شريف إسماعيل على {الكرسي الساخن}

المصريون يتساءلون: هل ينجح حامل «الحقيبة القابلة للاشتعال» في إنقاذ الحكومة؟

شريف إسماعيل على {الكرسي الساخن}
TT

شريف إسماعيل على {الكرسي الساخن}

شريف إسماعيل على {الكرسي الساخن}

فوجئ البعض بإسناد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رئاسة الحكومة إلى المهندس شريف إسماعيل، وزير البترول في حكومة إبراهيم محلب المستقيلة. غير أن راصدي الأوضاع في مصر، والعارفين بالمنجزات التي حقّقها إسماعيل إبان توليه منصبه الوزاري يرون أنه الرجل الإداري والتكنوقراطي المؤهل للاضطلاع بمسؤوليات هذا المنصب الحساس، كونه رجل أفعال أكثر منه رجل أقوال. ولقد اكتشف الرئيس السيسي فيه هذه المزايا منذ كانا معًا وزيرين في حكومة الدكتور حازم الببلاوي بين 9 يوليو (تموز) 2013 و24 فبراير (شباط) 2014.
«كثيرون لا يعلمون من هو شريف إسماعيل.. لكنه رجل دؤوب وقليل الكلام، يركز جدًا في عمله، وحلوله سريعة ولا ينتظر إلى أن تتفاقم المشكلات داخل الدولة».. هكذا لخص الدكتور عبد الله المغازي، معاون رئيس الوزراء المصري السابق إبراهيم محلب، في جملة واحدة معضلة مصر كلها في اختيار رئيس الحكومة الجديد؛ سواءً من حيث الدهشة التي قابل بها الشارع طرح اسم إسماعيل، أو ما بدا من إصرار إدارة الدولة على اختياره للمنصب التنفيذي الأول في مصر.
جملة المغازي جاءت في إطار تعليقه على اختيار المهندس شريف إسماعيل ليخلف محلب رئيسا جديدا للحكومة الأسبوع الماضي. ورغم أن إسماعيل أحد أقدم أعضاء الحكومات الثلاث التي جاءت بعد ثورة 30 يونيو (حزيران)، محافظًا على منصبه الوزاري في ظل وزارة الدكتور حازم الببلاوي، ثم وزارتي المهندس محلب، فإنه يظل في رأي عامة الشعب «الرجل الغامض»، نظرا لندرة ظهوره الإعلامي أو إدلائه بتصريحات، أو حتى وجود سيرة ذاتية موسعة عنه.

* الحقيبة الوزارية «القابلة للاشتعال»
في الوقت ذاته، يسجل لإسماعيل أنه حافظ على حقيبته البترولية «القابلة للاشتعال»، بحسب خبراء اقتصاد ومراقبين سياسيين، ببراعة فائقة ومن دون خسائر.. وذلك في ظل ما عانته مصر منذ ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 من أزمات خانقة في الوقود، ونجاحه في عقد اتفاقيات عدة لضخ مزيد من الوقود إلى السوق، إضافة إلى خطة محكمة لتوزيع ما أسهمت به حكومات الخليج العربي من مساعدات بترولية، جعلت من الأزمة السابقة شيئا من الماضي. كذلك ظهر أيضا نجاح إسماعيل في الإسهام بقوة في حل أزمة «انقطاع الكهرباء» التي شهدتها الدولة في العام قبل الماضي، عن طريق توفير المواد البترولية اللازمة لتشغيل محطات توليد الطاقة بصورة منتظمة، مما أدى إلى انتهاء الأزمة تمامًا على مدار العام الماضي.
كل ذلك فعله إسماعيل في الظل من دون «ضجيج»، وربما لم يظهر إعلاميا سوى من خلال إطلالة أو اثنتين خلال العامين الماضيين، حتى إنه نادرًا ما يرد على هاتفه الشخصي؛ لأنه «رجل لا يحب الأضواء، ولا يسعى لها»، بحسب مقربين منه. لكن نجم إسماعيل سطع بقوة خلال الشهر الماضي مع إعلان شركة «إيني» الإيطالية عن الكشف الأكبر من نوعه للغاز الطبيعي، ليس في مصر وحدها ولكن في إقليم البحر المتوسط قاطبة، الذي توقع خبراء الاقتصاد أن من شأنه أن يغير وجه مصر خلال الأعوام المقبلة.

* نجاحات بلا ضجيج
مصدر حكومي قال لـ«الشرق الأوسط» أمس: «لم ينجح شريف إسماعيل فقط في الإسهام بشكل كبير في إنقاذ الدولة من أزمتي الوقود والكهرباء، والكشف العملاق، بل نجح على المستوى الاستراتيجي في ما هو أبعد من ذلك، أي بإسهامه في توفير الثقة في رسوخ الدولة لدى المستثمر الأجنبي.. فأي مستثمر يفكر في العمل في مصر سينظر إلى كل هذه الأشياء جيدا، وتشجعه بقوة على القدوم لأن غيابها يعني غياب أي مناخ جاذب».
وتابع المصدر الحكومي: «لكل هذه الأسباب وقع اختيار الرئيس على إسماعيل لتشكيل الحكومة.. فهو رجل منضبط ومحنك في عمله، يؤدي دوره بصمت، ولديه رؤية واضحة»، ثم أردف: «لا ننسى أن الرئيس السيسي كان عضوًا في حكومة الدكتور الببلاوي وزيرا للدفاع ونائبا أول لرئيس الوزراء.. أي إنه يعرف تمامًا مؤهلات المهندس شريف إسماعيل وزامله طويلاً، مما يتيح له أن يحكم عليه بوصفه شخصية ناجحة وذات كفاءة عالية بصورة كبيرة».

* الدراسة والمناصب
وعن مسيرته الوظيفية، فقد تخرج إسماعيل في كلية الهندسة بجامعة عين شمس عام 1978، ليعمل بعدها في مجال البحث والاستكشاف البترولي. وتدرّج في عدة مناصب أهمها مدير عام الشؤون الفنية بشركة «إنبي»، إحدى أهم الشركات في مجال الطاقة بمصر. ثم عمل وكيلاً لوزارة البترول لشؤون عمليات البترول والغاز بين عامي 2000 و2005، قبل أن يتولى رئاسة مجلس إدارة الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيغاس) لمدة قاربت العامين، ثم رئاسة مجلس إدارة شركة جنوب الوادي القابضة للبترول حتى عام 2013. وبعدها عين وزيرًا للبترول في منصف شهر يوليو 2013، واستمر في موقعه حتى اختياره رئيسا للوزراء في منتصف شهر سبتمبر (أيلول) الحالي.
يأتي قبول إسماعيل المهمة التي وصفها سياسيون مصريون بـ«الشاقة»، في وقت ربما كان كثيرون يفضلون التنصل منها والبعد عنها، لأنها حكومة حُكم عليها أن تكون «مؤقتة» بحكم الدستور الذي ينصّ على حق كتلة الأغلبية البرلمانية في تشكيل الحكومة فور عقد جلسات البرلمان المقبل، التي من المتوقع أن تبدأ مطلع العام المقبل.
إلا أن إسماعيل قبل المهمة، رغم ذلك، من دون النظر إلى «محدوديتها الزمنية». ويؤكد المقربون منه لـ«الشرق الأوسط» أنه «رجل وطني ولا يمكن أن يتخلّى عن تكليف، بل غالبا قد ينجح في حيازة ثقة البرلمان المقبل للاستمرار في موقعه حال نجاحه في مهمته».
أيضًا قبل إسماعيل ترؤس الوزارة في وقت حرج؛ إذ إن مصر مقبلة على الانتهاء من خارطة الطريق في خطوتها الأخيرة المتمثلة في الانتخابات البرلمانية، وهي الانتخابات التي كثيرًا ما شهدت مصر خلالها في العقود الماضية صراعات واشتباكات بين المرشحين وداعميهم، خاصة في المناطق القبلية؛ إلى جانب اتهامات الخاسرين للدولة بالتلاعب في النتائج. ويضاف إلى ذلك، بالطبع، مسؤولية الحكومة المصرية عن تحقيق خطط النمو الاقتصادي الذي تعثر طويلاً، وعملها في مجال مكافحة العنف والإرهاب الذي تتبناه جماعات عدة على رأسها الإخوان عقب الإطاحة بهم من حكم مصر.

* تحدي الأداء الخدماتي
ويرى المراقبون أن مشكلة حكومة رئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب كان يكمن أغلبها في ضعف أداء الوزارات الخدمية، مثل الصحة والتعليم والتعليم العالي والنقل والاتصالات والثقافة، التي واجهت انتقادات حادة ومستمرة خلال أكثر من عام، ولذلك كانت هذه الحقائب ضمن أبرز التغييرات التي شهدتها الحكومة الجديدة. ويشير هؤلاء إلى أن نجاح إسماعيل في حلحلة ملفات هذه الوزارات وتحقيق نجاحات ملموسة للشارع المصري فيها، سيسفر حتما عن إنجاز جديد يضاف إلى رصيد رئيس الوزراء الجديد.
الاختيارات الوزارية لإسماعيل قد تكون شهدت بدورها بعض الجدل المبكر، وربما قبل أن يدخل الوزراء إلى مكاتبهم لمباشرة أعمالهم. ومن انتقادات جادة لأخطاء وزير التعليم اللغوية، وأخرى مثيرة للسخرية حول فستان قصير الأكمام لإحدى الوزيرات الجديدات، طال النقد اختيار وزيرين سابقين هما أحمد زكي بدر للتنمية المحلية (آخر وزراء التعليم في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك) وهشام زعزوع للسياحة (تولّى الحقيبة في حكومة هشام قنديل إبان حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي المنتمي إلى جماعة الإخوان).. لكن بعض المراقبين رأوا في ذلك «دلالة سياسية إيجابية للغاية، حتى وإن كانت غير مقصودة بصورة مباشرة.. مفادها أن الدولة المصرية لا تنظر إلى الوزراء السابقين على أنهم متورّطون في نظم فتحكم عليهم بالإعدام السياسي مدى الحياة، بقدر ما تنظر إلى الكفاءة والأداء والسيرة الوظيفية ما لم يكونوا متورطين جنائيًا أو إداريا في فساد.
وجاءت التكليفات الأولى من الرئيس السيسي لإسماعيل متماشية مع رؤية الخبراء لمتطلبات وأولويات المرحلة المقبلة. فقد أكد الرئيس، بحسب بيان رسمي عقب الاجتماع الأول مع رئيس الحكومة، أن «الدولة تولي أهمية كبيرة لضبط الأسعار، والوفاء باحتياجات المواطن المصري، لا سيما الفئات الأولى بالرعاية»، مشددًا على أهمية «توافر الأدوية والوقود، والسلع الغذائية ومستلزمات عيد الأضحى بأسعار مناسبة للمواطنين». كذلك اهتم الرئيس السيسي بالإشارة إلى أهمية الخروج عن الأنماط التقليدية في العمل والإدارة والبحث عن الأفكار الخلاقة والمبتكرة، التي تسهم في زيادة حصيلة إيرادات الدولة، حتى تتمكن من الوفاء باحتياجات المواطنين على الوجه الأكمل، من دون المساس بمحدودي الدخل والفئات الأكثر احتياجًا، الذين يتعين توفير الرعاية الكاملة لهم والارتقاء بأوضاعهم.

* محوران لعمل الحكومة
أما إسماعيل فأوضح من جانبه، في أحد تصريحاته القليلة عقب اجتماعه الأول مع وزرائه، أن الحكومة سوف تعمل على محورين: الأول قصير الأجل لإيجاد حلول عاجلة للمشكلات القائمة، والثاني محور طويل الأجل لتنفيذ المشاريع القومية التي يجري تنفيذها، والعمل على استقرار أركان الدولة. وأشار إلى أن هناك برنامجًا للحكومة سيصار إلى تجهيزه لعرضه على مجلس النواب المقبل، كما شدد على أنه «لا مكان للفساد، حيث نقف بشدة أمام هذه الظاهرة، وسنعمل بحزم على حل المشكلات القائمة».
وعلى المستوى التنفيذي، طالب إسماعيل وزير الاستثمار بإعداد تقرير شامل عن جميع مذكرات التفاهم التي تواجه معوّقات في تحويلها إلى اتفاقيات وعقود نهائية، والإجراءات المطلوبة للتغلب على هذه المعوّقات، إلى جانب سرعة تنفيذ المشاريع المقترحة، وهو أيضا ما يؤكد ما ذهب إليه المراقبون من أن رئيس الوزراء الجديد «رجل عملي لأقصى درجة».
وبحسب تأكيد سياسي مصري محنّك لـ«الشرق الأوسط» - طلب عدم ذكر اسمه لأسباب خاصة - فإن «خطوات وتصريحات رئيس الوزراء الجديد الأولى، على الرغم من قلّتها، فإنها أدت إلى تحوّله من الرجل الغامض في عين الشارع المصري، إلى رجل يحمل بارقة أمل كبيرة في تحسين أوضاع المصريين بشكل عام.. قد تكون المهمة شاقة والنافذة الزمنية ضيقة؛ لكن شريف إسماعيل رجل بقدر التحدي».



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.