هل يثير المتطرفون البوذيون رد فعل «إسلامويًا» في جنوب آسيا وشرقها؟

محنة الروهينجيا وأزمة فطاني تسلطان الضوء على المخاطر في هذه المنطقة

هل يثير المتطرفون البوذيون رد فعل «إسلامويًا» في جنوب آسيا وشرقها؟
TT

هل يثير المتطرفون البوذيون رد فعل «إسلامويًا» في جنوب آسيا وشرقها؟

هل يثير المتطرفون البوذيون رد فعل «إسلامويًا» في جنوب آسيا وشرقها؟

بينما كانت الشرطة التايلاندية لا تزال تحاول فك طلاسم الهجمة الإرهابية الأخيرة التي وقعت خارج أحد المعابد البوذية الأسبوع قبل الماضي، في وسط المنطقة التي تهيمن عليها الأغلبية البوذية في جنوب البلاد، حاولت جريدة «الشرق الأوسط» تحليل أسباب اتساع فجوة التعايش بين المسلمين والبوذيين في منطقة حوض خليج البنغال بجنوب آسيا. هذه المنطقة تعد من أهم التجمّعات البشرية البوذية في العالم، ذلك أنه يعيش في دولها أكثر من 120 مليون نسمة، ويتوزّع هؤلاء على دول يشكل البوذيون غالبية سكانها، مثل تايلاند وميانمار (بورما) وسري لانكا.
ميانمار، كما هو معروف، شهدت في الآونة الأخيرة أحداث عنف خطيرة للغاية بين البوذيين والمسلمين في جنوب آسيا، وحقًا ركّزت وسائل الإعلام العالمية على نطاق كبير على جرائم الإبادة التي تعرّض لها المسلمون الروهينجيا في ولاية راخين بالبلاد. ويمكن، من واقع القصص المرعبة المتواترة والموثقة عن اعتداءات البوذيين على المسلمين الروهينجيا، اعتبار ما حدث ويحدث من أسوأ «المحارق» البشرية في العصر الحديث.
غالبًا ما ترتبط البوذية بالتأمل والهدوء النفسي. ومن بين المبادئ الأخلاقية التي يتلقنها الرهبان البوذيون وتزرع في أفئدتهم يأتي رفض القتل على رأسها جميعًا، كذلك يعتبر مبدأ اللاعنف من المبادئ المحورية في العقيدة البوذية أكثر منه في أي ديانة أخرى. ولكن، خلال السنوات الأخيرة، تنامت الأصولية البوذية وعاشت حالة تصاعد في التطرّف غير مسبوقة.
لماذا صار الرهبان البوذيون اليوم ميالين لاستخدام خطاب الكراهية والعنف ضد المسلمين؟

متطرّفو ميانمار وسري لانكا

جغرافيًا، تفصل ميانمار عن سري لانكا مسافة تزيد على أكثر من ألف ميل بحري في المحيط الهندي، ومع هذا شهدت الدولتان في وقت واحد، تقريبًا، تصاعدًا ملموسًا في نشاط الجماعات البوذية المتطرفة. ومن اللافت، بل من المحيّر في الأمر أن الدولتين لا تعيشان، في المقابل، تصاعد وتيرة التشدد الإسلامي كما هو الحال في دول أخرى. فالمسلمون في الدولتين يشكلون أقلية صغيرة، ومسالمة بصفة عامة.
في الدولتين بدأت الجماعات المتطرّفة على شاكلة جماعة «969» وجماعة «ماباثا» (وهي منظمة حديثة التأسيس من الرهبان البوذيين الذين يشيرون إلى أنفسهم بصفة جماعية بأنهم «منظمة حماية العرق والدين») في ميانمار، وجماعة «بوذو بالا سينا» – أو «القوة البوذية» – في سري لانكا، بدأت في الظهور على الساحة منذ عام 2012، وهي ناشطة في ترويج إيديولوجيات ومفاهيم عنيفة أسفرت عن مئات القتلى في سري لانكا وعما يصفه البعض بـ«الإبادة الجماعية» في غرب ولاية راخين بميانمار.
من جهة أخرى، فإن التفسير التاريخي لاختيار المتطرفين البوذيين الميانماريين الرقم 969 يبدو مثيرًا للاهتمام، ذلك أنه وفق تأجيجهم العدائي يرمز إلى البوذية في مواجهة الرقم 786 المستخدم من جانب المسلمين في أعمالهم للإشارة إلى النبي محمد وفق «حساب الجمّل» لأحرف البسملة. والسبب في الرقم 969 وأهميته للبوذيين المتطرفين هو أن الرقم 9 الأول يرمز إلى الصفات التسع الخاصة والاستثنائية لبوذا، والرقم 6 الصفات الاستثنائية الخاصة لتعاليمه (الذارما)، والرقم 9 الثاني يرمز إلى الصفات الخاصة الاستثنائية للرهبان البوذيين (السانغا).
وفي لقاء لنا مع الدبلوماسي الهندي السابق إس. دي. موني، الذي عمل في سري لانكا، فإن جماعة «بوذو بالا سينا» تشكلت فقط عام 2012، لكنها مع ذلك لعبت دورًا محوريًا في إذكاء روح التطرف والعنف ضد المسلمين. وبالإضافة إلى دورها البارز والنشط في سياسات سري لانكا، ارتبطت هذه الجماعة المتطرفة بعلاقات بجماعات بوذية متطرفة مثلها في اليابسة الآسيوية، وعلى الأخص، في ميانمار. وفي العام الماضي سافر الراهب البوذي المتطرّف آشين ويراثو، أبرز قادة جماعة «969» في ميانمار، إلى سري لانكا العام الماضي على مرأى ومسمع من مختلف وسائل الإعلام للتوقيع على معاهدة مع جماعة «بوذو بالا سينا»، تهدف في ظاهرها إلى حماية العقيدة البوذية العالمية. وفي المقابل، قام غالاغودا غناناسارا، المؤسس المشارك لـ«بوذو بالا سينا» بدوره بزيارة إلى ميانمار. وتقول الجماعتان إنه حتى إذا سادت العقيدة البوذية في بلديهما، فهي لا تزال تحت التهديد بصورة عامة، وأنهما وقعتا على «مذكرة تفاهم» بشأن تشكيل تحالفات على مستوى قارة آسيا لحمايتها.
وبالفعل، عملت الزيارات المتبادلة على تعميق العلاقات بين أولئك الذين يعتبرون أنفسهم حراس العقيدة البوذية، ويسيطرون على «الحالة الإيمانية» البوذية ليس في كمبوديا وتايلاند وفيتنام ولاوس وميانمار وسري لانكا فحسب، بل في اليابان والصين أيضًا.
ولكن ثمة من يلفت إلى أن أحداث العنف التي يقودها بوذيون ليست جديدة تمامًا ولا هي فريدة من نوعها خلال السنوات القليلة الماضية، ويشير هؤلاء إلى الحركة البوذية المتشدّدة التي انخرطت في أحداث عنف مناهضة للحكومة في فيتنام الجنوبية (سابقًا) بين عامي 1963 - 1965. وفي بعض الحالات، يرى البعض أن أعمال العنف قد تكون مجرّد دليل على اليأس التام، ففي الصين، أقدم 130 راهبًا بوذيًا على الانتحار حرقًا في حالة احتجاج ضد الحكم الصيني لإقليم التبت.
أيضًا شهدت تايلاند عدة دعوات رهبانية بوذية بارزة لأعمال العنف. فخلال عقد السبعينات من القرن الماضي، طرح رهبان بوذيون مثل فرا كيتيووثو مقولة «إن قتل الشيوعيين لا يعد انتهاكًا لأي من التعاليم البوذية». ولاح الجانب «العسكري» العنيف من البوذية التايلاندية مرة أخرى في عام 2004 عندما تجدّد تمرّد المسلمين (وجلهم من المالاي؛ أي الملايو) في جنوب تايلاند، ولا سيما، في إقليم فطاني. ومنذ يناير (كانون الثاني) 2004، حولت الحكومة التايلاندية الأديرة البوذية في المنطقة إلى مواقع عسكرية وكلفت الرهبان البوذيين العسكريين بالخدمة لديها وأوكلت إليهم مهام دعم الميليشيات (أو فرق الحراسة) البوذية المحلية. ونجم عن تصاعد تمرّد مسلمي جنوب تايلاند تأسيس منظمة بوذية أصولية لكنها لا عنفية تعرف باسم «مؤسسة معرفة بوذا»، تدعو إلى اعتماد قانون للتجديف و«نشر المفاهيم والأخلاق البوذية» في المجتمع التايلاندي.
أما في اليابان، فلقد كان كثيرون من فرسان «الساموراي» تابعين مخلصين للعقيدة «البوذية الزنّية» (وهي مزيج من مذهب الماهايانا البوذي المنتشر في الهند والديانة التاوية، ولقد انطلقت من الصين وانتشرت في اليابان وكوريا). وكانت «البوذية الزنّية» تبرر اللجوء إلى العنف إذا كانت الغاية سليمة، وترى مثلاً أن قتل رجل على وشك ارتكاب جريمة مروعة عمل طيب ورحيم. وفيما بعد أدى تجدد ظهور هذا النوع من التفكير المسوّغ للعنف عندما أخذت اليابان تعد العدة لخوض الحرب العالمية الثانية.
عودة إلى آشين ويراثو، الراهب الميانماري المتطرف، فعندما وضعت مجلة «تايم» الأميركية صورته على غلافها ووصفته بعبارة «وجه الإرهاب البوذي»، لم تخرج 4 آلاف نسخة من المجلة خارج حدود مطار باندارانايكه الدولي في كولومبو عاصمة سري لانكا. ولكن ويراثو قال في ذلك العدد من المجلة معبرًا عن عدائه للمسلمين: «إن المسلمين يتكاثرون بسرعة كبيرة، وهم يسرقون نساءنا ويغتصبونهن. إنهم يودّون احتلال بلادنا، لكنني لن أسمح لهم بذلك. لا بد من الحفاظ على بوذية ميانمار». هذا ولقد مُنع بصورة رسمية توزيع ذلك العدد من «تايم» في ميانمار أيضًا.
وصف ويراثو للمسلمين تتبناه واقعيًا جماعات «بوذو بالا سينا» و«ماباثا» و«969» والجماعات الثلاث تعتبر المسلمين الأعداء والأشرار الرئيسيين في البلاد، وهذا على الرغم من أن عداء هذه الجماعات للمسيحيين والهندوس يبدو واضحًا أيضًا في بعض المناطق. وتقول الصحافية الهندية نيروباما سوبرامانيان، التي عملت على تغطية أخبار سري لانكا على نطاق واسع وكانت لها بعض الجولات في ميانمار أيضًا، «تدعو خطب ويراثو، التي يسهل الحصول عليها عبر شبكة الإنترنت أو على الأقراص المرصوصة (المدمجة) في المتاجر، إلى مقاطعة المتاجر والشركات التي يديرها مسلمون»، وتنقل الصحافية الهندية عن الراهب البوذي المتطرف قوله في إحدى خطبه: «إذا ابتعت من متاجر المسلمين، فلن تتوقف أموالك هناك فحسب. بل سوف توجه في النهاية إلى تدمير دينك وعرقك».
ومع أن سري لانكا، بصورة غير متوقعة، أفلحت في انتخاب حكومة جديدة تتعهد بكبح جماح منظمة «بوذو بالا سينا»، وتتهم الحكومة السابقة في عهد الرئيس السابق ماهيندرا راجاباكسه بأنها هي التي كانت توفر الدعم القوي للمنظمة المتطرفة، تقول سوبرامانيان إن الحكومة الجديدة، التي هي على شاكلة سابقتها، تضم الحزب القومي البوذي القوي الذي يبدو متقاعسًا عن مواجهة الرهبان المتطرفين في البلاد.

مناخات وبيئات متشابهة

في الحقيقة، هناك أوجه تشابه مذهلة بين سري لانكا وميانمار، فكلتا الدولتين تضم غالبية بوذية تدعمها الدولة تشكل ما بين 70 و80 في المائة من مجموع تعداد السكان. فسري لانكا خرجت لتوها من عقود طويلة من الحرب الأهلية المدمرة بين مؤسسة السلطة التي تقف على رأسها الغالبية السنهالية البوذية وحركيي الأقلية التاميلية الهندوسية، وخلال هذه الحرب الأهلية، ضغط البوذيون ورهبانهم على الحكومة لاتخاذ مواقف قوية ومتصلبة وعدائية. أما ميانمار فتعاني منذ عدة عقود من الحكم العسكري المقيت. وفي البلدين صبت الغالبية السكانية البوذية خلال الفترة الاستعمارية من حكم البلدين نقمتها على السكان المسلمين الذين عانوا العبء الأكبر من وطأة الحكومات المحلية أو التجاوزات التي كان خلفها المتمردون بعد الاستقلال.
وفي ميانمار وحدها، التي تضم 135 مجموعة عرقية معترف بها في البلاد، جرى تجريد المسلمين الروهينجيا من حق المواطنة. ووفقًا لتقرير حديث صادر عن منظمة «هيومان رايتس ووتش»، فإن نحو 125 ألفًا من الروهينجيا تعرضوا للتشريد والتهجير بالفعل في ولاية راخين؛ مما نجم عنه تدفق مستمر للاجئين، مع العلم، أن المئات منهم يقضون نحبهم في رحلات السفر عبر البحر بسبب الجوع ولأسباب أخرى.

أزمة فطاني في جنوب تايلاند

وفي هذا الشأن يقول باغوات دايال السفير الهندي السابق إلى تايلاند «في حين أن التوترات الطائفية البوذية - الإسلامية في سري لانكا تعود إلى أجندات سياسية قومية وإلى الحرب الأهلية كذلك، فإن التوترات الطائفية البوذية - الإسلامية في تايلاند، المتاخمة لميانمار، تتميز بتاريخ أطول وأعمق. إذ كانت المنطقة التي تضم المحافظات الجنوبية الثلاث جزءًا من المملكة البوذية المعروفة باسم لانغكاسوكا، وخلال فترة تاريخية معينة هيمن البوذيون الجنوبيون على مملكتهم القديمة. ومع ذلك، تحولت تلك المملكة في وقت لاحق إلى مملكة باتاني – أو فطاني – الإسلامية. وراهنًا يعكس الوضع الديموغرافي في جنوب تايلاند ذلك الماضي المتنوع، ذلك أنه في حين يشكل البوذيون 90 في المائة من سكان تايلاند، يشكل المسلمون (ومعظمهم من المالاي) نسبة 85 في المائة من سكان المحافظات الجنوبية الثلاث. وعبر القرون، كافح المسلمون لاستعادة الحكم الذاتي السياسي لمحافظاتهم من حكومة تايلاند المركزية في بانكوك. وكلما كانت الحكومة المركزية ضعيفة، كانت تندلع المقاومة التايلاندية الجنوبية على الفور. ومنذ يناير (كانون الثاني) 2004، وقعت البلاد تحت الأحكام العرفية، وتنتشر أعمال العنف في المنطقة كما يعيش الناس هناك في خوف دائم».
في ضوء هذا الواقع، أظهرت نسبة لا بأس بها من البوذيين في تايلاند دعمها لجماعتي «969» و«ماباثا». ولقد حضر رهبان بوذيون اجتماعات لـ«ماباثا» في ميانمار (بورما) المجاورة وتبرعوا بأموالهم لمساعدة الجماعة على نشر رسائلها وتعاليمها. ويرى كثيرون من التايلانديين بأنه لا ينبغي على بلادهم استقبال قوارب اللاجئين من الروهينجيا، بل يجب على الحكومة التايلاندية طردهم إلى البحر مجددًا. وحسب الكاتب سانجيب بارواه، فإن الساسة «دائمًا ما استخدموا التطرف البوذي لخدمة مصالحهم السياسية، فبعد أقل من عقدين منذ الاستقلال، كانت معظم ميانمار تحت الحكم العسكري الصارم، وانضمت البوذية تحت لواء الجنرال ني وين ومشروعه «الطريق البورمي نحو الاشتراكية» الذي أعقبته عقود من الانعزالية الدولية. أما سري لانكا فظلت لفترة طويلة دولة برلمانية ديمقراطية، ولكن في عام 1956 حقق رئيس الوزراء السنهالي الشعبوي سولومون باندارانايكه نصرًا ساحقًا في الانتخابات، راكبًا موجة الشعبوية البوذية المحلية في البلاد. إلا أن الكثير من زعماء البوذية في العالم مثل ثيتش نهات هانه وبيخو بودي وشودو هارادا، وحتى الدالاي لاما نفسه، أدانوا عمليات العنف ضد المسلمين ودعوا إلى السلام بين الطرفين، ودعم ممارسة المبادئ البوذية الأساسية الداعية إلى رفض إيذاء الآخر، والاحترام والتعاطف المتبادل».
من جهة أخرى، وفق الدكتورة سانتيشري دوليبودي بانديت، المتخصصة في شؤون السياسة والدين «إنهم (أي البوذيون المتطرفون) مثل نظرائهم من المسلمين المتطرفين، يستغلون الدين مبرّرًا لأعمال العنف. ويقول ويراثو إن البوذية عقيدة مسالمة بطبيعتها، إلا أنه من الضروري النزوع إلى العنف من أجل مقاومة التهديد الإسلامي، ولتجنب استئصال الدين المسالم تمامًا، مشيرًا إلى أن النفوذ البوذي التاريخي في وسط آسيا كان موجودًا قبل ظهور الإسلام. إن حجته هشة للغاية، خصوصًا لدى النظر إلى ندرة أعمال العنف من جانب المسلمين أو الجماعات الإسلامية في ميانمار. مع هذا، يدغدغ هذا الكلام مشاعر الجماهير من المتدينين المخلصين والقوميين المتعصبين والملتزمين دينيًا واجتماعيًا. كما أن هناك إحساسًا جليًّا بالانتهازية حيال كثير من لهجة الخطاب التي تستخدمه الجماعات البوذية المتطرفة، وهي مقتبسة مباشرة من الطريقة التي يناقش بها الغرب الدين الإسلامي».
في المقابل، هناك أيضًا دفاع غير مباشر عن التطرف البوذي. إذ يقول الدكتور كلاوديو شيكوزا، عضو هيئة التدريس ومستشار الأبحاث في كلية الآداب والعلوم لدى جامعة ويبستر (فرع تايلاند)، في محاضرة له أخيرًا في الهند: «ثمة نوع من الموضة الدارجة هذه الأيام لإظهار أن البوذية، كدين، على صلة وثيقة بالعنف». ويشير شيكوزا، الذي له عدة مؤلفات حول البوذية، بأصابع الاتهام نحو شريحة من العلماء الذين يميلون إلى إبراز الجانب العنيف من البوذية. وهو يرى أن هناك اليوم كثرة من العلماء، وعلى الأخص من العلماء الغربيين، من يفضلون إبراز اللون الديني للعنف في البوذية.
كيف يمكن معالجة هذا القدر أو ذاك من التطرف؟ يظل سؤالاً كبيرًا بلا إجابة.
إم. كيه. بهادراكومار، الخبير الهندي في الشؤون الدولية، يرى أنه «ليس بمقدور الحكومات المحلية مواصلة إنكار الواقع بل يتوجب عليها الاعتراف بأن المشكلة جد خطيرة. والنتيجة المحتملة لذلك هي وصول الأصولية الإسلامية من الخارج إلى مناطق في جنوب آسيا وشرقها والانخراط في مواجهة مع المتطرفين البوذيين. وحقًا بدأت الجماعات الإسلامية المتشددة تتنبه إلى محنة المسلمين في هذه المناطق، وعمدت بالفعل على تنفيذ هجمات تحمل شعار «الانتقام»؛ مما ينذر بتفاقم الأوضاع إلى مستويات خطيرة».



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».