شريف إسماعيل على {الكرسي الساخن}

المصريون يتساءلون: هل ينجح حامل «الحقيبة القابلة للاشتعال» في إنقاذ الحكومة؟

شريف إسماعيل على {الكرسي الساخن}
TT

شريف إسماعيل على {الكرسي الساخن}

شريف إسماعيل على {الكرسي الساخن}

فوجئ البعض بإسناد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رئاسة الحكومة إلى المهندس شريف إسماعيل، وزير البترول في حكومة إبراهيم محلب المستقيلة. غير أن راصدي الأوضاع في مصر، والعارفين بالمنجزات التي حقّقها إسماعيل إبان توليه منصبه الوزاري يرون أنه الرجل الإداري والتكنوقراطي المؤهل للاضطلاع بمسؤوليات هذا المنصب الحساس، كونه رجل أفعال أكثر منه رجل أقوال. ولقد اكتشف الرئيس السيسي فيه هذه المزايا منذ كانا معًا وزيرين في حكومة الدكتور حازم الببلاوي بين 9 يوليو (تموز) 2013 و24 فبراير (شباط) 2014.
«كثيرون لا يعلمون من هو شريف إسماعيل.. لكنه رجل دؤوب وقليل الكلام، يركز جدًا في عمله، وحلوله سريعة ولا ينتظر إلى أن تتفاقم المشكلات داخل الدولة».. هكذا لخص الدكتور عبد الله المغازي، معاون رئيس الوزراء المصري السابق إبراهيم محلب، في جملة واحدة معضلة مصر كلها في اختيار رئيس الحكومة الجديد؛ سواءً من حيث الدهشة التي قابل بها الشارع طرح اسم إسماعيل، أو ما بدا من إصرار إدارة الدولة على اختياره للمنصب التنفيذي الأول في مصر.
جملة المغازي جاءت في إطار تعليقه على اختيار المهندس شريف إسماعيل ليخلف محلب رئيسا جديدا للحكومة الأسبوع الماضي. ورغم أن إسماعيل أحد أقدم أعضاء الحكومات الثلاث التي جاءت بعد ثورة 30 يونيو (حزيران)، محافظًا على منصبه الوزاري في ظل وزارة الدكتور حازم الببلاوي، ثم وزارتي المهندس محلب، فإنه يظل في رأي عامة الشعب «الرجل الغامض»، نظرا لندرة ظهوره الإعلامي أو إدلائه بتصريحات، أو حتى وجود سيرة ذاتية موسعة عنه.

* الحقيبة الوزارية «القابلة للاشتعال»
في الوقت ذاته، يسجل لإسماعيل أنه حافظ على حقيبته البترولية «القابلة للاشتعال»، بحسب خبراء اقتصاد ومراقبين سياسيين، ببراعة فائقة ومن دون خسائر.. وذلك في ظل ما عانته مصر منذ ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 من أزمات خانقة في الوقود، ونجاحه في عقد اتفاقيات عدة لضخ مزيد من الوقود إلى السوق، إضافة إلى خطة محكمة لتوزيع ما أسهمت به حكومات الخليج العربي من مساعدات بترولية، جعلت من الأزمة السابقة شيئا من الماضي. كذلك ظهر أيضا نجاح إسماعيل في الإسهام بقوة في حل أزمة «انقطاع الكهرباء» التي شهدتها الدولة في العام قبل الماضي، عن طريق توفير المواد البترولية اللازمة لتشغيل محطات توليد الطاقة بصورة منتظمة، مما أدى إلى انتهاء الأزمة تمامًا على مدار العام الماضي.
كل ذلك فعله إسماعيل في الظل من دون «ضجيج»، وربما لم يظهر إعلاميا سوى من خلال إطلالة أو اثنتين خلال العامين الماضيين، حتى إنه نادرًا ما يرد على هاتفه الشخصي؛ لأنه «رجل لا يحب الأضواء، ولا يسعى لها»، بحسب مقربين منه. لكن نجم إسماعيل سطع بقوة خلال الشهر الماضي مع إعلان شركة «إيني» الإيطالية عن الكشف الأكبر من نوعه للغاز الطبيعي، ليس في مصر وحدها ولكن في إقليم البحر المتوسط قاطبة، الذي توقع خبراء الاقتصاد أن من شأنه أن يغير وجه مصر خلال الأعوام المقبلة.

* نجاحات بلا ضجيج
مصدر حكومي قال لـ«الشرق الأوسط» أمس: «لم ينجح شريف إسماعيل فقط في الإسهام بشكل كبير في إنقاذ الدولة من أزمتي الوقود والكهرباء، والكشف العملاق، بل نجح على المستوى الاستراتيجي في ما هو أبعد من ذلك، أي بإسهامه في توفير الثقة في رسوخ الدولة لدى المستثمر الأجنبي.. فأي مستثمر يفكر في العمل في مصر سينظر إلى كل هذه الأشياء جيدا، وتشجعه بقوة على القدوم لأن غيابها يعني غياب أي مناخ جاذب».
وتابع المصدر الحكومي: «لكل هذه الأسباب وقع اختيار الرئيس على إسماعيل لتشكيل الحكومة.. فهو رجل منضبط ومحنك في عمله، يؤدي دوره بصمت، ولديه رؤية واضحة»، ثم أردف: «لا ننسى أن الرئيس السيسي كان عضوًا في حكومة الدكتور الببلاوي وزيرا للدفاع ونائبا أول لرئيس الوزراء.. أي إنه يعرف تمامًا مؤهلات المهندس شريف إسماعيل وزامله طويلاً، مما يتيح له أن يحكم عليه بوصفه شخصية ناجحة وذات كفاءة عالية بصورة كبيرة».

* الدراسة والمناصب
وعن مسيرته الوظيفية، فقد تخرج إسماعيل في كلية الهندسة بجامعة عين شمس عام 1978، ليعمل بعدها في مجال البحث والاستكشاف البترولي. وتدرّج في عدة مناصب أهمها مدير عام الشؤون الفنية بشركة «إنبي»، إحدى أهم الشركات في مجال الطاقة بمصر. ثم عمل وكيلاً لوزارة البترول لشؤون عمليات البترول والغاز بين عامي 2000 و2005، قبل أن يتولى رئاسة مجلس إدارة الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيغاس) لمدة قاربت العامين، ثم رئاسة مجلس إدارة شركة جنوب الوادي القابضة للبترول حتى عام 2013. وبعدها عين وزيرًا للبترول في منصف شهر يوليو 2013، واستمر في موقعه حتى اختياره رئيسا للوزراء في منتصف شهر سبتمبر (أيلول) الحالي.
يأتي قبول إسماعيل المهمة التي وصفها سياسيون مصريون بـ«الشاقة»، في وقت ربما كان كثيرون يفضلون التنصل منها والبعد عنها، لأنها حكومة حُكم عليها أن تكون «مؤقتة» بحكم الدستور الذي ينصّ على حق كتلة الأغلبية البرلمانية في تشكيل الحكومة فور عقد جلسات البرلمان المقبل، التي من المتوقع أن تبدأ مطلع العام المقبل.
إلا أن إسماعيل قبل المهمة، رغم ذلك، من دون النظر إلى «محدوديتها الزمنية». ويؤكد المقربون منه لـ«الشرق الأوسط» أنه «رجل وطني ولا يمكن أن يتخلّى عن تكليف، بل غالبا قد ينجح في حيازة ثقة البرلمان المقبل للاستمرار في موقعه حال نجاحه في مهمته».
أيضًا قبل إسماعيل ترؤس الوزارة في وقت حرج؛ إذ إن مصر مقبلة على الانتهاء من خارطة الطريق في خطوتها الأخيرة المتمثلة في الانتخابات البرلمانية، وهي الانتخابات التي كثيرًا ما شهدت مصر خلالها في العقود الماضية صراعات واشتباكات بين المرشحين وداعميهم، خاصة في المناطق القبلية؛ إلى جانب اتهامات الخاسرين للدولة بالتلاعب في النتائج. ويضاف إلى ذلك، بالطبع، مسؤولية الحكومة المصرية عن تحقيق خطط النمو الاقتصادي الذي تعثر طويلاً، وعملها في مجال مكافحة العنف والإرهاب الذي تتبناه جماعات عدة على رأسها الإخوان عقب الإطاحة بهم من حكم مصر.

* تحدي الأداء الخدماتي
ويرى المراقبون أن مشكلة حكومة رئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب كان يكمن أغلبها في ضعف أداء الوزارات الخدمية، مثل الصحة والتعليم والتعليم العالي والنقل والاتصالات والثقافة، التي واجهت انتقادات حادة ومستمرة خلال أكثر من عام، ولذلك كانت هذه الحقائب ضمن أبرز التغييرات التي شهدتها الحكومة الجديدة. ويشير هؤلاء إلى أن نجاح إسماعيل في حلحلة ملفات هذه الوزارات وتحقيق نجاحات ملموسة للشارع المصري فيها، سيسفر حتما عن إنجاز جديد يضاف إلى رصيد رئيس الوزراء الجديد.
الاختيارات الوزارية لإسماعيل قد تكون شهدت بدورها بعض الجدل المبكر، وربما قبل أن يدخل الوزراء إلى مكاتبهم لمباشرة أعمالهم. ومن انتقادات جادة لأخطاء وزير التعليم اللغوية، وأخرى مثيرة للسخرية حول فستان قصير الأكمام لإحدى الوزيرات الجديدات، طال النقد اختيار وزيرين سابقين هما أحمد زكي بدر للتنمية المحلية (آخر وزراء التعليم في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك) وهشام زعزوع للسياحة (تولّى الحقيبة في حكومة هشام قنديل إبان حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي المنتمي إلى جماعة الإخوان).. لكن بعض المراقبين رأوا في ذلك «دلالة سياسية إيجابية للغاية، حتى وإن كانت غير مقصودة بصورة مباشرة.. مفادها أن الدولة المصرية لا تنظر إلى الوزراء السابقين على أنهم متورّطون في نظم فتحكم عليهم بالإعدام السياسي مدى الحياة، بقدر ما تنظر إلى الكفاءة والأداء والسيرة الوظيفية ما لم يكونوا متورطين جنائيًا أو إداريا في فساد.
وجاءت التكليفات الأولى من الرئيس السيسي لإسماعيل متماشية مع رؤية الخبراء لمتطلبات وأولويات المرحلة المقبلة. فقد أكد الرئيس، بحسب بيان رسمي عقب الاجتماع الأول مع رئيس الحكومة، أن «الدولة تولي أهمية كبيرة لضبط الأسعار، والوفاء باحتياجات المواطن المصري، لا سيما الفئات الأولى بالرعاية»، مشددًا على أهمية «توافر الأدوية والوقود، والسلع الغذائية ومستلزمات عيد الأضحى بأسعار مناسبة للمواطنين». كذلك اهتم الرئيس السيسي بالإشارة إلى أهمية الخروج عن الأنماط التقليدية في العمل والإدارة والبحث عن الأفكار الخلاقة والمبتكرة، التي تسهم في زيادة حصيلة إيرادات الدولة، حتى تتمكن من الوفاء باحتياجات المواطنين على الوجه الأكمل، من دون المساس بمحدودي الدخل والفئات الأكثر احتياجًا، الذين يتعين توفير الرعاية الكاملة لهم والارتقاء بأوضاعهم.

* محوران لعمل الحكومة
أما إسماعيل فأوضح من جانبه، في أحد تصريحاته القليلة عقب اجتماعه الأول مع وزرائه، أن الحكومة سوف تعمل على محورين: الأول قصير الأجل لإيجاد حلول عاجلة للمشكلات القائمة، والثاني محور طويل الأجل لتنفيذ المشاريع القومية التي يجري تنفيذها، والعمل على استقرار أركان الدولة. وأشار إلى أن هناك برنامجًا للحكومة سيصار إلى تجهيزه لعرضه على مجلس النواب المقبل، كما شدد على أنه «لا مكان للفساد، حيث نقف بشدة أمام هذه الظاهرة، وسنعمل بحزم على حل المشكلات القائمة».
وعلى المستوى التنفيذي، طالب إسماعيل وزير الاستثمار بإعداد تقرير شامل عن جميع مذكرات التفاهم التي تواجه معوّقات في تحويلها إلى اتفاقيات وعقود نهائية، والإجراءات المطلوبة للتغلب على هذه المعوّقات، إلى جانب سرعة تنفيذ المشاريع المقترحة، وهو أيضا ما يؤكد ما ذهب إليه المراقبون من أن رئيس الوزراء الجديد «رجل عملي لأقصى درجة».
وبحسب تأكيد سياسي مصري محنّك لـ«الشرق الأوسط» - طلب عدم ذكر اسمه لأسباب خاصة - فإن «خطوات وتصريحات رئيس الوزراء الجديد الأولى، على الرغم من قلّتها، فإنها أدت إلى تحوّله من الرجل الغامض في عين الشارع المصري، إلى رجل يحمل بارقة أمل كبيرة في تحسين أوضاع المصريين بشكل عام.. قد تكون المهمة شاقة والنافذة الزمنية ضيقة؛ لكن شريف إسماعيل رجل بقدر التحدي».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.