الجزائر.. ترتيبات «ما بعد الجنرال»

اللمسات الأخيرة التي أحدثها بوتفليقة على جهاز المخابرات تشغل الطبقة السياسية

عثمان طرطاق  -  محمد مدين
عثمان طرطاق - محمد مدين
TT

الجزائر.. ترتيبات «ما بعد الجنرال»

عثمان طرطاق  -  محمد مدين
عثمان طرطاق - محمد مدين

يلاحظ متابعو الشأن الجزائري، في الداخل والخارج، أن «جزائر ما بعد بوتفليقة» هو الموضوع الذي يشغل الطبقة السياسية والإعلام في الجزائر حاليًا. هذا الأمر سلطت عليه الأضواء فعليًا في أعقاب اللمسة الأخيرة التي أحدثها رئيس الجمهورية على جهاز المخابرات العسكرية، بعزل الفريق محمد الأمين مدين الشهير بـ«الجنرال توفيق». غير أن السؤال الأبرز في هذه القضية، هو هل سيتحدى الرئيس المرض ويستمر في الحكم رغم انسحابه من المشهد منذ أكثر من سنتين، أم سيضطر لاختيار من سيخلفه من داخل ما يعرف بـ«جماعة الرئاسة».

في الماضي القريب كانت شؤون الحكم والقرارات الكبرى في الجزائر يصنعها جنرالات الجيش، وهم بالتحديد وزير الدفاع وقادة النواحي العسكرية الستة وقادة القوات البرية والبحرية والجوية والدفاع عن الإقليم، ومعهم ضباط «مديرية الاستعلام والأمن»، التي تعد القلب النابض في المؤسسة العسكرية.
هؤلاء هم مَن أجبروا الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد على التنحّي مطلع عام 1992، على أثر الفوز الساحق الذي حققته «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في أول انتخابات برلمانية منذ الاستقلال.

* بوتفليقة: «السلطة الأولى»
غير أنه منذ وصول عبد العزيز بوتفليقة إلى الرئاسة في عام 1999، والحرص الذي أبداه لتمكين الرئاسة من استعادة السلطات والصلاحيات التي استحوذ الجيش على جزء منها، في فترة الصراع الدامي مع الجماعات الإسلامية المسلحة، تغيَر كل شيء وبصفة جذرية.
هو بنفسه قال عشية انطلاق ولايته الأولى لقناة تلفزيونية فرنسية: «قولوا للجنرالات الجزائريين أن يلتهموني إن كان بمقدورهم ذلك!». أما غداة انتخابه فقال أمام الصحافة وبوضوح: «سوف لن أكون أبدًا ثلاثة أرباع رئيس». وفُهمت الرسالة حينذاك بأن بوتفليقة يريد حقًا أن يكون «السلطة الأولى في الجزائر»، والصوت الذي يعلو ولا يعلى عليه. ومنذ تلك اللحظة أدرك قادة المؤسسة العسكرية أنهم جلبوا لأنفسهم المتاعب عندما لجأوا إلى السياسي المخضرم وهو في منفاه الاختياري، ليعرضوا عليه حكم البلاد بعد استقالة الجنرال اليمين زروال من الرئاسة.
وبسط بوتفليقة نفوذه شيئًا فشيئًا، فأزاح مباشرة بعد انتخابات الرئاسة في عام 2004 رئيس أركان الجيش الفريق محمد العماري، الذي ارتبط اسمه بالحرب الضروس ضد الإرهاب. وكان العماري قد وقف ضد ترشح بوتفليقة لولاية ثانية، فأضحى التعايش بينهما مستحيلاً. أما المثير في تلك الانتخابات، فهو أن مدير المخابرات محمد مَديَن سار في البداية على نفس موقف العماري، لكنّه غيّر البوصلة في آخر لحظة، فعقد تحالفًا مع الرئيس هو ما مكّنه من الولاية الثانية. وجاءت المكافأة عام 2006 بترقية مَديَن – أو الجنرال «توفيق» – من رتبة لواء إلى رتبة فريق، وأصبح بالتالي، ثاني ضابط بعد الاستقلال الذي يقلَده الرئيس الرتبة العليا في الجيش بعد العماري.
وردَ «توفيق» لبوتفليقة الجميل بتزكية مسعى تعديل الدستور في 2008 الذي كسر ما كان يمنع الرئيس من الترشح لولاية ثالثة، ومن ثَم عزّز موقعه في الحكم عبر تقليص سلطات رئيس الحكومة الذي حوَله إلى وزير أول.
بعدها عيَن بوتفليقة اللواء أحمد قايد صالح رئيسًا للأركان، وأصبح في ظرف قصير سنده القوي في المؤسسة العسكرية ومن أكثر رجال الحكم وفاءً له. وخلال العامين الأخيرين نقل إليه الرئيس تدريجيًا كل السلطات والصلاحيات التي كانت بحوزة المخابرات، التي صنعت للجنرال «توفيق» القوة والنفوذ طيلة 23 سنة التي أمضاها في قيادة المخابرات.

* قرارات سريعة
كل المراقبين ومتتبعي الأحداث السياسية في فترة حكم بوتفليقة، ظلوا مشدوهين لقوة وسرعة القرارات التي اتخذها الرئيس بعد عودته من رحلة العلاج إلى فرنسا، على أثر إصابته بجلطة دماغية في 27 أبريل (نيسان) 2013. لقد عاد بوتفليقة إلى الجزائر على كرسي متحرّك بعد فترة علاج ونقاهة طالت 88 يومًا، وأثناء غيابه أثير جدل حاد حول «نهاية بوتفليقة»، وانطلقت التخمينات بخصوص مَن «اختاره توفيق ليكون خليفة لبوتفليقة». وفي خضم ذلك الجدل كان السعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس وكبير مستشاريه، يتردّد بين الجزائر وباريس حيث مستشفى الـ«فال دوغراس» العسكري الشهير، حيث كان الرئيس يتلقى العلاج، لينقل إليه كل كبيرة وصغيرة عمّا يقال عنه في الجزائر.
عن هذا الأمر بالتحديد، يذكر أحد وزراء الإعلام الـ13 الذين «استهلكهم» بوتفليقة خلال 15 سنة في الحكم، لـ«الشرق الأوسط»: «اغتاظ الرئيس كثيرًا لما قيل عنه في صالونات السياسة بالعاصمة، وما نقلته بعض الصحف عن نهايته المزعومة. البعض قال إن مدير المخابرات هو مَن كان وراء ذلك، لكن ذلك غير صحيح والرئيس يعلم أنها ليست الحقيقة، لكنه غضب من توفيق غضبًا شديدًا كونه لم يشغَل الأدوات التي بين يديه، ليمنع تداول إشاعات جاء في بعضها أنه توفي». وتابع الوزير السابق: «.. ربما كان توفيق يتوقع نهاية بوتفليقة لعلمه أنه فقد التحكّم بحواسه، وبالتالي، لن يستطيع مقاومة حالة الضعف التي وجد فيها، وأنه لن يترشح لانتخابات 2014. غير أن توفيق وكل من راهن على انسحاب بوتفليقة من الحكم، ربما لم يكونوا يعرفون حقيقة شخصية الرجل. فقد عاد إلى الحكم ليخلد فيه، وحتى إن خارت قواه ولم يعد قادرًا على الاستمرار سيختار هو من سيخلفه وليس العسكر». ثم أضاف: «مرض الرئيس غيَره تجاه توفيق، وقد كان لشقيقه ورئيس أركان الجيش قايد صالح، دور كبير في هذا التغيير. فالأول تصرّف دفاعًا عن أخيه الأكبر الذي يدعونه في العائلة (سيدي حبيبي) إجلالا وتقديرا له. والثاني تصرّف بدافع الرغبة في أن يصبح الرقم واحد في المؤسسة العسكرية من دون أن ينازعه توفيق في أي شأن يخصها، ولقد نجح في ذلك وإن كان لا يستطيع اتخاذ أي قرار دون مشورة الرئيس. وبإمكاني أن أجزم بأن صالح يطمع في أن يختاره بوتفليقة لخلافته».

* تفكيك «الجهاز»
بدأت القرارات الصاروخية في السقوط على رأس مدير المخابرات، الواحدة بعد الأخرى.
أولها وأخطرها كان حرمان «الجهاز» من الشرطة القضائية، العصا التي قادت تحقيقات في أكبر قضايا الفساد التي تورَط فيها مسؤولون بارزون في الدولة. وكان «ذنب توفيق الأعظم» أن شرطته حشرت أنفها في فضائح شركة المحروقات «سوناطراك»، وأفضى التحقيق إلى اتهام شكيب خليل وزير الطاقة المتنحّي حديثًا – في حينه – بالتورّط بعمولات ورشى دُفعت في إطار صفقة مع شركة «سايبام»، فرع عملاق الطاقة الإيطالي شركة إيني. وقدّم «توفيق» ملفًا عن الفضيحة إلى وزير العدل محمد شرفي، الذي أمر النيابة بإعداد مذكرة اعتقال دولية ضد شكيب خليل.
كل هذه التفاصيل جرت في فترة غياب بوتفليقة، وضد من؟ ضد صديق طفولته الذي ترجّاه في عام 1999 كي يغادر منصبه في البنك العالمي للإشراف على قطاع المحروقات بالجزائر. بل، والأدهى من ذلك، أن اسم السعيد بوتفليقة ورد في التحقيق على أساس أنه تقاضى رشوة مقابل التوسّط لدى مكتب دراسات عالمي ليأخذ حصّة من مشاريع نفطية في صحراء الجزائر.
وثارت ثائرة الرئيس عندما علم بأن أعزّ الناس إليه، شقيقه الأصغر، الذي يمارس وظيفة نائب رئيس جمهورية بشكل غير رسمي، مهدّد بالمتابعة وربما السجن. وعندها، قرر تنحية وزير العدل في أول تعديل حكومي، وزحزح ضباط المخابرات الذين أجروا التحقيق من وظائفهم بالعاصمة «فنفاهم» إلى مواقع في الولايات الداخلية، وأمر أيضًا بإبطال مذكرة الاعتقال بحجة أنها لم تستوفِ الشروط القانونية، كونها صدرت عن المحكمة الابتدائية، وليس من المحكمة العليا.. التي هي الجهة التي تقاضي أصحاب الوظائف السامية.
جاء بعدها إلغاء «وحدة الاتصال والبث» في المخابرات، التي كان يقودها «الكولونيل فوزي»، وعيّن «توفيق» في مؤسسات الإعلام. وأحال البعض على التقاعد الإجباري. ثم جرَد المخابرات من الإشراف على الأمن العسكري والرئاسي ومن التنصّت على مكالمات الوزراء والمسؤولين الكبار، وحلَ «مجموعة التدخل الخاصة» الأمنية، التي كانت القوة الضاربة للمخابرات أيام الصراع مع الإرهاب.
كل هذه الهياكل تم إلحاقها بقيادة الأركان، وبذلك أضحى قايد صالح «هيلمانًا» في الجيش. أما «الجهاز» فاحتفظ فقط بالأمن الداخلي والأمن الخارجي، أي بالحد الأدنى. ووصف الإعلام سلسلة الأحداث بـ«تفكيك جهاز المخابرات»، وعدَها بمثابة «عمل منظَم لإضعافه تحقيقا لغرض شخصي».
ويقول مراقبون تابعوا تلك التغييرات التي شهدتها البلاد، أن عملية «الضرب تحت الحزام» التي استهدفت «توفيق» بلغت المنعطف بمناسبة الهجوم غير المسبوق الذي وجهه رئيس حزب الأغلبية عمّار سعداني ضده. ففي مقابلة نارية مع صحيفة إلكترونية نشرت في فبراير (شباط) 2014، اتهمه بـ«إثارة القلاقل داخل الأحزاب» وبـ«العجز عن تجنيب الرئيس محاولة الاغتيال التي تعرض لها في 2007»، ودعاه إلى الاستقالة.
بقاء سعداني على رأس حزب الأغلبية، بعد هذا «الاعتداء» كان مؤشرًا قويًا على ضعف «توفيق». ويرى المراقبون أنفسهم أن أقوى ضربة تلقاها وبها وقّع الرئيس بوتفليقة «شهادة وفاته» كرئيس للمخابرات، كانت سجن رئيس قسم محاربة الإرهاب في المخابرات الجنرال حسّان يوم 27 أغسطس (آب) الماضي. فالرجل كان واحدًا من أبرز مساعديه، وتم الزج به في السجن ومنع محاميه من مقابلته. أما التهم الموجهة له فتبقى غامضة.

* توقّع عزل «توفيق»
تنبأ قطاع من المحللين على أثر هذه الأحداث، بأن تكون «الخطوة المقبلة تاريخية» عزل «توفيق»، وهو ما حصل فعلاً في 13 سبتمبر (أيلول) 2015. واستخلف بالرجل الثاني في المخابرات، مدير الأمن الداخلي سابقا اللواء عثمان طرطاق، المدعو «بشير» الذي عيَنه «توفيق» مساعدا له، غير أن بوتفليقة نحاه من المنصب عام 2014 وأحاله على التقاعد. لكنه عاد فجلبه إلى الرئاسة كمستشار أمني وكان يحضَره لخلافة «توفيق». وما يلفت الانتباه في هذا، أن «بشير» عاد إلى الخدمة بعد التقاعد، بينما أخرج «توفيق» إلى التقاعد بوضع حد لخدمته في الجيش.
الواقع انه لا يُعرف الشيء الكثير عن طرطاق، ما عدا كونه «شخصًا صلبًا مثل الصخر» لصلابته في مواجهة الجماعات المتطرفة أيام كان الإرهاب على وشك تحطيم الدولة. أما النتيجة التي توصل إليها المهتمون بهذه التطورات، فهي أن بوتفليقة تخلّص من شخص ضايقه كثيرًا، خاصة عندما تجرأ على التحقيق بشأن أخيه، وقدَر بأن الرئيس لا يصلح لولاية رابعة بسبب المرض.
غير أن أكثر ما يحير المراقبين حاليًا، هو كيف لرئيس ضعيف بدنيًا لم يخاطب الجزائريين منذ قرابة ثلاث سنوات ونصف بسبب المرض، أن يقدم على هذه المعركة ويخرج منها منتصرًا؟
الجواب عند البعض، أن بوتفليقة عزّز موقعه في الحكم بفضل «شراء ولاء» رئيس أركان الجيش (82 سنة) وكبار القادة العسكريين ممّن أبقاهم في مناصب المسؤولية، بينما يفترض أنهم تقاعدوا منذ سنين طويلة. ولم يتوقف «دهاء» بوتفليقة عند هذا الحد، بل إنه كسب ولاء قويًا وسط أكبر رجال الأعمال الذين دفعوا أموالاً طائلة في حملاته الانتخابية الأربع. وعلى رأس هؤلاء علي حداد، رئيس «منتدى رجال الأعمال»، وهو تكتل رساميل يضم نحو 20 رجل الأعمال قيمته تفوق 5 مليارات دولار أميركي.
هؤلاء يشكلون اليوم القوة المالية التي ترتكز عليها «جماعة الرئيس»، بينما تمثل رئاسة الأركان القوة المادّية، وهما، مجتمعَين، وظفهما بوتفليقة لتوجيه الضربة القاضية التي قهرت «توفيق».

* «مرحلة ما بعد بوتفليقة بدأت»
وقد عرض الدكتور حسني عبيدي، الباحث الجزائري ومدير «مركز الدراسات والأبحاث حول العالم العربي والمتوسط بجنيف»، رأيه في صحيفة محلية بخصوص مآلات الأحداث الأخيرة، فقال: «أعتقد أنه يجب عدم المبالغة في حجم إقالة الجنرال توفيق، لأننا حينها سنقع في مأزق الانتصارات الوهمية. لم يكن توفيق يشكّل كشخص تهديدًا لبوتفليقة، لكن استمرار الانسداد السياسي في الجزائر وغياب الرئيس (بداعي المرض) ومعه أي رؤية حقيقية لتسيير الدولة، مع تغول أصحاب النفوذ وضبابية عملية صناعة القرار في محيط الرئيس، إضافة إلى تغييرات حدثت في المؤسسة العسكرية والأمنية، (عوامل) تشكل سيناريو مخيفًا بالنسبة لمحيط الرئيس. لقد كان وضعًا يشجّع على تغيير مفاجئ في هرم السلطة أو انقلاب أبيض، خاصة أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي في الجزائر منذ انهيار أسعار النفط متّجه نحو مرحلة حرجة».
وبرأي عبيدي فقد «بدأ التحضير لما بعد بوتفليقة، وهذه المرة دون توفيق ولكن بضمانات قوية بعدم التعرّض له ولمحيطه بأي سوء. توفيق رحل عن المشهد السياسي في صمت مثلما بدأ مشواره، لكن من المؤكد أنه لن يكون آخر من يرحل». وتابع الباحث المقيم في سويسرا: «كان بالإمكان أن تمرّ هذه الإقالة دون أن تحدث ضجيجًا. لكن كونها تحصل في نظام سياسي مغلق وتستهدف أحد المكوّنات الأساسية لهذا النظام، يجعل منها منعطفًا سياسيًا بامتياز. ولأن النظام السياسي في الجزائر، منذ الاستقلال بُني على المقاربة الأمنية، فإن خروج المسؤول الأول (حارس الكهف) عن المنظومة الأمنية يكتسي أهمية بالغة. بمعنى أن الجنرال توفيق، بحكم الفترة الزمنية التي قضاها على رأس الأجهزة، ترك بصماته على كل شيء: العقيدة الأمنية واختيار الرجال وطبيعة الولاء وطريقة إدارة شؤون البلاد. ولكن تمثل إزاحة توفيق تحديًا إضافيًا للرئيس ومحيطه. فالقطب الرئاسي ممثلاً في بوتفليقة، لن يتحجّج بعد اليوم بتعدّد مراكز القرار السياسي والاقتصادي. إنه مطالب بمشروع للمجتمع يمهّد لدولة يحميها دستور جامع، يضمن الاستقرار الأمني والتوزيع العادل للثروات والمشاركة السياسية. أما التحدّي الثاني فيكمن في قدرة الرئيس على إعطاء نفَس جديد للجهاز الأمني، ليكون مؤسسة تحفظ أمن الدولة وليس أمن النظام ورموزه».
«مرحلة ما بعد بوتفليقة»، حديث يجري تداوله حاليًا في الأوساط السياسية والإعلامية. ولكن هل يعقل أن يرحل الرئيس عن الحكم، بعدما خاط على مقاسه كل شيء: السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والبرلمان والجيش برئاسة الأركان والمخابرات، وعالم المال والأعمال؟
في هذا الإطار، تقفز فرضيتان تبدوان الأقرب إلى المنطق: فإما أن يقرر الرئيس الاستمرار في الحكم متحدّيًا المرض والشكوك حول قدرته على تسيير دفة الحكم. وإما أن يختار مَن يخلفه ثم يعلن انتخابات مبكَرة. وفي هذا الإطار يرشح الملاحظون ثلاثة أشخاص: رئيس الوزراء عبد المالك سلاّل، ووزير الدولة مدير الديوان بالرئاسة أحمد أويحيى، و.. السعيد بوتفليقة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.