فكرة العلمانية في ضوء مستويات التدين داخل المجتمعات الغربية

تراجع تأثير الكنيسة في الحياة الاجتماعية والسياسية وتراجعت ممارسات الطقوس من طرف الأفراد

فكرة العلمانية في ضوء مستويات التدين داخل المجتمعات الغربية
TT

فكرة العلمانية في ضوء مستويات التدين داخل المجتمعات الغربية

فكرة العلمانية في ضوء مستويات التدين داخل المجتمعات الغربية

عندما نقول إن المجتمعات الغربية مجتمعات علمانية، يكون المقصود بذلك تراجع الكنيسة عن التأثير في الحياة الاجتماعية والسياسية، كما كانت تفعل في العصور الوسطى. وبالمقابل، تراجعت الممارسات الطقوسية الدينية من طرف الأفراد، كحضور القداس والتعميدات والجنائز وطقوس الزواج إلى غير ذلك، حيث يصبح الدين مسألة شخصية وقناعة فردية لا غير، ويكون الإنسان الغربي غير ملزم باعتقادات معينة مفروضة من الدولة أو الحكومة يجب أن يؤمن بها، أو ممارسات محددة يتوجب عليه القيام بها، ليصبح صوت رجال الدين خافتا ويحل محله صوت العلم، والقانون، والحرية الشخصية، والأخلاق الفردية، كمبادئ ينبغي الالتزام بها عوض المبادئ الدينية.
في هذا المقال، نجد مقاربة سوسيولوجية للدين، تتأسس على أبحاث ميدانية ومعطيات إحصائية حديثة للوضع الديني في الغرب. ونريد من وراء ذلك، إثارة الانتباه إلى أن فكرة العلمانية التي تنعت بها أوروبا، والتي تعد باللاتدين، وتراجع الدين من الحياة الاجتماعية، وتراجع التكتلات المؤسسة على مرجعيات وأفكار دينية، وكذلك تقلص الالتزام الديني الفردي، هذه الفكرة، تتعارض مع الأبحاث الميدانية لمستويات التدين التي تنجز في كل من أوروبا وأميركا، حيث يعد ظهور الأفكار الدينية الأصولية في الولايات المتحدة الأميركية، ومعاداة المهاجرين من ذوي الديانات الأخرى، خاصة الإسلام، والتضييق على عباداتهم، والإسلاموفوبيا، الأحداث الأكثر تأثيرا التي قادت إلى مراجعة التفكر في الدين داخل المجتمعات الغربية. فهل الغرب علماني فعلا، كما يتم الترويج له، أم أن حضور الدين فيه لا يزال قويا وله تأثيره الكبير على الحياة الفردية والاجتماعية داخل المجتمعات الغربية؟

* الاعتقادات والالتزامات الدينية في أميركا
تحوز الاعتقادات الدينية أهمية عالية في الولايات المتحدة. وتكشف متابعة الرقابة الاجتماعية العامة، أن ما يقارب 63 في المائة من الأميركيين لا شك لديهم في وجود الله، في حين أن 2.2 في المائة فقط لا يؤمنون بالله، وما يقارب ثلث الأميركيين يعتقدون بأن الكتاب مقدس وهو كلام الله الحق، وأكثر من 80 في المائة يرونه إلهاما إلهيا، كما يؤمن 77 في المائة بالجنة، و63 في المائة بالجحيم، و58 في المائة بوجود الشيطان. يضاف إلى هذا، أن 61 في المائة من الأميركيين ينتمون إلى جمعيات دينية، و29 في المائة يرتادون الكنيسة مرة في الشهر على الأقل، و22 في المائة يشاركون في الخدمة الاجتماعية ذات الدوافع الدينية، وينفقون عليها نسبة معتبرة من أموالهم تعادل 440 دولارا سنويا للعائلة.
وثمة مظهر جلي للتدين الأميركي هو التنوع، حيث تعتبر التعددية الدينية مقوما أساسيا للدين في الولايات المتحدة. فهناك ما يزيد على 2100 جماعة دينية، و26 في المائة من البروتستانت، و25 في المائة يعرفون ذواتهم ككاثوليك، و5.2 في المائة من اليهود، و9 في المائة ليسوا متدينين. وتبين الأبحاث، أن الاعتقادات والسلوكيات الدينية، تتأثر بعوامل متعددة، خاصة تلك المتعلقة بالاحتضان العائلي، حيث يلعب الآباء دورا مهما في توجيه أبنائهم إلى وجهة دينية معينة، كما تلاحظ المشاركة الكبيرة للنساء في الحياة الدينية، حيث يملن إلى نبذ اللاتدين. كما أن الكثير من المطالب السياسية في الولايات المتحدة، تلبس لباسا دينيا، كمطالبة السود بالحقوق، ومطالبة الشعوب اللاتينية بالعدالة الاجتماعية. في حين يؤثر الدين في جوانب أساسية في حياة الفرد الأميركي كالعلاقات الاجتماعية، الصحة الجسدية والنفسية، وبناء علاقات إيجابية مع الغير، وغيرها من الحسنات التي تجلبها الحياة الإيمانية.
هكذا نستنتج أن الدين لا يرفض التواري في الولايات المتحدة الأميركية وحسب، بل يواصل تأثيره على الانتماءات السياسية، والعلاقات الأسرية، والصحة، والرفاهية، والفضاء الاجتماعي الحر، والرأسمال الاجتماعي، وهو صناعة مهمة في أميركا، ومكون أساسي للقطاع غير الربحي في الاقتصاد.

* الدين في المجتمعات الأوروبية
غالبا ما يقوم كثيرون بمقارنة أوروبا الحالية بأوروبا العصر الوسيط، ويعتقد كثيرون بأن أوروبا المعلمنة اليوم، أقل قدسية من أوروبا العصور الوسطى. لكن مؤرخي الدين جمعوا شهادات تثبت أن العامة في القرون الوسطى، كانت غير متدينة فعلا. فالفلاحون كانوا يعبدون بعض الأرواح التي عبأها الفلكلور بمدلولات مسيحية. والحضور إلى الكنيسة كان، في كثير من الأحيان، يتسم بالعبث واللامسؤولية، والقيام بتصرفات مخلة بالأخلاق وبقدسية الكنيسة وهيبتها. أما الكنيسة، فقد كانت دائما ظاهرة حضرية. فمن النادر مشاهدة قس في الأرياف. كما أن الإحصائيات ظلت ضعيفة حول التدين، ولو قوربت بمقاربات القرن 20 لاعتبرت أوروبا آنذاك علمانية.
إذا كنا ننعت الغرب بالعلمانية، ونعتقد بأنه قد رفع يده عن الدين وتركه للحرية الشخصية، فإن الواقع يظهر عكس ذلك تماما. فالوضع الديني في أميركا يختلف عنه في أوروبا. فإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تشرعن التعددية الدينية، فإن أوروبا تشهد احتكارات دينية، حيث المجال الديني مؤطر بسياسة دينية قوية، ولا يقل في ذلك شأنا عن احتكار المجال الديني الذي يحدث في الكثير من الدول العربية كالمغرب، والسعودية وإيران وغيرها.

* أوروبا الكاثوليكية
تفرض إيطاليا الكاثوليكية رقابة كبيرة على النواحي الدينية داخلها، فحتى سبعينات القرن الماضي، لم يكن بإمكان الكهنة البروتستانت إجراء قداس الزواج في إيطاليا. فقد كان الكهنة الكاثوليك هم من يمتلكون الحق في ذلك، وليس بإمكان البروتستانت فسخ عقود زواجهم إذا ما أقر من الكنيسة الكاثوليكية. وبالإضافة إلى هذا، يسجل القانون الإيطالي حتى الآن، تضاعف مستوى العدائية ضد الإكليروس البروتستانتي. ونجد أن الإذاعة والتلفزة الحكوميتين تبثان أسبوعيا، ساعات عدة من البرامج الكاثوليكية. أما البروتستانت، فلا يمنحون إلا 20 دقيقة أسبوعية في الإذاعة، و15 دقيقة فقط في التلفزة.
أما بالنسبة لبلجيكا، فقد عملت على محاربة الطائفة المسيحية المعروفة بشهود يهوه، وهي طائفة مسيحية لا تعترف بالطوائف المسيحية الأخرى، ويتميز اتباعها بوعظهم التبشيري الدءوب، بالذهاب إلى أصحاب البيوت، وعرض دروس بيتية مجانية في الكتاب المقدس، ورفضهم لمظاهر الاحتفالات التي يزاولها أغلب المسيحيين بميلاد المسيح. كما أنهم لا يؤمنون بالثالوث ولا بشفاعة القديسين، ولا بنار الهاوية كوسيلة لتعذيب الأشرار. وهي طائفة انبثقت في الولايات المتحدة الأميركية، وجرى تجريم الانتماء لها سنة 1974. وكانت الشرطة تعمل على تعنيفهم بقسوة. أما إسبانيا فقد أصدرت سنة 1992 قانونا يسمح بالتعددية الدينية، ووسعت من مساهماتها المالية تجاه كل التيارات الدينية. هذه الملاحظات حول الاحتكارات والسياسات التوجيهية للدين، تتنافى بشكل كبير مع شعارات الدولة العلمانية، التي يشاع أنها توارت ورفعت أيديها عن المجال الديني في الغرب.

* أوروبا البروتستانتية
في الدول البروتستانتية، يوجه إكليروس الكنائس الأمور حسب مرادهم. فالجانب الديني مؤطر بقوانين ملكية، بصفة الملك راعي الكنيسة الذي يعين رؤساء الأساقفة والأساقفة. وكما هو معلوم، يولد المواطنون السويديون منتمين بالوراثة إلى الكنيسة. أما في إسكندنافيا فتهيمن شروط مشابهة، إذ إن للبرلمان الدنماركي سلطة واسعة على الكنيسة.
أما آيرلندا فتظهر فيها مستويات عليا من الدين المنزلي. كما أن الاعتقاد في خلود الأرواح شائع. يتصرح 75 في المائة من السكان باعتقادهم في الله. في حين يكشف 1 في المائة فقط، عن إلحاده. وباستثناء النرويج والسويد، فإن أغلب أفراد كل دولة تطبعهم سمات الشخصية المتدينة. كما أن اختلافات التدين الشخصي بين الدول المعلمنة والدول الورعة، أقل بكثير مما يأمله منظرو العلمنة. ففي الدول السبع، يعتقد معظم الناس في حياة بعد الممات، ويرون أن الكتاب مقدس موحى من الله، أما الثلث فهم فقط الذين يعدون أنفسهم غير متدينين.
يمكن أن نستنتج من كل هذا أن العلمانية كفكرة، تحتاج اليوم إلى مراجعة، وإلى تخليصها مما علق بها من طبقات مترسبة من الأوهام، حتى أصبحت حقيقة لا مناص من التعلق بها، ما دام أن الواقع اليوم، يفرض علينا الفحص النقدي لهذه الفكرة، حتى لا تبقى حقائق ووثوقيات لا يتسلل الشك إليها.

*أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي، المغرب.



مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي
TT

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب وهم: محمد شوقي الزين: صُورَةُ النُّخَب وجَدَل الأدْوَار. محمد الرميحي: المجتمع الخليجي وصناعة النخب: الوسائل والصعوبات! موليم العروسي: صناعة النخب وآلياتها. علي الشدوي: مواد أولية عن النخبة السعودية المؤسّسة. ثائر ديب: روسيا مطلع القرن العشرين وسوريا مطلع الواحد والعشرين: إنتلجنسيا ومثقفون.

أما حوار العدد فكان مع المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر (أجراه أحمد فرحات) الذي يرى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يحل محل نظيره سايكس بيكو القديم، مطالباً بالانتقال من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. المفكر فهمي جدعان كتب عن محنة التقدم بين شرط الإلحاد ولاهوت التحرير. وفي مقال بعنوان: «أين المشكلة؟» يرى المفكر علي حرب أن ما تشهده المجتمعات الغربية اليوم تحت مسمى «الصحوة» هو الوجه الآخر لمنظمة «القاعدة» أو لحركة «طالبان» في الإسلام. ويحكي الناقد الفلسطيني فيصل دراج حكايته مع رواية «موبي ديك». ويستعيد الناقد العراقي حاتم الصكر الألفة الأولى في فضاء البيوت وأعماقها، متجولاً بنا في بيته الأول ثم البيوت الأخرى التي سكنها.

ويطالع القارئ عدداً من المواد المهمة في مختلف أبواب العدد. قضايا: «تلوين الترجمة... الخلفية العرقية للمترجم وسياسات الترجمة الأدبية». (عبد الفتاح عادل). جاك دريدا قارئاً أنطونان أرتو (جمال شحيّد). عمارة: العمارة العربية من التقليدية إلى ما بعد الحداثة (عبد العزيز الزهراني). رسائل: أحلام من آبائنا: فيث أدييلي (ترجمة: عز الدين طجيو). ثقافات: خوليو كورتاثر كما عرفته: عمر بريغو (ترجمة: محمد الفحايم). عن قتل تشارلز ديكنز: زيدي سميث (ترجمة أماني لا زار). سيرة: أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة (سيد محمود). اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل: خاومي نافارو (ترجمة: نجيب مبارك). رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم (عبادة تقلا). الأدب والفلسفة: جان لويس فييار بارون (ترجمة حورية الظل). بواكير الحداثة العربية: الريادة والحداثة: عن السيَّاب والبيَّاتي (محمَّد مظلوم). بروتريه: بعد سنوات من رحيله زيارة جديدة لإبراهيم أصلان (محمود الورداني). تراث: كتاب الموسيقى للفارابي: من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد (أحمد السعيدي). فيلسوفيا: فيليب ماينلاندر: فيلسوف الخلاص (ياسين عاشور). فضاءات: «غرافيتي» على جدران الفناء (هاني نديم).

قراءات: قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي (أسامة الحداد). «القبيلة التي تضحك ليلاً»: تشظي الذات بين المواجهات النسقية (شهلا العجيلي). مختارات من الشعر الإيراني المعاصر (سعد القرش). نور الدين أفاية ومقدمات نقد عوائق الفكر الفلسفي العربي الراهن (الصديق الدهبي). تشكيل: تجربة التشكيلي حلمي التوني (شريف الشافعي). تشكيل: غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة (حوار هدى الدغفق). سينما: سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائماً هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين (سمير قسيمي). الفلسفة فناً للموت: كوستيكا براداتان (ترجمة أزدشير سليمان). ماذا يعني ألا تُصنف كاتب حواشٍ لأفلاطون؟ (كمال سلمان العنزي). «الومضة» عند الشاعر الأردني «هزّاع البراري» (عبد الحكيم أبو جاموس).

ونقرأ مراجعات لعدد من الكتب: «جوامع الكمد» لعيد الحجيلي (أحمد الصغير). «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس (حسين عماد صادق). «أنا رسول بصيرتي» لسيد الجزايرلي (صبحي موسى). «طبول الوادي» لمحمود الرحبي (محمد الراشدي). «عقلان» لمحمد الشجاع (محمد عبد الوكيل جازم)

وكذلك نطالع نصوصاً لشعراء وكتاب قصة: برايتون (عبد الكريم بن محمد النملة). في طريق السفر تخاطبك النجوم: أورهان ولي (ترجمة: نوزاد جعدان). بين صحوي وسُكْرها (سعود بن سليمان اليوسف). خرائطُ النُّقصان (عصام عيسى). الغفران (حسن عبد الموجود). أنتِ أمي التي وأبي (عزت الطيرى).