى اندثرت تدريجياً في العقود القليلة الماضية. يكتب على حد قوله «فيما جرى لبلدنا وقرانا».

يتجول الكتاب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة» في شرق الدلتا. تصبح القرية بؤرة لمصر كلها. تصبح رمزاً للثابت والمتحول، أو بالأحرى للثابت الذي تحوَّل إلى غير عودة بعد قرون وقرون من الثبات، ولا يساعدك النص أن تقرر ما إذا كان تَحَوَّلَ إلى الأفضل أو الأسوأ. فالأمران ممتزجان، وليس النص إلا محاولة لاسترجاع الأنماط الجميلة للحياة البشرية والبيئية التي ضاعت إلى الأبد ضمن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القاهرة التي تُصنع في العاصمة لتطال موجاتها العاتية قرى مصر ونجوعها في كل مكان من حيث لم تكن تحتسب.

ما نراه في هذا الكتاب هو نماذج عديدة لآلام التحول ولكن أيضاً لأفراحه. نماذج للعامّ حين يقتحم حياة الأفراد فيرفع من يرفع ويخفض من يخفض ويعيد تشكيل ما يُسمى بالمجتمع. يخبرنا التاريخ المعاصر بحرب اليمن الفاشلة ضمن مشروع القومية العربية التوسعي لجمال عبد الناصر في ستينات القرن الماضي، لكن هذا النص يشعرنا بمأساة مجندي القرية مثل «المسكين» وآلاف أمثاله الذين ذهبوا ولم يرجعوا ليحاربوا حرباً لا يفهمون لها سبباً في بلد لم يسمعوا به قبلاً. يحدثنا التاريخ الذي عاصرناه أيضاً عن تهجير أهل مدن القناة حماية لهم من القصف الإسرائيلي عبر قناة السويس عقب هزيمة 1967. لكن الكتاب الذي بين أيدينا في الفصل المعنون «المهاجرون» هو الذي يرينا مذلة أولئك المهاجرين (أو المُهجَّرين كما عُرفوا وقتها في تسمية أصحّ) لدى وصول بعضهم للعيش في قرية «الدراكسة» بعيداً عن الخطر. لكنه أيضاً هو الذي يرينا قدرة المهاجرين على التأقلم مع الظرف الجديد، ويرينا الروح المصرية الأصيلة وقت الأزمة حيث يكرم أهل القرية ضيوفهم طويلي المكث خير إكرام. لكنه فوق هذا وذاك يحكي لنا من واعية الطفل الذي كأنه الكاتب في ذلك الوقت عن الأثر التمديني العميق الذي مارسه هؤلاء الضيوف الآتون من مدينة بورسعيد الساحلية ذات التاريخ الكوزموبوليتاني على القرية النائية المعزولة عن الحضارة، فلم يتركوها بعد سنوات إلا وقد تغيرت عاداتها العريقة في المأكل والملبس والمشرب والسلوك الاجتماعي. هكذا تختلط المآسي والمنافع في الحياة كما في كثير مما يصوره الكتاب.

يصعُب تصنيف «طباطيب العبر». هل هو تسجيل لتاريخ شفهي؟ هل هو مجموعة تحقيقات صحافية متأدِّبة؟ هل هو دراسة أنثروبولوجية عفوية تخففت من المناهج والتقعر الأكاديمي؟ هل هو رصد واقعي أم خيال قصصي؟ هل فصوله وحدات منفصلة أم أن ثمة شيئاً يصهرها معاً في كلٍّ؟ الأرجح أن الكتاب فيه من كل هذه الصفات وأن مرونته السردية جاءت نتاجاً للعاطفة الاسترجاعية الكامنة وراءه والتي كان من الصعب أن تُصبَّ في قالب جامد أو تسلسل زمني، وكان لا بد أن تكتب في هيئة زخات شعورية متباعدة. مرونة السرد هذه هي نفسها التي تجعل الكتاب في بعض المواضع يلتحق برومانسية محمد حسين هيكل في روايته الشهيرة عن الريف المصري «زينب» (1912؟ 1914؟)، بينما في مواضع أخرى نراه يلتحق بواقعية «نائب في الأرياف» (1937) لتوفيق الحكيم وبالتصويرات الواقعية لكتّاب الريف الآخرين، أمثال عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف القعيد وغيرهما، وعلى الأخص يوسف إدريس الذي لا أشك أنه كان له أثر كبير أسلوبياً وفكرياً على الرحيمي.

على أنني لا أظن أني قرأت عن الريف المصري كتابة تغرق مثل هذا الإغراق في فنون المدرسة الطبيعية «الناتورالية» التي تجاوز تقنياتها تقنيات المدرسة الواقعية، فلا تترك تفصيلاً من تفاصيل البيئة إلا ذكرته ووصفته مهما بلغ من قذارة ومهما كان مقززاً ومهما كان خادشاً للحياء ومهما كان فاضحاً للنفس البشرية وللجسد البشري ومخرجاته. كل شيء هنا باسمه القح وقبحه الصادم ورائحته العطنة الفائحة وأصواته الناشزة (انظر على سبيل المثال لا الحصر الفصل المعنون «روائح القيظ القديمة»). هذه كتابة غير مُراقَبة، غير مهذبة ولا منمقة، لا تحاول أن تحمي القارئ ولا تراعي نعومته وترفه المديني أو الطبقي ولا يعنيها أن تمزق تغليفه السيلوفاني شر تمزيق. ذلك أنها كتابة تريد صدم الحس المُرفَّه وتحريك الضمير المٌخدَّر وتوليد الإحساس بالذنب لدى المجتمع الغافل عن أبنائه وعن الثمن الفادح الذي يدفعه جنود الريف المجهولون من أجل رفاهتهم. هي كتابة لريفي تمدَّن ولكن بقي على حبه وولائه للريف.

يتجول الكاتب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة»

غير أنني أيضاً لا أظنني قرأت منذ يوسف إدريس كتابة عن الريف المصري تتسم بهذا الفهم المُشرَّب بالعطف الإنساني. إلا أن ثمة فارقاً. كان إدريس يكتب عن ريف موجود فلم يكن في كتابته حنين، أما هنا فنحن أمام كتابة استرجاعية، كتابة عن ريف وناس وعادات وقيم ما زالت في الذاكرة لكنها لم تعد في الواقع المعاش، وربما من هنا تنبع الرغبة في اقتناصها في كتاب قبل أن تزول من الذاكرة أيضاً بغياب الجيل الذي عاصرها، وهذا ما يفعله أسامة الرحيمي الذي يصحب حواسَّنا الخمس في رحلة نلمس فيها أشجار الريف وحقوله ونشم روائحه، الطيب منها والخبيث، ونسمع أصوات بشره وحيوانه ونرى جماله وقبحه ونذوق طعومه، كما في فصل «أكل التوت» مثلاً وفي سائر الكتاب.

يكتب الرحيمي في لغة عذبة سلسة، لا يعنيها التأنق المصطنع لأن فيها رشاقة طبيعية تتنقل بك في خفة بين الفصحى والعامية، ومن لغة القرية إلى لغة المدينة، ومن لغة الطفل في لحظة الحدث إلى لغة الكاتب الناضج المتأمل لطفولة الماضي، ويحلّق بك عند الطلب من سهول النثر إلى مرتفعات الشعر.
في هذا الكتاب السهل الممتنع في أسلوبه، الثري في شخصياته وحكاياته، المتأمل في الريف وتحولاته، والملآن بالعطف على الإنسان وسائر الكائنات، على الترع والحقول والأشجار، تنضح الصفحات بالحزن على الحيوات التي ذهبت بدداً، والأجيال التي لم تجرؤ على الأمل. إن كانت أتراحها وآلامها - وأحياناً أفراحها - ما زالت تتردد في الفضاء، فهذا الكتاب قد التقط أصداءها.