الجزائر.. ترتيبات «ما بعد الجنرال»

اللمسات الأخيرة التي أحدثها بوتفليقة على جهاز المخابرات تشغل الطبقة السياسية

عثمان طرطاق  -  محمد مدين
عثمان طرطاق - محمد مدين
TT

الجزائر.. ترتيبات «ما بعد الجنرال»

عثمان طرطاق  -  محمد مدين
عثمان طرطاق - محمد مدين

يلاحظ متابعو الشأن الجزائري، في الداخل والخارج، أن «جزائر ما بعد بوتفليقة» هو الموضوع الذي يشغل الطبقة السياسية والإعلام في الجزائر حاليًا. هذا الأمر سلطت عليه الأضواء فعليًا في أعقاب اللمسة الأخيرة التي أحدثها رئيس الجمهورية على جهاز المخابرات العسكرية، بعزل الفريق محمد الأمين مدين الشهير بـ«الجنرال توفيق». غير أن السؤال الأبرز في هذه القضية، هو هل سيتحدى الرئيس المرض ويستمر في الحكم رغم انسحابه من المشهد منذ أكثر من سنتين، أم سيضطر لاختيار من سيخلفه من داخل ما يعرف بـ«جماعة الرئاسة».

في الماضي القريب كانت شؤون الحكم والقرارات الكبرى في الجزائر يصنعها جنرالات الجيش، وهم بالتحديد وزير الدفاع وقادة النواحي العسكرية الستة وقادة القوات البرية والبحرية والجوية والدفاع عن الإقليم، ومعهم ضباط «مديرية الاستعلام والأمن»، التي تعد القلب النابض في المؤسسة العسكرية.
هؤلاء هم مَن أجبروا الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد على التنحّي مطلع عام 1992، على أثر الفوز الساحق الذي حققته «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في أول انتخابات برلمانية منذ الاستقلال.

* بوتفليقة: «السلطة الأولى»
غير أنه منذ وصول عبد العزيز بوتفليقة إلى الرئاسة في عام 1999، والحرص الذي أبداه لتمكين الرئاسة من استعادة السلطات والصلاحيات التي استحوذ الجيش على جزء منها، في فترة الصراع الدامي مع الجماعات الإسلامية المسلحة، تغيَر كل شيء وبصفة جذرية.
هو بنفسه قال عشية انطلاق ولايته الأولى لقناة تلفزيونية فرنسية: «قولوا للجنرالات الجزائريين أن يلتهموني إن كان بمقدورهم ذلك!». أما غداة انتخابه فقال أمام الصحافة وبوضوح: «سوف لن أكون أبدًا ثلاثة أرباع رئيس». وفُهمت الرسالة حينذاك بأن بوتفليقة يريد حقًا أن يكون «السلطة الأولى في الجزائر»، والصوت الذي يعلو ولا يعلى عليه. ومنذ تلك اللحظة أدرك قادة المؤسسة العسكرية أنهم جلبوا لأنفسهم المتاعب عندما لجأوا إلى السياسي المخضرم وهو في منفاه الاختياري، ليعرضوا عليه حكم البلاد بعد استقالة الجنرال اليمين زروال من الرئاسة.
وبسط بوتفليقة نفوذه شيئًا فشيئًا، فأزاح مباشرة بعد انتخابات الرئاسة في عام 2004 رئيس أركان الجيش الفريق محمد العماري، الذي ارتبط اسمه بالحرب الضروس ضد الإرهاب. وكان العماري قد وقف ضد ترشح بوتفليقة لولاية ثانية، فأضحى التعايش بينهما مستحيلاً. أما المثير في تلك الانتخابات، فهو أن مدير المخابرات محمد مَديَن سار في البداية على نفس موقف العماري، لكنّه غيّر البوصلة في آخر لحظة، فعقد تحالفًا مع الرئيس هو ما مكّنه من الولاية الثانية. وجاءت المكافأة عام 2006 بترقية مَديَن – أو الجنرال «توفيق» – من رتبة لواء إلى رتبة فريق، وأصبح بالتالي، ثاني ضابط بعد الاستقلال الذي يقلَده الرئيس الرتبة العليا في الجيش بعد العماري.
وردَ «توفيق» لبوتفليقة الجميل بتزكية مسعى تعديل الدستور في 2008 الذي كسر ما كان يمنع الرئيس من الترشح لولاية ثالثة، ومن ثَم عزّز موقعه في الحكم عبر تقليص سلطات رئيس الحكومة الذي حوَله إلى وزير أول.
بعدها عيَن بوتفليقة اللواء أحمد قايد صالح رئيسًا للأركان، وأصبح في ظرف قصير سنده القوي في المؤسسة العسكرية ومن أكثر رجال الحكم وفاءً له. وخلال العامين الأخيرين نقل إليه الرئيس تدريجيًا كل السلطات والصلاحيات التي كانت بحوزة المخابرات، التي صنعت للجنرال «توفيق» القوة والنفوذ طيلة 23 سنة التي أمضاها في قيادة المخابرات.

* قرارات سريعة
كل المراقبين ومتتبعي الأحداث السياسية في فترة حكم بوتفليقة، ظلوا مشدوهين لقوة وسرعة القرارات التي اتخذها الرئيس بعد عودته من رحلة العلاج إلى فرنسا، على أثر إصابته بجلطة دماغية في 27 أبريل (نيسان) 2013. لقد عاد بوتفليقة إلى الجزائر على كرسي متحرّك بعد فترة علاج ونقاهة طالت 88 يومًا، وأثناء غيابه أثير جدل حاد حول «نهاية بوتفليقة»، وانطلقت التخمينات بخصوص مَن «اختاره توفيق ليكون خليفة لبوتفليقة». وفي خضم ذلك الجدل كان السعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس وكبير مستشاريه، يتردّد بين الجزائر وباريس حيث مستشفى الـ«فال دوغراس» العسكري الشهير، حيث كان الرئيس يتلقى العلاج، لينقل إليه كل كبيرة وصغيرة عمّا يقال عنه في الجزائر.
عن هذا الأمر بالتحديد، يذكر أحد وزراء الإعلام الـ13 الذين «استهلكهم» بوتفليقة خلال 15 سنة في الحكم، لـ«الشرق الأوسط»: «اغتاظ الرئيس كثيرًا لما قيل عنه في صالونات السياسة بالعاصمة، وما نقلته بعض الصحف عن نهايته المزعومة. البعض قال إن مدير المخابرات هو مَن كان وراء ذلك، لكن ذلك غير صحيح والرئيس يعلم أنها ليست الحقيقة، لكنه غضب من توفيق غضبًا شديدًا كونه لم يشغَل الأدوات التي بين يديه، ليمنع تداول إشاعات جاء في بعضها أنه توفي». وتابع الوزير السابق: «.. ربما كان توفيق يتوقع نهاية بوتفليقة لعلمه أنه فقد التحكّم بحواسه، وبالتالي، لن يستطيع مقاومة حالة الضعف التي وجد فيها، وأنه لن يترشح لانتخابات 2014. غير أن توفيق وكل من راهن على انسحاب بوتفليقة من الحكم، ربما لم يكونوا يعرفون حقيقة شخصية الرجل. فقد عاد إلى الحكم ليخلد فيه، وحتى إن خارت قواه ولم يعد قادرًا على الاستمرار سيختار هو من سيخلفه وليس العسكر». ثم أضاف: «مرض الرئيس غيَره تجاه توفيق، وقد كان لشقيقه ورئيس أركان الجيش قايد صالح، دور كبير في هذا التغيير. فالأول تصرّف دفاعًا عن أخيه الأكبر الذي يدعونه في العائلة (سيدي حبيبي) إجلالا وتقديرا له. والثاني تصرّف بدافع الرغبة في أن يصبح الرقم واحد في المؤسسة العسكرية من دون أن ينازعه توفيق في أي شأن يخصها، ولقد نجح في ذلك وإن كان لا يستطيع اتخاذ أي قرار دون مشورة الرئيس. وبإمكاني أن أجزم بأن صالح يطمع في أن يختاره بوتفليقة لخلافته».

* تفكيك «الجهاز»
بدأت القرارات الصاروخية في السقوط على رأس مدير المخابرات، الواحدة بعد الأخرى.
أولها وأخطرها كان حرمان «الجهاز» من الشرطة القضائية، العصا التي قادت تحقيقات في أكبر قضايا الفساد التي تورَط فيها مسؤولون بارزون في الدولة. وكان «ذنب توفيق الأعظم» أن شرطته حشرت أنفها في فضائح شركة المحروقات «سوناطراك»، وأفضى التحقيق إلى اتهام شكيب خليل وزير الطاقة المتنحّي حديثًا – في حينه – بالتورّط بعمولات ورشى دُفعت في إطار صفقة مع شركة «سايبام»، فرع عملاق الطاقة الإيطالي شركة إيني. وقدّم «توفيق» ملفًا عن الفضيحة إلى وزير العدل محمد شرفي، الذي أمر النيابة بإعداد مذكرة اعتقال دولية ضد شكيب خليل.
كل هذه التفاصيل جرت في فترة غياب بوتفليقة، وضد من؟ ضد صديق طفولته الذي ترجّاه في عام 1999 كي يغادر منصبه في البنك العالمي للإشراف على قطاع المحروقات بالجزائر. بل، والأدهى من ذلك، أن اسم السعيد بوتفليقة ورد في التحقيق على أساس أنه تقاضى رشوة مقابل التوسّط لدى مكتب دراسات عالمي ليأخذ حصّة من مشاريع نفطية في صحراء الجزائر.
وثارت ثائرة الرئيس عندما علم بأن أعزّ الناس إليه، شقيقه الأصغر، الذي يمارس وظيفة نائب رئيس جمهورية بشكل غير رسمي، مهدّد بالمتابعة وربما السجن. وعندها، قرر تنحية وزير العدل في أول تعديل حكومي، وزحزح ضباط المخابرات الذين أجروا التحقيق من وظائفهم بالعاصمة «فنفاهم» إلى مواقع في الولايات الداخلية، وأمر أيضًا بإبطال مذكرة الاعتقال بحجة أنها لم تستوفِ الشروط القانونية، كونها صدرت عن المحكمة الابتدائية، وليس من المحكمة العليا.. التي هي الجهة التي تقاضي أصحاب الوظائف السامية.
جاء بعدها إلغاء «وحدة الاتصال والبث» في المخابرات، التي كان يقودها «الكولونيل فوزي»، وعيّن «توفيق» في مؤسسات الإعلام. وأحال البعض على التقاعد الإجباري. ثم جرَد المخابرات من الإشراف على الأمن العسكري والرئاسي ومن التنصّت على مكالمات الوزراء والمسؤولين الكبار، وحلَ «مجموعة التدخل الخاصة» الأمنية، التي كانت القوة الضاربة للمخابرات أيام الصراع مع الإرهاب.
كل هذه الهياكل تم إلحاقها بقيادة الأركان، وبذلك أضحى قايد صالح «هيلمانًا» في الجيش. أما «الجهاز» فاحتفظ فقط بالأمن الداخلي والأمن الخارجي، أي بالحد الأدنى. ووصف الإعلام سلسلة الأحداث بـ«تفكيك جهاز المخابرات»، وعدَها بمثابة «عمل منظَم لإضعافه تحقيقا لغرض شخصي».
ويقول مراقبون تابعوا تلك التغييرات التي شهدتها البلاد، أن عملية «الضرب تحت الحزام» التي استهدفت «توفيق» بلغت المنعطف بمناسبة الهجوم غير المسبوق الذي وجهه رئيس حزب الأغلبية عمّار سعداني ضده. ففي مقابلة نارية مع صحيفة إلكترونية نشرت في فبراير (شباط) 2014، اتهمه بـ«إثارة القلاقل داخل الأحزاب» وبـ«العجز عن تجنيب الرئيس محاولة الاغتيال التي تعرض لها في 2007»، ودعاه إلى الاستقالة.
بقاء سعداني على رأس حزب الأغلبية، بعد هذا «الاعتداء» كان مؤشرًا قويًا على ضعف «توفيق». ويرى المراقبون أنفسهم أن أقوى ضربة تلقاها وبها وقّع الرئيس بوتفليقة «شهادة وفاته» كرئيس للمخابرات، كانت سجن رئيس قسم محاربة الإرهاب في المخابرات الجنرال حسّان يوم 27 أغسطس (آب) الماضي. فالرجل كان واحدًا من أبرز مساعديه، وتم الزج به في السجن ومنع محاميه من مقابلته. أما التهم الموجهة له فتبقى غامضة.

* توقّع عزل «توفيق»
تنبأ قطاع من المحللين على أثر هذه الأحداث، بأن تكون «الخطوة المقبلة تاريخية» عزل «توفيق»، وهو ما حصل فعلاً في 13 سبتمبر (أيلول) 2015. واستخلف بالرجل الثاني في المخابرات، مدير الأمن الداخلي سابقا اللواء عثمان طرطاق، المدعو «بشير» الذي عيَنه «توفيق» مساعدا له، غير أن بوتفليقة نحاه من المنصب عام 2014 وأحاله على التقاعد. لكنه عاد فجلبه إلى الرئاسة كمستشار أمني وكان يحضَره لخلافة «توفيق». وما يلفت الانتباه في هذا، أن «بشير» عاد إلى الخدمة بعد التقاعد، بينما أخرج «توفيق» إلى التقاعد بوضع حد لخدمته في الجيش.
الواقع انه لا يُعرف الشيء الكثير عن طرطاق، ما عدا كونه «شخصًا صلبًا مثل الصخر» لصلابته في مواجهة الجماعات المتطرفة أيام كان الإرهاب على وشك تحطيم الدولة. أما النتيجة التي توصل إليها المهتمون بهذه التطورات، فهي أن بوتفليقة تخلّص من شخص ضايقه كثيرًا، خاصة عندما تجرأ على التحقيق بشأن أخيه، وقدَر بأن الرئيس لا يصلح لولاية رابعة بسبب المرض.
غير أن أكثر ما يحير المراقبين حاليًا، هو كيف لرئيس ضعيف بدنيًا لم يخاطب الجزائريين منذ قرابة ثلاث سنوات ونصف بسبب المرض، أن يقدم على هذه المعركة ويخرج منها منتصرًا؟
الجواب عند البعض، أن بوتفليقة عزّز موقعه في الحكم بفضل «شراء ولاء» رئيس أركان الجيش (82 سنة) وكبار القادة العسكريين ممّن أبقاهم في مناصب المسؤولية، بينما يفترض أنهم تقاعدوا منذ سنين طويلة. ولم يتوقف «دهاء» بوتفليقة عند هذا الحد، بل إنه كسب ولاء قويًا وسط أكبر رجال الأعمال الذين دفعوا أموالاً طائلة في حملاته الانتخابية الأربع. وعلى رأس هؤلاء علي حداد، رئيس «منتدى رجال الأعمال»، وهو تكتل رساميل يضم نحو 20 رجل الأعمال قيمته تفوق 5 مليارات دولار أميركي.
هؤلاء يشكلون اليوم القوة المالية التي ترتكز عليها «جماعة الرئيس»، بينما تمثل رئاسة الأركان القوة المادّية، وهما، مجتمعَين، وظفهما بوتفليقة لتوجيه الضربة القاضية التي قهرت «توفيق».

* «مرحلة ما بعد بوتفليقة بدأت»
وقد عرض الدكتور حسني عبيدي، الباحث الجزائري ومدير «مركز الدراسات والأبحاث حول العالم العربي والمتوسط بجنيف»، رأيه في صحيفة محلية بخصوص مآلات الأحداث الأخيرة، فقال: «أعتقد أنه يجب عدم المبالغة في حجم إقالة الجنرال توفيق، لأننا حينها سنقع في مأزق الانتصارات الوهمية. لم يكن توفيق يشكّل كشخص تهديدًا لبوتفليقة، لكن استمرار الانسداد السياسي في الجزائر وغياب الرئيس (بداعي المرض) ومعه أي رؤية حقيقية لتسيير الدولة، مع تغول أصحاب النفوذ وضبابية عملية صناعة القرار في محيط الرئيس، إضافة إلى تغييرات حدثت في المؤسسة العسكرية والأمنية، (عوامل) تشكل سيناريو مخيفًا بالنسبة لمحيط الرئيس. لقد كان وضعًا يشجّع على تغيير مفاجئ في هرم السلطة أو انقلاب أبيض، خاصة أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي في الجزائر منذ انهيار أسعار النفط متّجه نحو مرحلة حرجة».
وبرأي عبيدي فقد «بدأ التحضير لما بعد بوتفليقة، وهذه المرة دون توفيق ولكن بضمانات قوية بعدم التعرّض له ولمحيطه بأي سوء. توفيق رحل عن المشهد السياسي في صمت مثلما بدأ مشواره، لكن من المؤكد أنه لن يكون آخر من يرحل». وتابع الباحث المقيم في سويسرا: «كان بالإمكان أن تمرّ هذه الإقالة دون أن تحدث ضجيجًا. لكن كونها تحصل في نظام سياسي مغلق وتستهدف أحد المكوّنات الأساسية لهذا النظام، يجعل منها منعطفًا سياسيًا بامتياز. ولأن النظام السياسي في الجزائر، منذ الاستقلال بُني على المقاربة الأمنية، فإن خروج المسؤول الأول (حارس الكهف) عن المنظومة الأمنية يكتسي أهمية بالغة. بمعنى أن الجنرال توفيق، بحكم الفترة الزمنية التي قضاها على رأس الأجهزة، ترك بصماته على كل شيء: العقيدة الأمنية واختيار الرجال وطبيعة الولاء وطريقة إدارة شؤون البلاد. ولكن تمثل إزاحة توفيق تحديًا إضافيًا للرئيس ومحيطه. فالقطب الرئاسي ممثلاً في بوتفليقة، لن يتحجّج بعد اليوم بتعدّد مراكز القرار السياسي والاقتصادي. إنه مطالب بمشروع للمجتمع يمهّد لدولة يحميها دستور جامع، يضمن الاستقرار الأمني والتوزيع العادل للثروات والمشاركة السياسية. أما التحدّي الثاني فيكمن في قدرة الرئيس على إعطاء نفَس جديد للجهاز الأمني، ليكون مؤسسة تحفظ أمن الدولة وليس أمن النظام ورموزه».
«مرحلة ما بعد بوتفليقة»، حديث يجري تداوله حاليًا في الأوساط السياسية والإعلامية. ولكن هل يعقل أن يرحل الرئيس عن الحكم، بعدما خاط على مقاسه كل شيء: السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والبرلمان والجيش برئاسة الأركان والمخابرات، وعالم المال والأعمال؟
في هذا الإطار، تقفز فرضيتان تبدوان الأقرب إلى المنطق: فإما أن يقرر الرئيس الاستمرار في الحكم متحدّيًا المرض والشكوك حول قدرته على تسيير دفة الحكم. وإما أن يختار مَن يخلفه ثم يعلن انتخابات مبكَرة. وفي هذا الإطار يرشح الملاحظون ثلاثة أشخاص: رئيس الوزراء عبد المالك سلاّل، ووزير الدولة مدير الديوان بالرئاسة أحمد أويحيى، و.. السعيد بوتفليقة.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».