المنطقة الآمنة.. الحل السحري التركي للأزمة السورية

دونها عقبات كبيرة أبرزها ممانعة واشنطن

المنطقة الآمنة.. الحل السحري التركي للأزمة السورية
TT

المنطقة الآمنة.. الحل السحري التركي للأزمة السورية

المنطقة الآمنة.. الحل السحري التركي للأزمة السورية

منذ اتضحت نية اعتماد النظام السوري القمع الدموي للثورة الشعبية التي تفجّرت في درعا خلال مارس (آذار) 2011 طرحت أوساط عدة فكرة إنشاء «ملاذات آمنة» تحمي النازحين من جهة، وتشجع حدوث مزيد من الانشقاقات في جيش النظام ومؤسساتها الحكومية – ولا سيما الأمنية – وكان الكلام يتركز على منطقتين اثنتين هما شمال سوريا على الحدود مع تركيا، وفي الجنوب السوري على الحدود مع الأردن. ومن ثم، تكرّرت الدعوات إلى إنشاء مثل هذه الملاذات مع تصعيد النظام مستوى قمعه، وتدرجه من القصف المدفعي إلى الأسلحة الكيماوية، ومنها إلى البراميل المتفجرة. ولكن مرة تلو المرة رفضت الولايات المتحدة الدعوات بذرائع مختلفة وأجهضت أي مسعى يجسّد توجهات جدية لإنشاء الملاذات. وفي نتيجة الأمر، أضعف الموقف الأميركي السلبي زخم الثورة، بينما انغمست كل من إيران وروسيا علانية بتقديم كل أشكال الدعم التسليحي والتجهيزي والبشري لقوات النظام المتهالكة في مختلف الجبهات. وفي ما يلي نتطرق إلى اللغط الذي تزايد في الآونة الأخيرة عن إنشاء «منطقة آمنة» في ريف حلب الشمالي، تجول دون اجتياح تنظيم داعش المنطقة.

تراجع الحديث في تركيا عن «المنطقة الآمنة» التي يقال إن أنقرة اتفقت مع الولايات المتحدة على إنشائها في منطقة عند الحدود السورية بامتداد على مسافة 100 كيلومتر وبعمق يصل إلى 45 كلم، لكن هذا لا يعني أن تركيا تراجعت عن هذا المشروع الذي لوّحت به منذ بدء الأزمة السورية كخيار مثالي بالنسبة لأمن تركيا ولدعم المعارضين السوريين الذين انحازت أنقرة إلى صفهم بعد أن يئست من تجاوب النظام السوري مع طروحاتها ووساطاتها.
وتعتبر المنطقة الآمنة في الشمال السوري بمثابة «الحل السحري» من وجهة النظر التركية، ولهذا تطرحها في كل مفصل من مفاصل الأزمة، من دون أن تلقى تجاوبًا دوليًا، وخصوصًا من قبل الولايات المتحدة الأميركية. ويقول الناطق بلسان رئاسة الجمهورية التركية إبراهين قالن، إنه «لا توجد معادلة سحرية لإنهاء الحرب على الفور، ولكن ثمة قطعة في اللغز من شأنها أن تنقذ حياة الأبرياء وإجبار نظام بشار الأسد على القدوم إلى طاولة المفاوضات ضمن إطار (جنيف واحد) و(جنيف اثنين). والقطعة هي إنشاء منطقة آمنة في شمال سوريا يفرض فيها حظر للطيران لحمايتها، وهو الاقتراح الذي تقدّمت به تركيا منذ عدة سنوات». واعتبر أن مقترح المنطقة العازلة «أصبح اليوم أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى في ظل الانتهاكات المستمرة لنظام الأسد بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة، أضف إلى ذلك توسع (داعش) في المنطقة بأسرها».
غير حسابات الحقل التركية، لا تتطابق مع حسابات البيدر الأميركي. ومن يشهد الجدل التركي – الأميركي غير المباشر، الذي دار في الأسابيع الأخيرة يدرك هذا التباين. فالأميركيون سارعوا في أكثر من مناسبة إلى نفي تصريحات تركية عن التوصل إلى اتفاق على إنشاء «منطقة آمنة» في الشمال السوري. فما يكاد مسؤول تركي يتحدث في الموضوع، حتى ينبري مسؤول أميركي إلى النفي. ويقول مصدر في «الائتلاف الوطني السوري» المعارض لـ«الشرق الأوسط» إن الأمور كانت قبل 10 أيام في طور النقاش بين الأميركيين والأتراك، وتوصلوا بالفعل إلى اتفاقات على منع وجود عناصر لقوات «وحدات حماية الشعب» الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، غرب نهر الفرات، لكنه أشار إلى «نقاط خلافية لا تزال عالقة بين الطرفين، تتمحور حول تفاصيل دور كل طرف والتزاماته ونقاشاته حول القضية».
ويشير المصدر إلى أن الأميركيين بشكل عام «لم يبدوا حماسة في البداية لإنشاء المنطقة الآمنة، في وقت كان الأتراك يدفعون لإنشائها»، لافتًا إلى أن واشنطن «دعمت المقترح التركي في النهاية، ووجدت ضرورة في عدم ترك تركيا وحيدة، بسبب المعادلة الإقليمية التي تتضمن تنامي نفوذ إيران في المنطقة». وإذ يؤكد أن قرار إنشاء المنطقة الآمنة «هو قرار دولي أولاً وأخيرًا، وليس قرارًا محليًا»، يشير المصدر نفسه إلى «عقبات وصعوبات أرجأت التنفيذ إلى وقت محدد، لكنها لم تلغه».
هذا المشهد لا يتطابق مع رؤية العسكريين الذين يرون أن إنشاء المنطقة الآمنة «لم يعد حاميًا»، وذلك على ضوء «تمدد تنظيم داعش أكثر في الريف الشمالي لحلب»، كما يقول مصدر عسكري معارض لـ«الشرق الأوسط»، مشيرًا إلى أن مقاتلي «الجيش السوري الحر» خاضوا معارك عنيفة مع «داعش»، أسفرت عن تقدم التنظيم في محيط بلدة مارع «من غير تدخل من طائرات التحالف ضد التنظيم المتطرف، أو تدخل المدفعية التركية علمًا بأن مناطق الاشتباك هي ركن من جغرافيا المنطقة الآمنة». ويعرب عن مخاوفه من أن يكون تنفيذ المنطقة الآمنة «دخل مرحلة التوقف المؤقت، في ظل انعدام المساندة الحقيقية للثوار»، وسط معلومات تتحدث عن تراجع الدعم لـ«الجبهة الشامية» المقرّبة من الأتراك.
وأكد مصدر سوري معارض لـ«الشرق الأوسط» أن مسألة وجود «جبهة النصرة» في المنطقة الآمنة المرتقبة، كاشفًا عن أن «جبهة النصرة» أخلت منذ أيام آخر قواعدها فيها، وسلمتها للواء السلطان مراد الذي دخل عبر الأراضي التركية. وأشار المصدر إلى أن هذا الفصيل المعارض «مرشح للعب دور بارز في حماية المنطقة الآمنة». لكن المصدر نفسه أكد وجود تباينات حقيقية في الموضوع بين أنقرة وواشنطن، موضحًا أن الخلاف يتركز على الجهة التي سوف تحمي المنطقة. وشرح: «هناك جدال عميق بين الطرفين، وهناك تحفظات حقيقية لدى الجانب الأميركي»، مشيرًا إلى أن الأميركيين أبلغوا الأتراك أنهم لن يوفروا غطاءً جويًا إلا للفصائل التي درّبوها، وبالتالي يضع الأميركيون «فيتو» غير مباشر على الموضوع، على اعتبار أن عدد المقاتلين المدربين من قبل الأميركيين قليل جدًا. كذلك أشار إلى تباين آخر يتعلق بجماعة «أحرار الشام» التي ترى أنقرة لها دورًا محوريًا في هذه المنطقة، في حين يصر الأميركيون على تحفظهم بشأنها».
وفي المقابل، قال مصدر في الحكومة السورية المؤقتة لـ«الشرق الأوسط»، إن العمل جارٍ على قدم وساق من الجانب السوري (المعارض) بشأن المنطقة الآمنة. وأوضح المصدر أن ثمة قوة مؤلفة من 635 مقاتلاً تم إعدادها لتكون نواة القوة التي ستحمي مؤسسات المعارضة، مشيرًا إلى أن هؤلاء يأتمرون بأمر الحكومة المؤقتة، ورئيس الأركان في وزارة الدفاع فيها.
وعلى الرغم من الاندفاع التركي بهذا الخصوص، فإن خبراء أتراكًا يشكّكون بإمكانية قيامها. إذ يوضح الخبير العسكري التركي تركار إيرترك، وهو أميرال متقاعد، لـ«الشرق الأوسط» أنه «من الصعب أن تقوم تركيا بعمليات عسكرية حقيقية وموجعة ضد (داعش) و(جبهة النصرة) لأنها تعرف ما يمكن أن تفعله تلك التنظيمات» مبرّرًا ذلك بأنه حسب الأرقام الرسمية للدولة فإنه يوجد الآن مليون ونصف مليون سوري و500 ألف عراقي على الأراضي التركية، وهؤلاء منتشرون في المدن التركية». ويشرح أنه «يوجد بين هؤلاء المواطنون المتضررون فعليًا الذين يريدون اللجوء من أجل البقاء على قيد الحياة، ولكن يوجد بينهم من ينتمي إلى المنظمات الراديكالية مثل (داعش) و(جبهة النصرة)، وهذا يعني أنه يوجد المئات من الخلايا النائمة الآن في تركيا».
ثم يشير إيرترك إلى «بروتوكول إنجيرليك» الذي وقّع أخيرًا بين الولايات المتحدة وتركيا، والذي ينص على «تنظيف» منطقة طولها 100 كيلومتر وعمقها 45 كيلومترًا من مقاتلي «داعش» مقابل أن يستخدم الأميركيون المطارات الحربية التركية وعلى رأسها قاعدة إنجيرليك»، مستطردًا أن «الهدف الحقيقي للولايات المتحدة من تطهير هذه المنطقة من (داعش) هو وصل الكانتونات الكردية بعضها ببعض بداية من الشرق حتى تصل إلى جرابلس غربًا، أو بمعنى آخر هو ربط عين العرب بجرابلس ومن ثم الاستمرار في الاتجاه غربًا إلى أن يصلوا إلى عفرين، ومنها إلى مياه المتوسط»، محذرًا من أن اتفاق إنجيرليك هو خطوة خطيرة على طريق تأسيس كيان في سوريا مشابه للكيان في شمال العراق». ورأى أيضًا أن «الولايات المتحدة تختلف في الأهداف عن تركيا التي تريد أن تقيم منطقة آمنة لكي تحد من الهجرة إلى تركيا، بينما واشنطن تهدف إلى شيء آخر، ولهذا لن تسمح بقيام هذه المنطقة. ولقد أعلنت في أكثر من مناسبة أنها لم تتفق مع تركيا على إنشاء منطقة عازلة وأنها فقط تعلن أنها تريد أن تطهر المنطقة من (داعش)».
وفي اعتقاد إيرترك أن «التدخل العسكري التركي المباشر غير ممكن لأن الولايات المتحدة تعارض دخول الجيش التركي إلى الأراضي السورية، كما أن قادة القوات التركية يرفضون دخول الأراضي السورية لأن المؤسسة للعسكرية في تركيا لا تريد دخول مستنقع الشرق الأوسط الذي سيترتب علية نتائج غير محمودة يمكن أن تستمر لعدة عقود».
وفي المقابل، ثمة مقاربة مختلفة للخطوات التركية، يتحدث عنها الدكتور سفاش غينتش، الأكاديمي والباحث في قسم العلاقات الدولية في جامعة الفاتح، الذي يعتبر أن «الموضع لا يتعلق بما يجري في سوريا، بل بالنتائج التي أسفرت عنها انتخابات 7 من يونيو (حزيران) الماضي في تركيا». وفي حوار مع «الشرق الأوسط» قال غينتش: «بعدما استطاع حزب ديمقراطية الشعوب أن يصبح حزبًا يحصل على أصوات الأكراد والأتراك وباقي الإثنيات في تركيا عاد شبح الإرهاب للظهور في تركيا من جديد»، متهمًا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بأنه «عمل كل ما في وسعه للحيلولة دون تشكيل حكومة ائتلاف لأنه لا يريد أن يشارك أي حزب آخر في السلطة». وحسب غينتش فإن ما تقوم به تركيا راهنًا في الحرب على داعش «هو فقط لذرّ الرماد في العيون لأن تركيا ترى كلاً من (داعش) و(جبهة النصرة)، وغيرهما من التنظيمات المتطرفة في سوريا قريبة أو حليفة لها على أساس عدو عدوي (أي النظام السوري) صديقي، كما أن (داعش) يعتبر عدوًا لحزب الاتحاد الديمقراطي الذراع السورية لتنظيم (ب ك ك) الكردي في سوريا. أي العداء مشترك لهذا التنظيم بين تركيا و(داعش)». ويضيف الباحث التركي ملاحظًا أن الحكومة التركية «تحاول إقناع الرأي العام بأنها تحارب إرهاب (ب ك ك) ولا تريد أن تفتح جبهة ضد (داعش) لأن (داعش) قد يشن إذ ذاك عمليات موجعة داخل تركيا».
ووفق غينتش فإن «الولايات المتحدة مصرّة على رفض إنشاء منطقة آمنة من دون تدخل قوات مشاة على أساس أنه لا يمكن التحكم بالمنطقة من دون وجود جنود على أرض الواقع». ويلفت إلى أن «العقبات التي ظهرت في وجه برنامج التدريب الأميركي (للمعارضة السورية) عقّدت الأمور»، معربًا عن اعتقاده أن المنطقة الآمنة «لن ترى النور لأن الولايات المتحدة لا تريدها».
وفي المقابل، يعترف جيم كوجك، الكاتب في جريدة «يني شفق» الموالية بوجود «خلافات بين الإدارة الأميركية والقيادة التركية» ويقول إن هذه الخلافات «لم تبدأ مع الربيع العرب، وإنما عام 2003 عندما رفض البرلمان التركي أن تستخدم قوات التحالف بقيادة واشنطن استخدام الأراضي التركية لاحتلال العراق والإطاحة بحكم صدام حسين».
ويتابع كوجك في حديث لـ«الشرق الأوسط» مفصلاً أن «تركيا تنظر إلى المنطقة من منطلق الحريات والإرادة الشعبية، بينما تنظر الولايات المتحدة إلى المنطقة من خلال مصالحها فقط.. وبعد الربيع العربي كانت مواقف البلدين متفقة في ما جرى في تونس ومصر وليبيا، ومن ثم في سوريا، غير الخلافات سرعان ما دبّت بعد الانقلاب العسكري (التغيير بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي) في مصر». ويذكر كوجك أن أنقرة ما زالت تدعم حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي في مصر، بينما «عدلت الولايات المتحدة ومعها الدول الغربية عن مواقفهما وأيّدوا السيسي، وكذلك عدلت الولايات المتحدة عن الوقوف إلى جانب الإرادة الشعبية في سوريا»، معتبرًا أن واشنطن «لا يضيرها سواءً رحل الأسد أم بقي في الحكم».
كوجك يشدد على أن موضوع المنطقة الآمنة «مهم جدًا وحساس جدًا بالنسبة لتركيا، وخاصة أن الاشتباكات في سوريا والعراق أدت إلى هجرة مئات الآلاف من تلك البلدين إلى تركيا. كذلك يوجد بين هؤلاء اللاجئين الصالح والطالح والمواطن العادي المسكين الذي يريد أن ينجو بنفسه والمدسوسون من الإرهابيين أو من عناصر المخابرات». ثم يقول: «تركيا تريد من خلال إنشاء هذه المنطقة الآمنة أن تتحقق من هوية القادمين إلى أراضيها، وأن تتحكم أيضًا في عدد المهاجرين لكي تحافظ على أمنها القومي.. أما الآن فيوجد أكثر من مليوني نازح سوري على الأرضي التركية، مع العلم بأن جزءًا من الذين نزحوا بعدما سيطر (داعش) على بلدة عين العرب عادوا إلى أراضيهم، وأيضًا عاد معهم آلاف من الشباب الكردي التركي، ولقد جرى تدريبهم على السلاح من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي جناح (ب ك ك) في سوريا، وهذه معضلة ثانية فلو كانت هذه المنطقة (آمنة) حقًا لما كان بإمكان شباب تركيا الدخول والخروج بكل هذه البساطة إلى سوريا».
وحسب كوجك «كانت واشنطن في البداية تؤيد إنشاء مثل هذه المنطقة، ذلك أن الأميركيين كانوا ينوون إقامة المنطقة قبل 3 سنوات عندما استخدم بشار الأسد الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين. ولكن عندما تحوّل الاتحاد الديمقراطي حليفًا (أي واشنطن) لها بدأت بالتخلي عن فكرة المنطقة الآمنة. واشنطن تقيّم الخطوات التي تقوم بها حسب منطقها ورؤيتها للتطوّرات ولكن هذه الرؤية لا تتماشى مع المصالح والأمن القومي التركي». ويردف أن «تركيا حاولت تغيير مجريات الأحداث في سوريا عن طريق إنشاء المنطقة العازلة، ولكن الأميركيين لم يشجعوا الخطة التركية». وعن احتمالات المستقبل على هذا الصعيد يقول كوجك: «لدينا مع سوريا حدود بطول 900 كلم، وهي حدود من الصعب التحكم بها ولعلها تشبه الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وبالتالي، فإن إنشاء هذه المنطقة داخل الأراضي التركية لن يجدي أي نفع، لأنه في حال جعل هذه المنطقة داخل الأراضي التركية فإن تركيا ستكون إذ ذاك مضطرة لقبول جميع القادمين إلى أراضيها ومضطرة للسماح لهم بحرية التنقل داخل الأراضي التركية، ولهذا تصر تركيا على إنشاء هذه المنطقة على الأراضي السورية».
وردًا على الاتهامات بأن تركيا تدعم تنظيم داعش وتسلّحه، يؤكد كوجك أنه «لا يوجد أي دليل قاطع لإثبات الادعاءات»، متابعًا: «تركيا أعلنت تنظيم داعش منظمة إرهابية فكيف لها أن تدعمه؟ وهي الآن من أكثر الدول فعالية في الحرب على (داعش)، ثم إن واشنطن تمتلك أحدث وأدق أجهزة التجسس والاستخبارات في العالم، كما تمتلك القدرة على اختراق جميع أنظمة الدول، فلماذا لم تبث أو تعلن عن أي وثيقة أو صور لعلاقة تركيا بداعش.. الجواب بسيط لأن تركيا لا يوجد لها أي علاقة لا من قريب ولا من بعيد بداعش».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.