ما الذي يجمع بين الخميني والماركيز دو ساد؟

أبنوس شلماني تروي بالفارسية قصة هروب عائلتها من إيران

ما الذي يجمع بين الخميني والماركيز دو ساد؟
TT

ما الذي يجمع بين الخميني والماركيز دو ساد؟

ما الذي يجمع بين الخميني والماركيز دو ساد؟

حسب اعتقاد أبنوس شلماني، الكاتبة الفرنسية من أصل إيراني، أن يكون الإنسان امرأة، لهي معركة شاقة حتى في الديمقراطيات الغربية التي تتباهى بالمساواة بين النوعين وحقوق الإنسان. ويزداد الأمر صعوبة في إيران المعاصرة؛ حيث يرفض النظام الطائفي مفهوم الحرية الفردية حتى للرجال، ناهيك طبعا بالنساء.
واجهت شلماني، المولودة في طهران عام 1977، قبل عامين من استيلاء الملالي على السلطة، «طبيعة خطرة» على وجودها عندما ذهبت إلى المدرسة لأول مرة وهي في سن السابعة، واكتشفت أن طقوس العبور مرعبة. فجأة، اضطرت شلماني إلى ارتداء ملابس خاصة، وتغطية رأسها، وطمس الابتسامة على وجهها. تلقت نصيحة بأن تبدو قاتمة وقبيحة قدر الإمكان. وبالنظر إلى المرآة، شعرت حينئذ بأنها تبدو مثل الغراب. وهي في طريقها إلى المدرسة، بدأت شلماني في ملاحظة أن هناك عددا لا يحصى من الغربان؛ عبارة عن نساء يرتدين اللباس الذي فرضه روح الله الخميني - آية الله الثمانيني كالح الوجه، الذي روج نفسه على أنه السلطة الوحيدة للحق والباطل. لذلك، وفي يوم ما، بعد أن عانت وبكت سرا لأسابيع داخل وخارج المدرسة، فقدت الطفلة أبنوس ذات السبعة أعوام أعصابها، وقررت إلقاء ملابسها الخمينية بعيدا، والجري حول فناء المدرسة عارية.
لك أن تتخيل حجم الفضيحة والمخاطر التي تسبب فيها هذا التصرف لوالديها. وبينما حاولت والدتها إقناعها، وحثتها على اتباع نمط علماني من «التقية»، قرر والد أبنوس أن السبيل الوحيد لإنقاذ ابنته مغادرة العائلة كاملة إيران. وانتهى المآل بعائلة شلماني بالوصول إلى العاصمة الفرنسية باريس في عام 1985، في وقت عد فيه معظم الغرب النظام الخميني خلاصة الشر.
حاولت والدة أبنوس حماية عائلتها من خلال الادعاء أمام جيرانها الفرنسيين بأنهم أرمن، فيما أصر والد أبنوس على كشف هويتهم الإيرانية مع حجة أن سبب قدومهم لباريس هو نبذ الخميني وزمرته الهوية الإيرانية لصالح الهوية الإسلامية الثورية المفتعلة. يعد كتاب شلماني الجديد «الخميني والماركيز دو ساد وأنا» خليطا من السيرة الذاتية، والواقعية، والتأملات الفلسفية، والحكايات الروائية، مقترنة بالعاطفة والفكاهة. وكانت شلماني بعد وصولها لباريس قد قررت تكريس حياتها لمحاربة الخمينية.
وفي وقت من الأوقات، ربما من دون إدراك منها في البداية، بدأت في البحث عن هؤلاء الذين يمثلون النقيض تماما لنظرة الخميني للعالم؛ فإذا كان الخميني مهووسا بتحريم هذا وذاك، بحثت هي عن الشخص الذي أباح كل سلوك إنساني مفرط. وجدت شلماني منفذ الدخول إلى ما تبحث عنه في الأدب الأوروبي المثير للغرائز، خاصة الفرنسي. وأصبحت «لا ميرتول»، البطلة المتلاعبة في رواية «علاقات خطرة» نموذجا يحتذى، فيما عرضت رواية «نساء قاتلات»، للكاتب بيير لويس، لمحة عن عالم الحرية عبر التحدي. والطريف أن شلماني لا تعرف أن إيران نفسها لديها ثروة ضخمة من الأدب المثير للغرائز، بدءًا من «ألف ليلة وليلة» وصولا إلى رواية «شقراء مدينتنا»، للكاتب صدر الدين إلهي، التي صدرت في خمسينات القرن الماضي، والتي يتلاعب الجمال الشديد فيها مع أصحاب النفوذ في العالم كأنهم دمى مثيرة للشفقة. عمل الأدب الفرنسي المثير للغرائز بمثابة منحدر زلق، قاد شلماني إلى الماركيز دو ساد، وهو أرستقراطي من القرن التاسع عشر، وروائي توفي نتيجة الإصابة بمرض الزهري في مستشفى الأمراض العقلية.
تعشق شلماني دو ساد، لأنه ينهى عن التحريم؛ فبالنسبة له يجب قبول كل ما يفعله البشر، بما في ذلك أسوأ الانحرافات عن القواعد المعنوية والأخلاقية.
تعتقد شلماني أنه بسبب إباحته كل شيء، يعد ساد نقيض الخميني الذي يحرم كل شيء. وفي الواقع، يعد الخميني وساد وجهين لعملة واحدة؛ إذ يحب الخميني إزالة قيمة النساء عن طريق فرض ملابس يصعب التعرف عليهن من خلالها، فيما يحول ساد النساء إلى عارضات أزياء عرايا، وتمثل البطلتان غوستن وغوليت على وجه الخصوص نموذجين للنساء العالقات بين السادية والماسوشية. ومن دون قصد، تعرض شلماني التشابه المذهل بين ساد والخميني.
كلاهما يكتب كلاما عاطفيا لكنه أجوف في جوهره؛ فالخميني يخفي كثيرا، وساد يكشف أكثر مما هو ضروري للذوق الحسن. كلاهما مخلص لفكره، مجرد من السخرية، وهما يفتقران لروح الدعابة. ويمكن وصف أسلوبهما بالرشيق شديد الوطأة. وبينما يستخدم الخميني العنف، وحتى التعذيب، لفرض رؤيته عن الفضيلة، يستخدم ساد الأساليب نفسها في فرض رؤيته عن الرذيلة.
ولأسباب يصعب فهمها، تعتقد شلماني أن الأدب والسينما الأوروبية، خاصة الفرنسية، تعامل النساء بشكل أفضل من الأدب الإيراني والثقافة الإسلامية بشكل عام، لكن هذا ليس الحال دائما؛ فلا تحصل النساء على الإنصاف في الحالتين، إلا إذا كان الأدب يعكس التحيز المعادي للمرأة الثابت في بنية معظم الثقافات.
البطلة «مانون ليسكو» للروائي آب بريفوست، وعشيقات البطل «جاك القدري» للروائي دنيس ديدرو، والبطلتان «نانا» و«غرافيز» للروائي إميل زولا، جميعهن عانين صعوبات في حياتهن، ناهيك بما حدث للبطلة «تيريز ديكيرو» للروائي فرنسوا مورياك. واستطاعت البطلة «أمبر سانت كلير»، للروائية كاثلين وينسور، إثبات مكانتها في عالم يسيطر عليه الذكور، لكن فقط بعد معاناة تفوق الوصف. وتعد شخصية «فاني هيل»، للروائي جون كليلاند، عاهرة فطنة، لكنها أصبحت ضحية في النهاية. وكانت «لولا مونتيز» تمتلك رجالا راقصين تحت طوعها ما دامت شابة وجذابة. كما انتهى المآل بشخصية «ماتا هاري»، امرأة قوية أخرى لكنها مستقلة، إلى الإعدام رميا بالرصاص. في بعض أفلام هوليوود، نجد على سبيل المثال أن الممثلة جوان كروفورد في فيلم «ميلدريد بيرس» امرأة سيطرت على مصيرها ونجحت، إلى نقطة معينة، قبل أن تنهار وتدمر. كما نجد أن شخصية «باربرا ستانويك» في فيلم «تعويض مزدوج» امرأة قوية لكنها أيضا قاتلة.
وبالنظر إلى «المرأة المتحررة»، أعجبت شلماني بالغيشا اليابانية – محظيات القرون الوسطى، وحتى إنها أعجبت بالأنماط الغريبة مثل الروائيتين كوليت وفرجينيا وولف. تشعر شلماني بالغضب حيال الاعتقاد الخميني بأنه ينبغي للمرأة أن «تظل مغطاة، وتحت السيطرة، وحاملا» حتى لا تتسبب في أي أذى، لكنها أخفقت في رؤية صدى العقلية نفسها في القول الألماني المأثور: «للنساء: الأطفال والمطبخ والكنيسة».
وبدافع كراهيتها طريقة معاملة الخميني للمرأة، وصل الأمر بشلماني لتعد أن غريزة الأمومة من اختراع الرجال لتقييد حرية المرأة. وغني عن القول إنه من السهل ملاحظة الغريزة الأبوية والنتائج المترتبة عليها في معظم البشر.
يعد عشق شلماني لبعض أبرز الشخصيات في الثقافة الغربية، فولتير على سبيل المثال، سذاجة، على أقل تقدير. وللتأكيد، كان فولتير فيلسوفا كبيرا وكاتبا جيدا، لكنه كان يحمل في داخله ازدراء كاملا للنساء، وكراهية للمسلمين واليهود ومثليي الجنس، وكان أيضا على قائمة رواتب الإمبراطورة الروسية كاترين العظمى.
الفكرة أنه لا ينبغي للنفور من شخص مثل الخميني أن يجعل المرء ينسى أن الحياة الحقيقية ليست سوداء أو بيضاء، لكنها تمتزج بالبيئة الثقافية في وقت معين.
إن سماح الشخص بأن يتم التحكم في حياته من جانب قوة ما مثل كراهية الخميني أو هتلر أو ستالين أو صدام حسين أو أي وحش آخر، يمنحهم انتصارا لا يستحقونه. من الممكن أن يستمتع الإنسان بحياة جيدة من دون الخميني أو ساد أو الأدب المثير للغرائز أو أي أدب في الواقع. أشعر أيضا أن تجربة شلماني مع الخميني جعلتها تشعر بمرارة عميقة حيال إيران نفسها. (قالت إنها تكره حتى عصير الرمان لأنه يذكرها بإيران)! حسنا، هذا خيارها: الطير يختار شجرته، إنما الشجرة لا يمكنها أبدا اختيار طيرها. ومن دافع حرصها على إبعاد نفسها قدر الإمكان عن إيران، أشادت شلماني بالثورة الفرنسية، فيما أدانت الثورة الإيرانية. والحقيقة أن كل الثورات مدفوعة بفشل بشري أدى إلى مآس أكبر.
تكون رواية شلماني في أفضل حالاتها عندما تكتب عن بؤس المنفى مع مشكلاته الصغيرة وأكاذيبه الكبيرة، ومع آماله الباطلة وإحباطاته الحقيقية.
ترجمت «الخميني والماركيز دو ساد وأنا» إلى الإيطالية والهولندية والألمانية. وتستحق الرواية أن تترجم إلى لغات أخرى أيضا.



تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه

هيثم حسين
هيثم حسين

أحلم بسوريا جديدة تُعاد صياغتها على أسس المواطنة الحقيقيّة، حيث ينتمي الفرد إلى الوطن لا إلى طائفة أو عرق أو حزب... أتوق إلى وطنٍ لا يُجرّم فيه الحلم، ولا يُقمع فيه الاختلاف، وطنٍ يكفل لكلّ فرد حقّه في التعلم بلغته الأم، وفي التعبير عن هويّته وثقافته من دون خوف أو وصاية أو إنكار.

أحلم بسوريا تصان فيها الحريات العامّة، حيث يصبح احترام حرّية الرأي والتعبير قانوناً لا شعاراً أجوفَ، وحيث يُحمى المواطن لا أن يُساق إلى السجون أو المنافي لمجرّد مطالبته بحقوقه. سوريا التي أتمنّاها هي التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون، حيث لا تفضيلات ولا محسوبيات، لا فساد ينهش موارد البلاد ولا استبداد يدمّر مستقبلها.

أحلم ببلد يُدار بقوانين عادلة مستمدّة من حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، لا بقرارات فردية تُصادر الحياة برمّتها؛ حيث سيكون لكلّ فرد حقّه في التعلم والعمل والتعبير عن رأيه، وستُحترم لغات السوريّين وثقافاتهم كما تُحترم حياتهم. لن يُضطهد الكرديّ بسبب لغته، ولا أيّاً كان بسبب اختلافه أو رأيه أو معتقده، ولن يُنظر إلى الأقلّيات وكأنّها مُلاحقةٌ في وطنها، لن يكون هناك من فرق بين سوريّ وآخر. سوريا التي أنشدها ستُعيد الاعتبار إلى حقوق الجميع من دون تمييز، بحيث تُعتبر الحقوق واجبات تضمنها الدولة وتحميها.

أحلم أن تكون سوريا ما بعد الاستبداد دولة القانون والمؤسّسات، لا الفوضى والاستئثار بالسلطة. دولة تكفل لمواطنيها حرّية الاختيار وحرّية النقد، وتتيح لهم المشاركة الفاعلة في صنع مستقبلهم. لا أريد أن تُستبدل ديكتاتورية بأخرى، ولا أن يُعاد إنتاج التهميش تحت مسمّيات جديدة. أريد لوطني أن يتخلّص من إرث الديكتاتوريّة والعنف، وأن ينطلق نحو حياة كريمة يعلو فيها صوت الإنسان فوق أصوات السلاح والتناحر.

أحلم بسوريا تتجاوز «ثأراتها» التاريخية، سوريا التي تتصالح مع ماضيها بدل أن تعيد إنتاجه، فلا يكون فيها مَن يتسلّط على قومية أو لغة أو مذهب، سوريا التي تُبنى بالشراكة لا بالإقصاء.

سوريا التي أنشدها هي تلك التي لا تُعامل فيها لغة على أنّها تهديد للدولة، ولا يُعتبر فيها الكردي أو الأرمني أو الآشوري أو أي أحد آخر ضيفاً في أرضه.

لقد حُرمنا لعقود طويلة من التعلّم بلغتنا الكردية، ومن كتابة أحلامنا وهواجسنا بتلك اللغة التي نحملها بصفتها جزءاً من كينونتنا. لا أريد أن يُحرم طفل سوري - أياً كان انتماؤه - من لغته، لا أريد أن يُضطرّ أحد إلى الانكماش على ذاته خوفاً من رقابة السلطة أو وصاية المجتمع.

لا أريد أن تُلغى الذاكرة الكردية أو تُهمّش، بل أن تُعاد إليها قيمتها من دون مِنّةٍ أو مساومة، أن تُعاد اللغة إلى أصحابها الحقيقيِّين، أن تُدرَّس الكردية والعربية والآشورية وغيرها من اللغات في سوريا، وأن تكون كلّ لغة جسراً للمحبّة لا سلاحاً للتمييز.

أحلم بوطن تُرفع فيه المظالم عن كواهل السوريّين، فلا أرى مشرَّدين بين الأنقاض، ولا أسمع أنين أمّهات يبحثن عن جثامين أبنائهنّ المفقودين في كلّ مكان.

أحلم بوطن يتنفّس أبناؤه جميعاً بحرّيَّة، وطن يضمّد جراحه التي خلّفتها أنظمة الاستبداد، ويُفسح مكاناً للكرامة والحرية لتكونا أساسَين صلبَين لعقد اجتماعيّ جديد.

آمل أن تكون سوريا الناهضة من ركام نظام الأسد - الذي أعتبره تنظيماً مافيوياً لا غير - فضاءً يتّسع لاختلافنا. أن نستطيع العيش بوصفنا مواطنين كاملين، لا غرباء في أرضنا.

ولا يخفى على أحد أنّه لا يمكن بناء سوريا جديدة دون مواجهة الماضي بشجاعة وشفافية. العدالة الانتقالية ستكون الخطوة الأولى نحو تضميد جراح السوريين، لا بدّ من محاسبة عادلة لكلّ من ارتكب انتهاكات في حقّ الإنسان والوطن.

في سوريا التي أحلم بها، ستكون الثقافة حرّةً ومستقلة، مسرحاً للحوار والاختلاف، وفسحة لتجسيد التنوع السوريّ بجماله وثرائه. أحلم بروايات ومسلسلات تُحكى بكلّ لغات سوريا، ومعارض فنية تعبّر عن هموم السوريين وأحلامهم، ومسرح يضيء بصدق على المآسي والأمل معاً. الثقافة ستصبح أداة بناءٍ لا هدم، وحافزاً لإعادة اكتشاف الهوية المشتركة.

أحلم بوطن يحترم يحترم المرأة كإنسان وكشريك فعّال في بناء الحاضر والمستقبل، حيث تكون القوانين الضامنة لحقوقها جزءاً أصيلاً من بنية الدولة الجديدة. المرأة السورية التي واجهت الحرب بصبرها وشجاعتها تستحقّ أن تكون في مقدمة صفوف التغيير والنهضة.

أحلم بدولة تُوظّف مواردها لخدمة المواطنين، وتعتمد على طاقات الشباب والكفاءات السورية لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية تعيد الأمل وتكفل حياة كريمة للجميع. أحلم بوطن يعيد احتضان أبنائه المهاجرين المتناثرين في الشتات، ويفتح لهم أبواب المشاركة الفاعلة في إعادة البناء.

سوريا التي أحلم بها هي وطن يليق بتضحيات شعبها، وطن تتجلّى فيه القيم الإنسانية العليا، ويُعاد فيه الاعتبار إلى العدل والحرية والسلام.

كروائيّ تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه، وحُرم معي ملايين من السوريين من أبسط حقوقهم في الوجود، من حرية اللغة، والهوية، والانتماء الذي لم يكن يوماً خياراً، بل قيداً مفروضاً.

قد تبدو أحلامي رومانسيّة وبعيدة المنال، لكنّ الأحلام هي بذور المستقبل، وهي الأسس التي سنبني عليها غدنا المنشود.

هل سيظلّ هذا كلّه حلماً مؤجّلاً؟ ربّما. لكن، على الأقلّ، صار بإمكاننا كسوريّين أن نحلم!

* روائي سوري