الفن موقف من التدمير الذي يتعرض له العالم

قراءة في لوحة الجيوكندا لأيمن يسري

جيوكندا لأيمن يسري
جيوكندا لأيمن يسري
TT
20

الفن موقف من التدمير الذي يتعرض له العالم

جيوكندا لأيمن يسري
جيوكندا لأيمن يسري

في هذا العمل الفريد والمتفرد للفنان الفلسطيني المقيم بالسعودية أيمن يسري، نجد تعبيرًا صارخًا عن عمق الأزمة التي يعيشها إنسان ما بعد الحداثة، وعن عمق الأزمة التي أوصلنا إليها «الأفكلورنغ» العقل الأنواري. في هذا السياق، يمكننا قراءة لوحة الجيوكندا للفنان أيمن يسري التي تحتاج إلى رؤية، وإلى استحضار السياق والبعد التاريخي أكثر من المكون اللوني. ومن هنا يستمد هذا العمل الفني تميزه ضمن حقل الفن المعاصر. ويمكن تركيز هذه الأبعاد المهمة التي لا بد من استحضارها عند قراءة هذا العمل الفني الذي عرضه أيمن يسري ضمن معرضه «محارم في جدة» في:
1- البعد التاريخي: قراءة اللوحة باستحضار فلسفة عصر النهضة والقيم التي نادى بها في هذه المرحلة، على اعتبار حضور صورة «الموناليزا»، له دلالته الخاصة والهامة التي تقربنا من رؤية هذا الفنان المتألق للفن ولما بعد الحداثة.
2- الوعي النوعي بالراهن: لا بد من قراءة كل مكون في سياقه التاريخي، باعتباره وعيًا نوعيًا خاصًا بمرحلته وليس استمرارية للموروث، مع ربطه ببقية المكونات الفنية داخل اللوحة، معتمدين القراءة من الداخل، والقراءة المنفتحة على بقية الحقول المعرفية في الآن نفسه، من أجل وعي ملتزم بالسياق الذي أنتجت فيه هذه اللوحة. كما يجب الابتعاد عن القراءة المدرسية التي تركن وتستكين لمحددات قد تجعل من العمل الفني، الذي يحتوي دائمًا بعدًا استشرافيًا، قالبًا جامدًا.
3- البعد القيمي: كل عمل فني حامل لقيم يمكن أن تكون موازية أو مضادة، حسب التصور الذي يؤطر الفنان، والقراءة الفاعلة هي التي تحاور العمل الفني بمعرفة نقدية، قصد الوقوف على خلفياته وسياقه واستشرافاته.
يمكن أن نقسم قراءتنا لهذا العمل المتفرد إلى مستويين: مستوى وصفي لمكونات اللوحة الفنية ولعلاماتها الأيقونية، ومستوى تحليلي تأويلي نحاول، من خلاله، ربط العلامة بدلالتها، لعلنا نقترب من المعنى وليس إعطاء معنى لها.
في المستوى الأول: نلاحظ تبئيرًا la focalisation لأحد مكونات الجيوكندا، وهي صورة المرأة المبتسمة في الجيوكندا، لكن داخل علبة سردين، وهناك مفتاح لهذه العلبة، وفي الأعلى هناك لون أصفر. بينما في الأسفل، هناك موج لألوان قاتمة يمكن أن نحدد منها المكون اللوني الأخضر البارد وكأنه لون غدير، وهناك وجود لوجوه مصطكة وشاحبة، كل منها ينظر إلى الآخر.
يهدف الفنان أيمن يسري، من خلال المكون الدلالي «الجيوكندا»، الحاضر على مستوى بؤرة اللوحة، إلى إثارة الذاكرة واستدعائها لتتمثل Représenter مرحلة ساهمت في تشكيل التاريخ الإنساني. إنها مرحلة الإحياء المسماة بـ: «النهضة» La Renaissance، وإعادة الاعتبار للكائن الإنساني، بوصفه قيمة في ذاته، غير خاضعة لمنطق الاقتصاد والتداول والتسليع. هنا تكمن أصالة هذا المتفرد أيمن يسري، الذي يسمي نفسه بـ«الديدبان». فهو بتعبير هيجل Hegel، «لا يستحضر الفن، الأشكال والألوان والأصوات المحسوسة كغاية في ذاتها، وعبر مظهرها الحسي المباشر، بل يستحضرها لكي يشبع اهتمامات فكرية سامية، لأنها قادرة كلها على أن تخلق صدى داخل أعماق الوعي والفكر». وهذا هو ما يستدعيه توظيف الفنان أيمن يسري للوحة «الجيوكندا» في الكائن الإنساني. إنها تذكره بماضيه، وكذلك بحاضره، وحثه على الإسهام في تثويره (بمعنى تغييره).
هذا الوضع الذي يمكن للفنان أن يساهم فيه. فإذا كان هيدغر تحدث في مقاربته لعصر التقنية، عن أن الإنسان نسي الوجود ولم يعد يستمع إليه، فإن أيمن يسري يؤكد على أن الإنسان نسي ذاته وطبيعته القائمة على التوازن: نسي قيمه وتاريخه وإنسانيته ومثله العليا التي تعتبر «النهضة» أسمى مراحلها. غير أن المثير في هذه اللوحة، هو المكون الدلالي «الجيوكندا»، الدال على الإنسانية والتاريخ والقيم المثلى حيث وضعت داخل علبة سردين رخيصة ومبتذلة فما دلالة هذا التوظيف؟
على هذا الأساس، تصبح علبة سردين مكونًا دلاليًا داخل اللوحة لا يختزل في ذاته، بل مكونًا راهنيًا منفتحًا. وهنا لا أقصد بالراهن الأرشيف أو لحظة فلاشية، بل أقصد به لحظة ديالكتيكية بقدر ما تمتد في الماضي، فهي تستشرف المستقبل بناء على الحاضر. وبالتالي، فمكون علبة سردين لم يعد دالاً على ذاته فقط، بل على حقبة تاريخية ينتمي إليها، تتميز بالتسليع والهيمنة، والسيطرة الشاملة للتقنية وتغلغلها في نسيج الحياة الاجتماعية. فعلبة سردين داخل اللوحة تنتمي لعصر ميزته السرعة والترشيد المتزايد للوقت والأشياء والذوات، من أجل ضبط الفاعلين فيه خدمة للنشاط الاقتصادي المتنامي، الذي لم يعد يعترف بالشيء إلا بمقدار ما يدره من فائدة. فكل شيء قابل للبيع والشراء. وكل قيمة قابلة للتداول، أو أنها تصبح فاقدة القيمة: المرأة في الإشهار، والرجل في الإشهار والتراث في الإشهار. كل ما هنالك تقديس للعلامات وتبخيس للأفراد وتنميط لقيمهم، هذا هو المبدأ الأساس، أما الغاية فهي الربح، كيفما كانت الوسيلة.
في هذا السياق، يمكن فهم عبقرية الفنان الفلسطيني أيمن يسري «الديدبان»، ورائعته الجيوكندا في علبة سردين. فدمج مكونين دلاليين من حقب تاريخية مختلفة: «الجيوكندا» من القرن 16، وعلبة سردين من القرن العشرين، دليل صارخ على ما وصلت إليه الإنسانية من ابتذال وتبخيس. فكأن أيمن يسري يقول لنا من خلال هاته اللوحة: إن هذا العصر الذي نعيشه هو عصر تعليب وتسليع كل شيء. فلقد أصبح كل شيء قابلاً للتداول وخاضعًا لقيمة البيع والشراء. ولم يعد هناك شيء جدير بالتقديس. فحتى القيم الإنسانية والحضارية والتاريخية تم تعليبها. لقد قوض العقل ذاته، فلم يعد ينتج لنا قيم الحرية والسلام والكرامة، بل أصبح ينتج قيم السلب والنفي والاستبعاد. ولكن هناك أملاً يحيل عليه في اللوحة مفتاح علبة السردين، غير أن هذا المفتاح يمكن قراءته في منحيين:
1. مفتاح دال على الأمل، بحيث إن تقويض عصر التقنية لن يتم للإنسانية من دون الرجوع إلى عصر «النهضة»، وتمجيد القيم النبيلة، وبعثها وإعادة الاعتبار للإنسان والتعامل معه كغاية لا كوسيلة، حيت إن سلامة هذه القراءة تكمن في أن داخل علبة سردين، يوجد وجه «الجيوكندا» الدال على حقبة تاريخية لها عميق الأثر في البشرية.
2- مفتاح دال على وجود شخص أو مؤسسة لها الرغبة في نفي كل القيم الإنسانية وتحويلها إلى شيء قابل للاستهلاك والتداول/ البيع والشراء.
هذا الإبهام/ الاستبهام: أي جعل هذا الدمج لمكون علبة سردين والجيوكندا والمفتاح مبهمًا، من دون تحديد القائم على فتح العلبة، له دلالته ورمزيته، ويؤشر لنا على عبقرية فنية لدى أيمن يسري، تكمن في تركه المساحة للقارئ بأن يخمن ويستنفر ذهنيته من أجل الإلمام باللوحة، ووضعها في سياقها، بعيدا عن القراءات المدرسية الجافة التي تبقى عند حدود الألوان والتصنيف ضمن مدارس معينة. فما دام العصر، كما أعلن عنه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، عصر النسخ وعصر انهيار المبدأ المؤسس للواقع وغياب النسقية، لا سواء في الكتابة الفلسفية أو العلوم أو في الفن، فإن الحديث عن انتماء أيمن يسري إلى مدرسة معينة يبقى ضربًا من الكلام.
وفي الأسفل، تطالعنا مجموعة من الوجوه الشاحبة التي يحول بينها وبين بؤرة اللوحة اللون الغديري (نسبة إلى لون الغدير)، وهو ما يمكن ربطه باللوحة، حيت تتميز ثقافة ما بعد الحداثة، عند أيمن يسري، أو عند الكثير من المفكرين، كونها ثقافة الحشد والاغتراب، وهو ما يناقشه مافيزولي في كتابه «تأمل العالم في فصل معنون بالنقاش الجمعاني».
لا يمكن أن ندعي أن قراءتنا هي الواحدة والوحيدة، وهذا لن يقوم به إلا مغرور أو جاهل بموقعه في حركة التاريخ. لكن يمكن أن نقول إن هذه القراءة الأقرب، مع العلم أننا تجاهلنا قراءة أخرى، نظرًا لغياب مكونات دالة على محوريتها في اللوحة، كحضور ثيمة المرأة «المركز» والجنس، وبحثنا عن الرؤية والعبقرية لدى الفنان أيمن يسري، كان من أجل استجلاء الفن كموقف من العالم عند أيمن يسري. فهو موقف متوجس من ما بعد الحداثة، ومن التقنية التي تغلغلت في النسيج الاجتماعي للأفراد. غير أن هذا التخوف بنظري عند الفنان أيمن يسري، نظرًا لما استشفه من لوحاته الأخرى، ليس رفضًا للتقنية بالمرة والمطلق، وهو ما لا يجب فهمه من لوحاته، بل هو رفض للمضمون الذي تمرره التقنية والسياقات التي توظف فيها التقنية. فرفضه لقيم العلم ليس رفضًا للعلم في حد ذاته، بل للقيم التي قد توظف ضد أهداف هذا الأخير النبيلة.
ما أخلص إليه من خلال تتبعي لأعمال هذا المتفرد، هو أن الإنسان تدفعه غريزته للبقاء، وتدفعه الروح الخلاقة للإبداع، لذلك سيساهم الفن بقتلنا من أجل تحقيق غاية نبيلة هي الوصول إلى الكمال.



رهانات السَّرد العربي المعاصر

رهانات السَّرد العربي المعاصر
TT
20

رهانات السَّرد العربي المعاصر

رهانات السَّرد العربي المعاصر

في كتابه «رهاناتُ السَّردِ العربيِّ المُعاصر: دراسات وقراءات مونوغرافية» يتابع الناقد والباحث المغربي أحمد المديني ما بدأه في آخر كتاب نقدي له «في حداثة الرواية العربية - قراءة الذائقة»، والذي قبله، أيضاً: «السرد والأهواء، من النظرية إلى النص»، بمعنى خطّ مواصلة قراءة نصوص روائيةٍ عربيةٍ مميّزةٍ باندراجها في الخط العام لتطور وتجديد السّرد التخييلي، كما كتبته الأقلام اللّاحقة وتجرب فيه بعد المتن المؤسس لأجيالِ الرّواد والمرسِّخين.

يتضمن الكتاب الصادر عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن (2025)، طيفاً واسعاً من الدراسات التي ركزت على الرواية العربية التي رأى الباحث أنه يمكنها أن توازي وتساوق في تعبيراتها ما بلغته الكتابة السردية في آداب العالم، وتتميز بفرادتها وخصوصيتها المحلية لغةً، وأسلوباً، ومهاراتِ بناء، وغنى عوالمَ، وشخصياتٍ تنتمي إلى العالم وتستشرف الغد.

وإذ يعتمد الباحث في تحليله على مناهج محكمة، وبتمثل لمفاهيم نقدية ونسقية ملائمة للتحليل وقراءة النصوص؛ فإنه يولي عناية خاصة للذائقة بوصفها، عنده، أداةً وغربالاً تصبح كما يوضح منهجاً للعمل واستعداداً فطرياً يُمتحن ويتغذّى باستمرار، مشيراً إلى أنها أعلى مرتبةٍ يمكن أن يصل إليها دارسُ الأدب والناقد، حين تختمر ثقافتُه فتعطي زُبدتهَا بما هو أكبرُ من النظريات وأدقُّ من رطانة المصطلحات ومهارةِ وربما حذلقةِ التنقل بين المناهج لاختبار النصوص وتقليبها على وجوهٍ ومواضعَ شتى.

وقدم المديني دراسات تسجل خلاصة ملاحظات واستنتاجات من عِشرةٍ طويلة له مع النصوص وحوارٍ معها بين «أُلفة وجدل» كما يقول، مشيراً إلى أنه أراد أن يتجاور النظريّ والتحليليّ ويتفاعلان ذهاباً وإياباً، مع عنايته أكثر بالثاني لأنه مضمارُ القراءة ومِحَكُّها ومختبرُ محاليلِ كيمياءِ النص الروائي جزءاً وكلّاً.

واشتمل الكتاب على مجموعة مواضيع وعناوين كبرى وأخرى فرعية ترسم خريطةً مجملةً تتوزع على جغرافيتها القضايا المحوريةُ للرواية العربية سواء في وضعها التاريخي الكلاسيكي، أو في خط تخلّقها المستمرِّ على نهج ما تطمح إليه أو تحققه من حداثة نسبية.

ويؤكد المديني أيضاً على خصوصية ما سماه «القراءة المونوغرافية» التي «تتفرد ولا تدّعي الشمول، وفي الوقت نفسه فهي قابلةٌ لأن تتحول إلى مرصد قراءة عامة ودليلِ سير لذائقة أدبية مدرّبةٍ وعالمةٍ وتركيبيةٍ لتضع السردَ العربيَّ العصريّ في موقعه الصحيح بلا تزيُّد ومبالغة، وتنظيرُه وتذوُّقُه وتقويمُه منبثقٌ من قلب النصوص، أولاً، ومرجعياتها وخلفياتها، ثانياً، بما يمُكّن من الجمع بين الجمالي واستقصاء المعاني في دائرة الأدب العربي شاملاً، مرةً، وقُطرياً، مرة أخرى. فالتفاوت، كما يؤكد الناقد، موجودٌ ومفروض، وإن كنا لا نرى له مكاناً في المستوى الفني ولا تنسيباً».

وكانت قد صدرت للمديني مجاميع قصصية، وروايات، ودواوين شعر، ودراسات أكاديمية، إضافة إلى كتب نقدية لمدوّنة سردية مغربية ومشرقية، وأعمال مترجمة.