مهرجان فينيسيا الدولي: العالم تغير.. و كذلك المهرجانات

الدورة 72 لمهرجان فينيسيا وصلت إلى ختامها بعد أيام من الاختيارات الصعبة

مشهد من «فرانكوفونيا» .. وآخر من «دم دمي»
مشهد من «فرانكوفونيا» .. وآخر من «دم دمي»
TT

مهرجان فينيسيا الدولي: العالم تغير.. و كذلك المهرجانات

مشهد من «فرانكوفونيا» .. وآخر من «دم دمي»
مشهد من «فرانكوفونيا» .. وآخر من «دم دمي»

قبل أحد عشر يوما انطلقت الدورة الثانية والسبعين من مهرجان فينيسيا الذي كان موسوليني أسسه سنة 1932 واستمر إلى أن هزمت إيطاليا و«المحور» في نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم عاد يلملم جراح انحيازه للفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، لكنه توقف بضع مرّات وإن كانت دوراته في السنوات الثلاثين الأخيرة أو سواها متواصلة على إيقاع منضبط.
حين بدأت الدورة كنا جميعا ننظر إلى الأمام محمولين على جناحي الأمل والتوقع.. واحد متفائل بدورة تكشف لنا أفلاما ومن خلالها ظواهر وتيارات، والآخر يحدو بنا لانتظار مفاجآت ما بقي من أفلام العام الكبيرة، تلك التي لم تعرض في برلين وفاتها «كان» (أو فوّتها) والتي وصلت إلى هنا لتدخل واحدة من المسابقتين الرئيسيّتين: الرسمية الأولى التي يرأس لجنة تحكيمها المخرج ألفونسو كوارون، والثانية المسماة بـ «آفاق» التي يرأس لجنة تحكيمها المخرج جوناثان دَمي.
الآن ننظر إلى الوراء.
فيلم الختام هو بمثابة إسدال ستار المهرجان وتنفس الموجودين الصعداء. لا أفلام بعد اليوم وحتى العام المقبل في هذا الصرح. قبله حفلة توزيع الجوائز التي يختلف من حولها النقاد ومن المنتظر أن يختلف من حولها أعضاء لجنة التحكيم أيضا. وليس هذا لأن هناك قلة من الأفلام التي تستحق، فما يسجل لمدير المهرجان ألبرتو باربيرا أنه نجح في جمع عدد لا بأس به منها وهو المحاصر بمهرجانين قويين قبله ومهرجانات متعددة بعده لا تقل قوّة.

* حكايتان
الأفلام الأبرز التي عرضت هذا العام، أي تلك التي شهدت الإقبال النقدي الأعلى، تعددت في مصادرها واهتماماتها. يقودها الفيلم الألماني - الفرنسي المشترك «فرانكوفونيا» للمخرج الروسي ألكسندر سوخوروف. بمعياره الفني الثري في التفاصيل والإيحاءات وقوّة المضمون، أنجز سوخوروف فيلما عصيا على التصنيف. لا هو تسجيلي ولا هو روائي ولا هو منتصف الطريق بينهما. إنه فيلم خواطري يقرأ في الفن وفي السياسة والعلاقة بينهما من خلال إلقاء نظرة على التاريخ الذي وحّد أوروبا ثقافيا وفنيا والذي انبثق عنه متحف اللوفر واحتواه عبر ألوف اللوحات التي يختزنها، وكيف تعامل مع الغزو الألماني الذي أراد وضع اليد على هذه الكنوز الضخمة.
سوخوروف يمضي لأبعد من ذلك مقدّما شخصية نابليون بونابرت وهو يستعرض تاريخه ويتباهى بما حققه لنفسه ولفرنسا (لكن لنفسه أكثر) من صيت.
من بين عشرين ناقدا قامت مجلة «كياك» الإيطالية برصد تحبيذاتهم، يجيء «فرانكوفونيا» الأول ولا يتأخر عنه كثيرا الفيلم الإيطالي «دم دمي» لماركو بيلوكيو: حكايتان متباعدتان في الزمن كما في الاهتمام القصصي. الأولى تقع في القرن السابع عشر عن شاب مسلح يدخل سجنا يديره الرهبان ليقابل المرأة التي اتهمت بالسحر فسجنت والتي أغوت شقيقه الراهب. ما يلبث الشاب أن يقع تحت سطوتها. حين ننتقل إلى الزمن الحالي نتابع حكاية مليونير روسي يقرر شراء ذلك الدير – السجن، ليفاجأ بأنه مسكون بمصاص دماء.
ليس فقط أن الفكرتين متباعدتان في النص ولا تمثل الثانية امتدادا فعليا للأولى إلا من خلال الموقع الواحد، بل تختلف المعالجة أيضا وإلى حد كاف ليثير انتباه المشاهد من دون أن يجيبه عن أي من الأسئلة التي قد يطرحها حول السبب في هذا الاختلاف.
من بين الأفلام الأخرى التي حظيت بأعلى درجات الإعجاب «11 دقيقة» الذي خاض به المخرج البولندي ييرزي سكوليموفسكي تجربة جديدة عليه وهي تقديم شخصيات متعددة بأحداث منفصلة ثم جمعها، على طريقة بعض أفلام أليخاندرو غونزاليز إناريتو، مثل «الحب كلب» و«21 غراما» و«بابل»، في لحظة واحدة فاصلة. لكن «11 دقيقة» إذ ينجح في الثراء البصري للعديد من مشاهده يفتقد المفاد لكل فيلمه الذي ينتهي بموسيقى عالية صاحبها تصفيق الحضور منفعلين على الأرجح بشريط الصوت.

* صور صادمة
السياسة طرقت الباب من خلال بضعة أفلام، ولكل سياسة وجهة نظرها في شأن أو آخر. أكثر أو أقل. هناك ذلك الفيلم التسجيلي عن الأحداث التي سبقت الحرب الروسية - الأوكرانية الأخيرة في فيلم «الشتاء على النار» لإيفنجي أفينيفسكي الذي ينتقل بين مواقع العاصمة الأوكرانية التي شهدت المظاهرات الشعبية التي كان البوليس يتصدّى لها بعنف، من قبل أن يلين موقف البوليس ويكون ذلك بداية لانهيار النظام السابق وتنحيه.
لكن الفيلم الذي أثار الإعجاب الأكبر بين الأعمال التسجيلية ذات الطرح السياسي هو «رابين.. اليوم الأخير» للإسرائيلي آموس غيتاي، الذي يتردد عادة على فينيسيا كل سنة بصحبة فيلم جديد وإن قصّر مرّة تراه مال إلى مهرجان «كان» بديلا.
كما يكشف عنوانه هو عن تلك المرحلة الأخيرة من حياة رئيس الوزراء الراحل قبل عشرين سنة عندما وضع المتطرّفون اليهود رصاصة قنّاص في جسده بعدما لمسوا صدق نواياه في منح الفلسطينيين دولة لهم حسب اتفاق أوسلو. الأمور بعد رحيله لم تعد كما كانت من قبل، وتأسيس كيان مستقل فعلا للدولة الفلسطينية لم يعد على جدول اهتمامات الحكومة الحالية (ولا تلك التي قبلها)، لكن غيتاي يحصر اهتمامه، في ساعتين وثلثي الساعة، بالفترة السابقة معيدا فتح ملفات أغلقت أو البحث عما تطرحه أخرى ما زالت مفتوحة. يحمل على سياسة المتطرّفين اليمينيين، لكنه لا يرغب في الإدانة المفتوحة.
فنيا، بقي أفضل ما شوهد من أفلام تسجيلية حتى وصول فيلم صيني يوم أول من أمس عنوانه «بهيموث» يحمل في ساعة ونصف الساعة صورا صادمة عن التحوّلات البيئية التي تقع في منغوليا بعدما فتحت البلاد ذراعيها لشركات التنقيب عن الفحم الصينية فإذا بها تنهب الأرض من زرعها وحصادها وتحوّلها إلى أتلال من الأتربة البشعة نافثة، عبر مصانعها، الدخان الملوّث الذي يكمل تهديده للبيئة بأسرها. في النهاية يفتح الكاميرا على مدينة بنيت لكي تستوعب الجاليات الصينية أو سواها للعيش بالقرب من تلك المناطق، لكنها بقيت خالية من السكان إلى اليوم. لا يفوت المخرج زاو ليانغ الحديث عن الثمن الذي يدفعه العاملون صحيا وسوء أحوالهم المعيشية.

* تحديات المستقبل اليوم
هذه الأفلام وسواها الكثير تؤسس، كالعادة، الكيان الفعلي لما تطلع به النتائج. وسواء فاز «فرانكفونيا» أو «دم دمي» أو أي فيلم آخر من تلك التي وردت هنا أو في تقارير سابقة، فإن المهرجان ما زال يقف على الحافة الصعبة متوسلا التوازن المطلوب لاستمراره على نحو متصاعد. مهمّة بالغة الصعوبة خصوصا في مثل هذه الظروف الحالية تحديدا.
الحال هو أن هذا المهرجان الإيطالي الأكبر سنا من كل مهرجان سينمائي آخر على الأرض يشهد تحولات كبيرة تصيب السينما التي يتعامل معها. الفيلم (كمادة مصوّرة سواء على كاميرا ذات فيلم أو بالديجيتال) باتت لديه الكثير من القنوات التي يستطيع سبر غورها بحثا عن العروض المناسبة. هناك وسائط متعددة يستطيع الجمهور عبرها مشاهدة ما كان عليه أن ينتظر عرضه وأن يؤم له صالات السينما. هذا الجمهور تم تدجين معظمه لكي يقبل الاختيارات الأخرى المتوافرة، فهو يستطيع أن يشاهد الفيلم في البيت أو في المقهى.. في مكتبه أو في القطار السريع بين لندن وباريس. والأفلام المتوافرة أثيرا ليست فقط التجارية بل الفنية أيضا.
فينيسيا ذاته قام هذا العام بإتاحة المجال لمن يرغب في مشاهدة بعض أفلام المسابقة لقاء ثمن يدفعه على «الإنترنت». أيضا أشرك في عروضه فيلما من إنتاج شركة «نتفلكس» هو «وحش بلا أمة»، والشركة هي مؤسسة لبيع البث على الإنترنت لا بعد استيفاء عروض تلك الأفلام في الصالات، بل تتجاوزها تماما قاصدة أن تستغني عن كلفة الطبع والتوزيع وتحصد أرباحها من خلال العروض المباشرة على الإنترنت.
وفي حين كان الناقد والسينمائي يشعر حتى سنوات قليلة سابقة بأنه من حسن الحظ أن هذا المهرجان يخلو من سوق سينمائية، من باب أنه يؤثر في صيته وهويته الفنية ويخدش ذلك التفرد بإعلاء قيمة ونوعية المعروض، بات الناقد والسينمائي ذاتهما يدركان أن حسنات هذا الغياب ليست بالضرورة أهم من سلبياته. أول الشاعرين بذلك هم العاملون في قمّة هذا المهرجان، وهم يرون كم من الصعوبة جمع أفلام ذات عرض عالمي أول، وكم من الصعوبة منع مهرجان تورنتو من المشاركة على نصفها، على الأقل، واستحواذ أفلام ربما كانت ستقصد فينيسيا لولا تورنتو.
في وسط كل ذلك، بات الموزعون والمنتجون أنفسهم يدركون أن اللعبة الآن ليست لعبة المهرجانات ومن يفوز ومن لا يفوز، رغم أهمية الجائزة بالنسبة للأفلام عموما، ولا حتى لعبتهم على النحو ذاته الذي كانت تمارس فيه من قبل، بل هي لعبة المشاهد يمسك بخيوطها ويؤثر في تحريكها تماما كما لو كانت لعبة فيديو رائجة.
طبعا، هناك عدد كاف من السينمائيين والنقاد والجمهور في كل مكان يحن للماضي الجميل. ذلك الذي كان الفيلم يُصور فيه باستخدام الفيلم (الأكثر جمالا وجودة) ويعرض في مكان واحد (قاعة السينما المعتّمة)، ويعيش بين الناس لأسابيع طويلة أكثر مما يفعل الفيلم المنتج اليوم الذي أمامه أيام معدودة ليترك أثره ويحقق نجاحه وإلا سيسقط تحت أقدام سواه.

* باربيرا يتحدّث
كل هذه الحقائق الناتجة عن الظروف المتغيرة لكل ما له علاقة بالسينما فنا وصناعة وتجارة وجمهورا ومهرجانات، كانت حاضرة وثقيلة رغم نجاح المهرجان في استقطاب النجوم والمخرجين والنقاد الدوليين. لكنك ستجد مدير المهرجان باربيرا أول من يعترف بأن الحال لم يعد كما كان سابقا. في لقاء ضمن حفل «جمعية مراسلي هوليوود الأجانب» في أحد أيام الأسبوع الأول من المهرجان استمتعت إلى مدير المهرجان وهو يقول: «لقد أصبح من الصعب على أي مهرجان بمفرده أن يعرض أفلاما لا يعرضها مهرجان آخر. ذهبت تلك الأيام التي كان من الممكن فيها الانفراد بكم كبير من الأفلام. أيام كانت المنافسة هي بين برلين وكان أو كان وفينيسيا أو فينيسيا وبرلين. الآن نحن وسط عالم متغير، والفيلم الذي تعرضه اليوم معروض غدا في المهرجان الكبير التالي».
حين ذكّره أحد الحاضرين بأنه في بعض الحالات يعرض الفيلم قبل أيام من عروضه التجارية رد: «هذا دليل آخر على المتغيرات الواقعة. لكن لننس مسألة (العرض العالمي الأول). بات الأمر أشبه بالنكتة. لم تعد لها القيمة السابقة ذاتها».
باربيرا يكشف في حديثه ما كان كشفه لبعض الصحافيين الأوروبيين قبل أسابيع، ويضيف عليه: «لقد اتبع مهرجان تورنتو سياسة الهجوم على المهرجانات المحاذية له، تحديدا فينيسيا وتوليارايد الأميركي. وخلال انعقاد مهرجان (كان) اجتمعنا وقررنا أن الوقت حان لكي نتوقف عن التنافس الشرس ومحاولة عرقلة عمل الآخر بنوع من خطف الأفلام على نحو أثار رد فعل سلبيا لدى المنتجين. المنتج يريد أن يختار ولندعه يختر من دون ضغط».
من نتائج الاتفاق أن فينيسيا أخر افتتاح دورته الحالية أياما قليلة ودفع تورنتو بتوقيت مهرجانه إلى الوراء أيضا فبات من الممكن لمن يحضر فينيسيا أن ينتقل إلى تورنتو من دون أن يخسر نصف الأول أو نصف الثاني.
لكن في حين أن هذا الإنجاز، على بساطته، منح المهرجان الإيطالي مساحة ليفرد قدميه، إلا أنه لا أحد يعلم بعد لماذا كان الإقبال خفيفا في مطلع المهرجان وازداد خفّة في نصفه الثاني. هناك احتمالات من بينها غلاء التكلفة ومن بينها الاختيارات المتعددة المتاحة أمام الجميع، ومن بينها أيضا أن صنع الفيلم وترويجه بات يتطلب مهرجانا أكثر فاعلية من مجرد اسمه وصيته وجوائزه.
على ذلك، الكثير مما عرض هنا كان من بين تلك الكنوز التي ينتظرها الهواة من كل التوجهات. والأمل في أن تستمر رغم الصعاب المذكورة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)