ما الذي يفعله مئات الأكاديميين الذين يتخرجون في جامعات عربية وأجنبية؟

متهمون بأنهم كسولون وسجناء داخل أسوار «الأكاديمية»

ما الذي يفعله مئات الأكاديميين الذين يتخرجون في جامعات عربية وأجنبية؟
TT

ما الذي يفعله مئات الأكاديميين الذين يتخرجون في جامعات عربية وأجنبية؟

ما الذي يفعله مئات الأكاديميين الذين يتخرجون في جامعات عربية وأجنبية؟

وهنا ينهمر سيل الأسئلة: ما الذي يفعله النقاد الأكاديميون الذين يتخرجون سنويا في الجامعات المحلية أو العربية أو حتى الأجنبية..؟ ولماذا ينحصر النقد الأكاديمي في المؤتمرات الخاصة به، حيث يلتقي عدد من الأكاديميين النقاد لمناقشة مصطلحات مدرسية غالبا مكررة ومتداولة منذ أكثر من قرن من الزمن؟ أليس دور النقد أيضا أن يقيم النتاجات الإبداعية الصادرة حديثا؟ فأين هذا الدور؟ وهل جزء من المشكلة يكمن في عدم وجود مساحات في وسائل الإعلام للمادة النقدية ذات الطبيعة الأكاديمية بسبب حجمها مثلا بعكس النقد الصحافي الذي يسهل نشره؟ وما السبيل إلى جعل النقد الأكاديمي مواكبا للعصر بحيث لا يفقد علميته وفي الوقت نفسه لا نخسر حضوره الجماهيري؟ ولماذا فشل النقاد في الانفتاح على التجارب الشبابية والإبداعية، وأين أخفق النقاد في قراءة المشهد الثقافي؟
ألقينا بكرة هذه الأسئلة في ملعب مجموعة من النقاد والأدباء، وتركنا لهم حق الإجابة عنها، ونبدأ أولا بالأكاديميين لأن الاتهام يوجه إليهم.

* تقريظ وتسفيه
الناقد الأكاديمي المغربي عبد المالك أشهبون يميز بين نوعين بارزين من النقد: «نقد صحافي، وكان له دور بارز في العقود الماضية في إبراز نقاد ومبدعين عصاميين، ونقد أكاديمي تبلور في أحضان الجامعات العربية: وهو، كما يراه أشهبون، فضاء تحضير أطاريح الماجستير والدكتوراه، حيث يعد المجال الجامعي مشتلا حقيقيا لتكوين نقاد المستقبل في مجالات العلوم الإنسانية ككل».
ويقرأ الدكتور أشهبون واقع الحال فيقول: «النقد الصحافي أصبح في غالبه ينتج عينات من النقاد شغلهم الشاغل: المديح والتقريظ من جهة، والتسفيه والتشويه من جهة ثانية.. مع تسجيل وجود بعض الاستثناءات، ولكنها تبقى مجرد استثناءات لا يقاس عليها». ويضيف: «أما الفضاء الأكاديمي، فيضم جحافل الجامعيين، مدججين في نقودهم بأقوال منظرين غربيين، ونقودهم لا تعدو تكون استعادة مدرسية لطروحات تودوروف وجينيت وباختين وغيرهم تارة، أو أساتذة موظفين في تلك الجامعات يشرفون على أطاريح جامعية إشرافا إداريا بعيدا عن تقاليد الإشراف الأكاديمي المعهود في الجامعات العريقة، كما أن الجامعات انتقلت من التفكير إلى التلقين، وغدت لا تقيم وزنا للفعل الثقافي بصفة عامة».
أما لماذا ينحصر النقد الأكاديمي في المؤتمرات الخاصة به، بحيث يلتقي عدد من الأكاديميين النقاد لمناقشة مصطلحات مدرسية غالبا مكررة ومتداولة منذ أكثر من قرن؟ فيجيب الدكتور أشهبون: «من المعروف أن النقد الأكاديمي مصدره الأساس الجامعات، ودون أن نغمط حق جامعاتنا والدور الريادي الذي اضطلعت به في إنجاب كثير من الباحثين في مجالات بحثية متنوعة قدموا إنجازات في مجال تخصصهم؛ فإنه للأسف أضحت الجامعة العربية راهنا تشهد تراجعات ملحوظة على صعيد دعم وتشجيع وتوطين البحث العلمي.. غير أن ما هو لافت للانتباه أنه حتى تلك الأنشطة الأكاديمية التي تحتضنها تلك الجامعات تظل نخبوية ومنعزلة ودون فائدة تذكر من وراء تنظيمها».
وعن دور النقد في تقييم النتاجات الإبداعية الصادرة حديثا يقول: «يكتب الروائيون الشباب رواياتهم وهم حائرون يتساءلون: ما الجديد الذي يمكن أن يكونوا قد قدموه في أعمالهم؟ ما موقع أعمالهم في الرواية العربية؟ وهل ستجد رواياتهم صدى لدى المتلقي ناقدا كان أو مجرد قارئ؟».

* تراجع وظيفي نوعي
أما الدكتور محمد عبد الرزاق المكي، أستاذ الأدب العربي المساعد بكلية الآداب في جامعتي الطائف والإسكندرية، فيعترف بأن ثمة جدلا يثيره تتبع المشهد النقدي في العالم العربي في العقد الأخير؛ «فبقدر ما شهدت حركة النقد الأدبي ثراء كميّا على المستوى الأكاديمي؛ من حيث الرسائل والأطروحات العلمية والإنتاج العلمي للنقاد الأكاديميين؛ فقد شهدت تراجعا نوعيا في الوظيفة التي ينهض بها الناقد في عموم المشهد الثقافي وهو ما اصطلح على تسميته (ناقد الساحة)، ولعل ثمة عوامل أدت إلى هذا التراجع؛ منها ما يعزى إلى النقاد أنفسهم، الذين رضي جلهم بالنقد الأكاديمي بوصفه درجة جامعية ينحصر حضورها فيما يشرفون عليه من رسائل وأطروحات، وما يحبرونه من دراسات في النقد الأدبي، ومنها ما يرجع إلى المناخ الثقافي العام الذي شهد حالة من التراجع في الدور الذي تنهض به الأندية الأدبية وقصور الثقافة بتأثير من المد الثوري الذي اجتاح العالم العربي منذ أربعة أعوام، ذلك إذا استثنينا الجهد الرائد الذي قامت به بعض المؤسسات الثقافية الخاصة من ندوات وإصدارات أسهمت في خلق حالة من الحراك النقدي مثل مؤسسة عبد العزيز البابطين في الكويت».
ويعتقد الدكتور محمد عبد الرزاق مكي أن «الأمر يحتاج إلى استقطاب النقاد الأكاديميين خارج أسوار الجامعة ودعوتهم إلى الملتقيات وورشات العمل في الأندية الأدبية وقصور الثقافة، ليتجاوز الناقد الأكاديمي حدود وظيفته إلى ناقد الساحة الذي يبرز من خلال منجزه النقدي نمطا جديدا من النقد، يتخذ من التجارب الشابة مادة للتطبيق والتحليل تتماشى مع تلك الثورة الرقمية التي غدت سمة مميزة للنتاج الأدبي والثقافي، وتستوعب ما تمخض عنه هذا النتاج من حراك سياسي واجتماعي، ولا نستطيع بحال أن نغفل ما للإعلام بتقنياته المختلفة من أثر فاعل في إذابة تلك الحواجز بين المبدع والقارئ من جانب، وبين الناقد والمبدع من جانب آخر».

* النقاد الأكاديميون لا وقت لديهم
الأكاديمي الدكتور يوسف شحادة، من جامعة كراكوف في بولندا، لا يبتعد كثيرا عن زميليه السابقين، فباعتقاده أن النقد الأدبي تعترضه مشكلات جمة، لعل أهمها أن النقاد الأكاديميين ليسوا متفرغين كليا لممارسة النقد ومشاغله المرهقة التي تبدأ بالوصول إلى المادة الإبداعية المنشورة، أي اقتناء كل ما هو جديد من كتب ذات قيمة في السوق الأدبية الرائجة، ولا تنتهي بالقراءة والتمحيص والتحليل والتعليل.. «الجامعات لا تخرج نقادا، لكنها تهيئ باحثين في مجال الأدب وتاريخه وفنونه ومدارسه وأهم رجالاته، وتدربهم على اعتماد المنهجيات العلمية في بحوثهم ضمن سياق تعليمي يشكل الخطوات الأولى التي لا بد منها لتنشئة الناقد الأكاديمي المتمتع بملكة النقد والقدرة على التحليل والتعليل والمقارنة والاحتجاج».
ويحمل الدكتور يوسف شحادة الأكاديميين مسؤولية الانتباه إلى الجديد ومتابعة أهم ما يصدر من مؤلفات جديدة، ورصد العملية الإبداعية، وتتبع مسارات تطورها، ودراسة المتغيرات المستمرة في الأجناس الأدبية، والتقنيات الفنية، والأساليب المبتكرة، كما يرى في التجربة الإبداعية الشبابية أنها مهمة جدا في تطور النقد الأكاديمي، و«على الناقد أن يلتفت إلى إبداعات الشباب، وقد يفاجأ الناقد الذي يحني هامته قليلا لقراءة أعمال الشباب بأنه أمام إنجازات أدبية مذهلة، قد تنسف كثيرا مما تعلمه من نظريات أكل عليها الدهر وشرب».

* أدباء: الناقد الأكاديمي «كسول وغائب عن المشهد الثقافي»
يرى عدد من الأدباء أن حركة النقد ما زالت تعيش في عزلة عن حركة الإبداع الذي يمضي قدما غير متأثر بها، ويقول الشاعر مهدي سلمان، من البحرين: «الخلل لا ينسب للنقاد المتخرجين في الجامعات العربية والمحلية، بقدر ما يعود إلى النظام التعليمي والتربوي والثقافي ذاته، فالدارس الأكاديمي يعد غالبا ليكون كسولا أولا، ثم بعيدا عن المشهد الأدبي والثقافي الراهن في العالم العربي».
ويصف مهدي سلمان الناقد بأنه منذ بدايته الأكاديمية غير مقبول منه أن يتناول أبعد من بعض الأدوات والأساليب النحوية أو البلاغية في أولى بحوثه حتى أبعد رسالاته، أو بالكثير أن يتناول الأسماء المكرسة بأشكال مكرسة هي الأخرى، وذلك بالنظر إلى ما هو مطلوب من فهم عقيم لفكرة المراجع والمصادر، ليكرر بعد ذلك ما يقوله الجميع وما يتناولون، غير خارجة عن هذا النمط كثير من الجامعات والكليات الأدبية في العالم العربي، «فهي لا تلزم طلبتها بمتابعة وملاحقة الواقع الأدبي العربي، وما يتم تناوله من تجارب عربية معاصرة وراهنة، أجزم بأنه تحد يقوم به طالب (أو طالبة ما) للنظام الأكاديمي برمته». والمطلوب لدى مهدي سلمان أن ينتبه هذا النظام إلى أهمية أن «يتابع الدارسون البيئة التي منها أو يفترض أن ينهل منها هؤلاء علومهم، لأن البيئة الأدبية الراهنة تعد الحقل العلمي الذي يفترض أن يشتغل فيه هؤلاء، وهي مادتهم العلمية الغنية ومصدر نتاجهم، لذا فاللغة العربية والأدب العربي يفوتهما كثير من الكشوف، حين ينحصر نتاجهما في تكرار ما تداوله الباحثون عن تجارب سابقة وفي مجالات ضيقة».
بعد ذلك يقول سلمان: «يأتي الدور على المؤسسات الثقافية العربية، التي لا تسعى في كثير من الأحيان إلى خلق مساحة من الشراكة فيما بين الدرس الأكاديمي والطلبة والأساتذة والواقع الثقافي الراهن، فعلى الناقد الأدبي أو الثقافي أن يقدم ما يؤهله لدخول عالم المؤسسات الثقافية العربية الرسمية والأهلية، وعليه أن يحفر في الصخر ليقترب من هذا العالم.

* الناقد وعقدة الإبداع
الشاعرة هدى أشكناني، من الكويت، حاولت أن توجد مخرجا ما للنقاد، لكن الأمر لا يطول معها، فتقول: «الناقد كغيره من المثقفين، يجد مكانه في العزلة. سنوات كثيرة يمضيها الناقد بين الاطلاع والبحث، وبعدها يعود مرة ثانية لنقطة الصفر. النقد للأسف - في مجتمعاتنا العربية - أصبح رديفا للوجاهة والمظهر، مجرد أسماء لا تقدم ما يفيد الكاتب أو القارئ». ولأن النقد وجاهة، يبحث الناقد عن إطارات خاصة و«نخبوية»، لهذا لا يجدها إلا في المؤتمرات التي يشارك فيها، وغالبا ما يتم اختيار المشاركين بناء على أمرين؛ أولهما مدى «حفظ» الناقد لمصطلحات نقدية ومسميات ذات تعقيدات كبيرة دون فهم واضح لها، وهكذا يشرك الحضور بدائرة الانبهار «الوهمي»، وثانيهما العلاقات الاجتماعية والمصالح المتبادلة، لذا تجد أن معظم النقاد يحلون ضيوفا على الملتقيات والمؤتمرات نفسها بصورة شبه دائمة.

* بين النقدين العربي والغربي
الكاتبة والباحثة فتحية الحداد، من الكويت، ترى أن الأسئلة التي طرحناها عن النقد تختلف من مكان إلى آخر، «فبالنسبة لموضوع النقد في العالم العربي صعب أن يتطور في ظل أن الأعمال نفسها لا تتطور والأدباء أنفسهم منغلقون في عالم لا يقدم الجديد. وبالنسبة للأعمال الشبابية تناولها النقد، وليست وظيفة الناقد أن يضيف عمقا على العمل إن كان بالأصل سطحيا. النقد ينمو إن تطورت الأعمال الأدبية نفسها وليس العكس بنظري».
أما بالنسبة إلى النقد الأكاديمي، في الأكاديميات الأوروبية، حسب رأي فتحية الحداد، فيتم تناول الأدباء الذين كتبوا باختيارهم تحت تأثير المخدرات مثلا، «هل نتصور أن يقوم ناقد عربي بالبحث في هذا الاتجاه؟ النقد الأدبي يحتاج أيضا إلى دراسات اجتماعية خاصة بالمجتمع وتطوره، وهذا غير متوفر في العالم العربي، وليس هناك قواميس عربية أو معاجم تتبع المفردات الجديدة التي تدخل اللغة العربية، وعليه فالناقد يتقيد بتلك القدسية التي يتقيد بها الأدباء العرب والقراء وأي دراسة عن اللهجة في الأدب العربي قد لا تلقى بالا.. لأن الأدباء أنفسهم يريدون أن تربط نصوصهم بالنظريات التي يعرفونها وغالبا تكون نظريات قديمة.. وعليه، كما يقولون، الناقد سيقول لهم: (هذه بضاعتكم ردت إليكم)».
القاص بسام جميدة، من سوريا، يعتقد أن «المسألة ببساطة أن كثيرا ممن يمتهنون النقد الأكاديمي غالبا ما يمارسون طقوسهم النقدية على الكتب التي يختارون قراءتها من أجل مزاولة المهنة، حتى لتشعر في بعض الأحيان أن هذا الناقد كمن يحمل سوطا ويجلد كاتبا لأنه ارتكب جريمة عدم تطبيق معايير الكتابة التي تعلمها ذلك الناقد، متناسيا كل فصول الإبداع التي تحملها الرواية أو القصة أو القصيدة».
ويقول: «أرى أن يكون هناك فقه نقدي متطور على غرار الفقه الديني، والاقتصادي، وعدم قولبة كل الأعمال الأدبية ضمن المفاهيم النقدية التي كانت سائدة قبل قرن من الزمن».
أما لماذا فشل النقاد في الانفتاح على التجارب الشبابية الإبداعية؟ فيقول بسام جميدة: «قد لا يكون فشلا بكل معنى الكلمة، ولكن غالبية النقاد لا يريدون أن ينزلوا من بروجهم العاجية، لأنهم يظنون أنهم أكبر من تناول أدب لأناس لم ينالوا الشهرة بعد».

* منغلقون ولا يواكبون العصر
الشاعر محمد محمد عيسى، من مصر، لديه رأي صارم حول الأكاديميين، فيقول: «ماذا ينتظر من أكاديميين هم في الأساس خريجو جامعات منغلقة على نفسها حتى التي تزعم انفتاحها، وما كان لها من اتفاقيات، وبروتوكولات هي شبه حقيقة وليست واقعا». ويعتقد بوجود «مأزق يجعل أغلب النقاد يأخذون وقتا في فهم النظرية ثم تجريبها، ليظل البين شاسعا بين النظرية وتطبيقها، فما أن يصلوا إلى تطبيقها حتى تكون هناك استحداثات لعناصر فنية جديدة».
ويرى عيسى أن «منهج الأكاديميين في الكتابة قديم غير مؤهل، وليس مواكبا للتطور السريع في رقي الصورة المتجاوزة حدود المكان والزمان».
كما يرى أن «أغلب التجارب الإبداعية أعلى بكثير من الكتابات النقدية بل تجاوزتها. خطى الزمن أسرعت، ومتخلف من لم يلحق بها».



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.