هل يثير المتطرفون البوذيون رد فعل «إسلامويًا» في جنوب آسيا وشرقها؟

محنة الروهينجيا وأزمة فطاني تسلطان الضوء على المخاطر في هذه المنطقة

هل يثير المتطرفون البوذيون رد فعل «إسلامويًا» في جنوب آسيا وشرقها؟
TT

هل يثير المتطرفون البوذيون رد فعل «إسلامويًا» في جنوب آسيا وشرقها؟

هل يثير المتطرفون البوذيون رد فعل «إسلامويًا» في جنوب آسيا وشرقها؟

بينما كانت الشرطة التايلاندية لا تزال تحاول فك طلاسم الهجمة الإرهابية الأخيرة التي وقعت خارج أحد المعابد البوذية الأسبوع قبل الماضي، في وسط المنطقة التي تهيمن عليها الأغلبية البوذية في جنوب البلاد، حاولت جريدة «الشرق الأوسط» تحليل أسباب اتساع فجوة التعايش بين المسلمين والبوذيين في منطقة حوض خليج البنغال بجنوب آسيا. هذه المنطقة تعد من أهم التجمّعات البشرية البوذية في العالم، ذلك أنه يعيش في دولها أكثر من 120 مليون نسمة، ويتوزّع هؤلاء على دول يشكل البوذيون غالبية سكانها، مثل تايلاند وميانمار (بورما) وسري لانكا.
ميانمار، كما هو معروف، شهدت في الآونة الأخيرة أحداث عنف خطيرة للغاية بين البوذيين والمسلمين في جنوب آسيا، وحقًا ركّزت وسائل الإعلام العالمية على نطاق كبير على جرائم الإبادة التي تعرّض لها المسلمون الروهينجيا في ولاية راخين بالبلاد. ويمكن، من واقع القصص المرعبة المتواترة والموثقة عن اعتداءات البوذيين على المسلمين الروهينجيا، اعتبار ما حدث ويحدث من أسوأ «المحارق» البشرية في العصر الحديث.
غالبًا ما ترتبط البوذية بالتأمل والهدوء النفسي. ومن بين المبادئ الأخلاقية التي يتلقنها الرهبان البوذيون وتزرع في أفئدتهم يأتي رفض القتل على رأسها جميعًا، كذلك يعتبر مبدأ اللاعنف من المبادئ المحورية في العقيدة البوذية أكثر منه في أي ديانة أخرى. ولكن، خلال السنوات الأخيرة، تنامت الأصولية البوذية وعاشت حالة تصاعد في التطرّف غير مسبوقة.
لماذا صار الرهبان البوذيون اليوم ميالين لاستخدام خطاب الكراهية والعنف ضد المسلمين؟

متطرّفو ميانمار وسري لانكا

جغرافيًا، تفصل ميانمار عن سري لانكا مسافة تزيد على أكثر من ألف ميل بحري في المحيط الهندي، ومع هذا شهدت الدولتان في وقت واحد، تقريبًا، تصاعدًا ملموسًا في نشاط الجماعات البوذية المتطرفة. ومن اللافت، بل من المحيّر في الأمر أن الدولتين لا تعيشان، في المقابل، تصاعد وتيرة التشدد الإسلامي كما هو الحال في دول أخرى. فالمسلمون في الدولتين يشكلون أقلية صغيرة، ومسالمة بصفة عامة.
في الدولتين بدأت الجماعات المتطرّفة على شاكلة جماعة «969» وجماعة «ماباثا» (وهي منظمة حديثة التأسيس من الرهبان البوذيين الذين يشيرون إلى أنفسهم بصفة جماعية بأنهم «منظمة حماية العرق والدين») في ميانمار، وجماعة «بوذو بالا سينا» – أو «القوة البوذية» – في سري لانكا، بدأت في الظهور على الساحة منذ عام 2012، وهي ناشطة في ترويج إيديولوجيات ومفاهيم عنيفة أسفرت عن مئات القتلى في سري لانكا وعما يصفه البعض بـ«الإبادة الجماعية» في غرب ولاية راخين بميانمار.
من جهة أخرى، فإن التفسير التاريخي لاختيار المتطرفين البوذيين الميانماريين الرقم 969 يبدو مثيرًا للاهتمام، ذلك أنه وفق تأجيجهم العدائي يرمز إلى البوذية في مواجهة الرقم 786 المستخدم من جانب المسلمين في أعمالهم للإشارة إلى النبي محمد وفق «حساب الجمّل» لأحرف البسملة. والسبب في الرقم 969 وأهميته للبوذيين المتطرفين هو أن الرقم 9 الأول يرمز إلى الصفات التسع الخاصة والاستثنائية لبوذا، والرقم 6 الصفات الاستثنائية الخاصة لتعاليمه (الذارما)، والرقم 9 الثاني يرمز إلى الصفات الخاصة الاستثنائية للرهبان البوذيين (السانغا).
وفي لقاء لنا مع الدبلوماسي الهندي السابق إس. دي. موني، الذي عمل في سري لانكا، فإن جماعة «بوذو بالا سينا» تشكلت فقط عام 2012، لكنها مع ذلك لعبت دورًا محوريًا في إذكاء روح التطرف والعنف ضد المسلمين. وبالإضافة إلى دورها البارز والنشط في سياسات سري لانكا، ارتبطت هذه الجماعة المتطرفة بعلاقات بجماعات بوذية متطرفة مثلها في اليابسة الآسيوية، وعلى الأخص، في ميانمار. وفي العام الماضي سافر الراهب البوذي المتطرّف آشين ويراثو، أبرز قادة جماعة «969» في ميانمار، إلى سري لانكا العام الماضي على مرأى ومسمع من مختلف وسائل الإعلام للتوقيع على معاهدة مع جماعة «بوذو بالا سينا»، تهدف في ظاهرها إلى حماية العقيدة البوذية العالمية. وفي المقابل، قام غالاغودا غناناسارا، المؤسس المشارك لـ«بوذو بالا سينا» بدوره بزيارة إلى ميانمار. وتقول الجماعتان إنه حتى إذا سادت العقيدة البوذية في بلديهما، فهي لا تزال تحت التهديد بصورة عامة، وأنهما وقعتا على «مذكرة تفاهم» بشأن تشكيل تحالفات على مستوى قارة آسيا لحمايتها.
وبالفعل، عملت الزيارات المتبادلة على تعميق العلاقات بين أولئك الذين يعتبرون أنفسهم حراس العقيدة البوذية، ويسيطرون على «الحالة الإيمانية» البوذية ليس في كمبوديا وتايلاند وفيتنام ولاوس وميانمار وسري لانكا فحسب، بل في اليابان والصين أيضًا.
ولكن ثمة من يلفت إلى أن أحداث العنف التي يقودها بوذيون ليست جديدة تمامًا ولا هي فريدة من نوعها خلال السنوات القليلة الماضية، ويشير هؤلاء إلى الحركة البوذية المتشدّدة التي انخرطت في أحداث عنف مناهضة للحكومة في فيتنام الجنوبية (سابقًا) بين عامي 1963 - 1965. وفي بعض الحالات، يرى البعض أن أعمال العنف قد تكون مجرّد دليل على اليأس التام، ففي الصين، أقدم 130 راهبًا بوذيًا على الانتحار حرقًا في حالة احتجاج ضد الحكم الصيني لإقليم التبت.
أيضًا شهدت تايلاند عدة دعوات رهبانية بوذية بارزة لأعمال العنف. فخلال عقد السبعينات من القرن الماضي، طرح رهبان بوذيون مثل فرا كيتيووثو مقولة «إن قتل الشيوعيين لا يعد انتهاكًا لأي من التعاليم البوذية». ولاح الجانب «العسكري» العنيف من البوذية التايلاندية مرة أخرى في عام 2004 عندما تجدّد تمرّد المسلمين (وجلهم من المالاي؛ أي الملايو) في جنوب تايلاند، ولا سيما، في إقليم فطاني. ومنذ يناير (كانون الثاني) 2004، حولت الحكومة التايلاندية الأديرة البوذية في المنطقة إلى مواقع عسكرية وكلفت الرهبان البوذيين العسكريين بالخدمة لديها وأوكلت إليهم مهام دعم الميليشيات (أو فرق الحراسة) البوذية المحلية. ونجم عن تصاعد تمرّد مسلمي جنوب تايلاند تأسيس منظمة بوذية أصولية لكنها لا عنفية تعرف باسم «مؤسسة معرفة بوذا»، تدعو إلى اعتماد قانون للتجديف و«نشر المفاهيم والأخلاق البوذية» في المجتمع التايلاندي.
أما في اليابان، فلقد كان كثيرون من فرسان «الساموراي» تابعين مخلصين للعقيدة «البوذية الزنّية» (وهي مزيج من مذهب الماهايانا البوذي المنتشر في الهند والديانة التاوية، ولقد انطلقت من الصين وانتشرت في اليابان وكوريا). وكانت «البوذية الزنّية» تبرر اللجوء إلى العنف إذا كانت الغاية سليمة، وترى مثلاً أن قتل رجل على وشك ارتكاب جريمة مروعة عمل طيب ورحيم. وفيما بعد أدى تجدد ظهور هذا النوع من التفكير المسوّغ للعنف عندما أخذت اليابان تعد العدة لخوض الحرب العالمية الثانية.
عودة إلى آشين ويراثو، الراهب الميانماري المتطرف، فعندما وضعت مجلة «تايم» الأميركية صورته على غلافها ووصفته بعبارة «وجه الإرهاب البوذي»، لم تخرج 4 آلاف نسخة من المجلة خارج حدود مطار باندارانايكه الدولي في كولومبو عاصمة سري لانكا. ولكن ويراثو قال في ذلك العدد من المجلة معبرًا عن عدائه للمسلمين: «إن المسلمين يتكاثرون بسرعة كبيرة، وهم يسرقون نساءنا ويغتصبونهن. إنهم يودّون احتلال بلادنا، لكنني لن أسمح لهم بذلك. لا بد من الحفاظ على بوذية ميانمار». هذا ولقد مُنع بصورة رسمية توزيع ذلك العدد من «تايم» في ميانمار أيضًا.
وصف ويراثو للمسلمين تتبناه واقعيًا جماعات «بوذو بالا سينا» و«ماباثا» و«969» والجماعات الثلاث تعتبر المسلمين الأعداء والأشرار الرئيسيين في البلاد، وهذا على الرغم من أن عداء هذه الجماعات للمسيحيين والهندوس يبدو واضحًا أيضًا في بعض المناطق. وتقول الصحافية الهندية نيروباما سوبرامانيان، التي عملت على تغطية أخبار سري لانكا على نطاق واسع وكانت لها بعض الجولات في ميانمار أيضًا، «تدعو خطب ويراثو، التي يسهل الحصول عليها عبر شبكة الإنترنت أو على الأقراص المرصوصة (المدمجة) في المتاجر، إلى مقاطعة المتاجر والشركات التي يديرها مسلمون»، وتنقل الصحافية الهندية عن الراهب البوذي المتطرف قوله في إحدى خطبه: «إذا ابتعت من متاجر المسلمين، فلن تتوقف أموالك هناك فحسب. بل سوف توجه في النهاية إلى تدمير دينك وعرقك».
ومع أن سري لانكا، بصورة غير متوقعة، أفلحت في انتخاب حكومة جديدة تتعهد بكبح جماح منظمة «بوذو بالا سينا»، وتتهم الحكومة السابقة في عهد الرئيس السابق ماهيندرا راجاباكسه بأنها هي التي كانت توفر الدعم القوي للمنظمة المتطرفة، تقول سوبرامانيان إن الحكومة الجديدة، التي هي على شاكلة سابقتها، تضم الحزب القومي البوذي القوي الذي يبدو متقاعسًا عن مواجهة الرهبان المتطرفين في البلاد.

مناخات وبيئات متشابهة

في الحقيقة، هناك أوجه تشابه مذهلة بين سري لانكا وميانمار، فكلتا الدولتين تضم غالبية بوذية تدعمها الدولة تشكل ما بين 70 و80 في المائة من مجموع تعداد السكان. فسري لانكا خرجت لتوها من عقود طويلة من الحرب الأهلية المدمرة بين مؤسسة السلطة التي تقف على رأسها الغالبية السنهالية البوذية وحركيي الأقلية التاميلية الهندوسية، وخلال هذه الحرب الأهلية، ضغط البوذيون ورهبانهم على الحكومة لاتخاذ مواقف قوية ومتصلبة وعدائية. أما ميانمار فتعاني منذ عدة عقود من الحكم العسكري المقيت. وفي البلدين صبت الغالبية السكانية البوذية خلال الفترة الاستعمارية من حكم البلدين نقمتها على السكان المسلمين الذين عانوا العبء الأكبر من وطأة الحكومات المحلية أو التجاوزات التي كان خلفها المتمردون بعد الاستقلال.
وفي ميانمار وحدها، التي تضم 135 مجموعة عرقية معترف بها في البلاد، جرى تجريد المسلمين الروهينجيا من حق المواطنة. ووفقًا لتقرير حديث صادر عن منظمة «هيومان رايتس ووتش»، فإن نحو 125 ألفًا من الروهينجيا تعرضوا للتشريد والتهجير بالفعل في ولاية راخين؛ مما نجم عنه تدفق مستمر للاجئين، مع العلم، أن المئات منهم يقضون نحبهم في رحلات السفر عبر البحر بسبب الجوع ولأسباب أخرى.

أزمة فطاني في جنوب تايلاند

وفي هذا الشأن يقول باغوات دايال السفير الهندي السابق إلى تايلاند «في حين أن التوترات الطائفية البوذية - الإسلامية في سري لانكا تعود إلى أجندات سياسية قومية وإلى الحرب الأهلية كذلك، فإن التوترات الطائفية البوذية - الإسلامية في تايلاند، المتاخمة لميانمار، تتميز بتاريخ أطول وأعمق. إذ كانت المنطقة التي تضم المحافظات الجنوبية الثلاث جزءًا من المملكة البوذية المعروفة باسم لانغكاسوكا، وخلال فترة تاريخية معينة هيمن البوذيون الجنوبيون على مملكتهم القديمة. ومع ذلك، تحولت تلك المملكة في وقت لاحق إلى مملكة باتاني – أو فطاني – الإسلامية. وراهنًا يعكس الوضع الديموغرافي في جنوب تايلاند ذلك الماضي المتنوع، ذلك أنه في حين يشكل البوذيون 90 في المائة من سكان تايلاند، يشكل المسلمون (ومعظمهم من المالاي) نسبة 85 في المائة من سكان المحافظات الجنوبية الثلاث. وعبر القرون، كافح المسلمون لاستعادة الحكم الذاتي السياسي لمحافظاتهم من حكومة تايلاند المركزية في بانكوك. وكلما كانت الحكومة المركزية ضعيفة، كانت تندلع المقاومة التايلاندية الجنوبية على الفور. ومنذ يناير (كانون الثاني) 2004، وقعت البلاد تحت الأحكام العرفية، وتنتشر أعمال العنف في المنطقة كما يعيش الناس هناك في خوف دائم».
في ضوء هذا الواقع، أظهرت نسبة لا بأس بها من البوذيين في تايلاند دعمها لجماعتي «969» و«ماباثا». ولقد حضر رهبان بوذيون اجتماعات لـ«ماباثا» في ميانمار (بورما) المجاورة وتبرعوا بأموالهم لمساعدة الجماعة على نشر رسائلها وتعاليمها. ويرى كثيرون من التايلانديين بأنه لا ينبغي على بلادهم استقبال قوارب اللاجئين من الروهينجيا، بل يجب على الحكومة التايلاندية طردهم إلى البحر مجددًا. وحسب الكاتب سانجيب بارواه، فإن الساسة «دائمًا ما استخدموا التطرف البوذي لخدمة مصالحهم السياسية، فبعد أقل من عقدين منذ الاستقلال، كانت معظم ميانمار تحت الحكم العسكري الصارم، وانضمت البوذية تحت لواء الجنرال ني وين ومشروعه «الطريق البورمي نحو الاشتراكية» الذي أعقبته عقود من الانعزالية الدولية. أما سري لانكا فظلت لفترة طويلة دولة برلمانية ديمقراطية، ولكن في عام 1956 حقق رئيس الوزراء السنهالي الشعبوي سولومون باندارانايكه نصرًا ساحقًا في الانتخابات، راكبًا موجة الشعبوية البوذية المحلية في البلاد. إلا أن الكثير من زعماء البوذية في العالم مثل ثيتش نهات هانه وبيخو بودي وشودو هارادا، وحتى الدالاي لاما نفسه، أدانوا عمليات العنف ضد المسلمين ودعوا إلى السلام بين الطرفين، ودعم ممارسة المبادئ البوذية الأساسية الداعية إلى رفض إيذاء الآخر، والاحترام والتعاطف المتبادل».
من جهة أخرى، وفق الدكتورة سانتيشري دوليبودي بانديت، المتخصصة في شؤون السياسة والدين «إنهم (أي البوذيون المتطرفون) مثل نظرائهم من المسلمين المتطرفين، يستغلون الدين مبرّرًا لأعمال العنف. ويقول ويراثو إن البوذية عقيدة مسالمة بطبيعتها، إلا أنه من الضروري النزوع إلى العنف من أجل مقاومة التهديد الإسلامي، ولتجنب استئصال الدين المسالم تمامًا، مشيرًا إلى أن النفوذ البوذي التاريخي في وسط آسيا كان موجودًا قبل ظهور الإسلام. إن حجته هشة للغاية، خصوصًا لدى النظر إلى ندرة أعمال العنف من جانب المسلمين أو الجماعات الإسلامية في ميانمار. مع هذا، يدغدغ هذا الكلام مشاعر الجماهير من المتدينين المخلصين والقوميين المتعصبين والملتزمين دينيًا واجتماعيًا. كما أن هناك إحساسًا جليًّا بالانتهازية حيال كثير من لهجة الخطاب التي تستخدمه الجماعات البوذية المتطرفة، وهي مقتبسة مباشرة من الطريقة التي يناقش بها الغرب الدين الإسلامي».
في المقابل، هناك أيضًا دفاع غير مباشر عن التطرف البوذي. إذ يقول الدكتور كلاوديو شيكوزا، عضو هيئة التدريس ومستشار الأبحاث في كلية الآداب والعلوم لدى جامعة ويبستر (فرع تايلاند)، في محاضرة له أخيرًا في الهند: «ثمة نوع من الموضة الدارجة هذه الأيام لإظهار أن البوذية، كدين، على صلة وثيقة بالعنف». ويشير شيكوزا، الذي له عدة مؤلفات حول البوذية، بأصابع الاتهام نحو شريحة من العلماء الذين يميلون إلى إبراز الجانب العنيف من البوذية. وهو يرى أن هناك اليوم كثرة من العلماء، وعلى الأخص من العلماء الغربيين، من يفضلون إبراز اللون الديني للعنف في البوذية.
كيف يمكن معالجة هذا القدر أو ذاك من التطرف؟ يظل سؤالاً كبيرًا بلا إجابة.
إم. كيه. بهادراكومار، الخبير الهندي في الشؤون الدولية، يرى أنه «ليس بمقدور الحكومات المحلية مواصلة إنكار الواقع بل يتوجب عليها الاعتراف بأن المشكلة جد خطيرة. والنتيجة المحتملة لذلك هي وصول الأصولية الإسلامية من الخارج إلى مناطق في جنوب آسيا وشرقها والانخراط في مواجهة مع المتطرفين البوذيين. وحقًا بدأت الجماعات الإسلامية المتشددة تتنبه إلى محنة المسلمين في هذه المناطق، وعمدت بالفعل على تنفيذ هجمات تحمل شعار «الانتقام»؛ مما ينذر بتفاقم الأوضاع إلى مستويات خطيرة».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.