الإصلاح الديني ومناهضة الجمود الفقهي بداية القرن العشرين

«الشرع الإسلامي ليس بشرع جمود بل شرع عام لا بد له من تغيير الكثير من أحكامه بتغير الأزمان والأحوال»

الإصلاح الديني ومناهضة الجمود الفقهي بداية القرن العشرين
TT

الإصلاح الديني ومناهضة الجمود الفقهي بداية القرن العشرين

الإصلاح الديني ومناهضة الجمود الفقهي بداية القرن العشرين

العلامة محمد بن الحسن الحجوي (1874 - 1956) يعتبر من أبرز أفراد الإصلاح الديني ومناهضة الجمود الفقهي في المغرب، في فترة مطلع القرن العشرين، رغم أن الأوساط الأكاديمية لم تتناول بعد مختلف جوانب فكره الإصلاحي. ونتعرض هنا للفكر الإصلاحي للحجوي، باعتباره نموذجا رائدا في الطرح التنويري، مستحضرين كون عالمنا رجل العلم والسياسة، وطارحا لمشروع نهضة؛ مستفيدا من تقلده مناصب سياسية عدة وتقلبه فيها، داخل الدولة قبيل الحماية الفرنسية وفي عهدها، حيث قبل التعامل مع السلطة القائمة انطلاقا من ثقته وإيمانه بالإصلاح والتحديث.

طرح العلامة الحجوي مشروعه منطلقا من قناعة فكرية رافضة للجمود والتقليد.. «فليس الشرع الإسلامي بشرع جمود، بل شرع عام ودائم لا بد له من تغيير الكثير من أحكامه بتغير الأزمان والأحوال ليوافق كل أمة تدينت به، عدا الأمور التعبدية كالصلاة والصوم»، ومنطلقا أيضًا من ممارسة عملية للاجتهاد، ومسايرة العصر، بنوازله واكتشافاته ومستجداته الدينية والدنيوية. فبالنسبة له، فإن «ندرة المجتهدين، أو عدمهم، من الفتور الذي أصاب عموم الأمة في العلوم وغيرها، فإذا استيقظت من سباتها وانجلى عنها كابوس الخمول وتقدمت في مظاهر حياتها التي أجلها العلوم، وظهر فيها فطاحل علماء الدنيا من طبيعيات ورياضيات وفلسفة، وظهر المخترعون والمكتشفون والمبتكرون كالأمم الأوروبية والأميركية الحية، عند ذلك يتنافس علماء الدين مع علماء الدنيا فيظهر المجتهدون». وارتباطا بذلك، دعا الفقيه الحجوي من خلال منطلقه الثالث، إلى إيلاء التعليم أهمية قصوى، لما له من أهمية في إحياء الأمة، وإرجاعها إلى دورها الحضاري الذي كانت تلعبه.. «إن شاءت الأمة النهوض فلتبدأ بإصلاح التعليم خصوصا اللسان إذ ليس بإنسان من لا قلم له ولا لسان».
وإذا رجعنا إلى تحليل المنطلقات الثلاثة للمشروع الإصلاحي للحجوي، نرى أن قناعته الفكرية جعلت منه أبرز من ناهض الجمود الفقهي، والسكون المعرفي عند النخبة الدينية، رافضا بشدة المصّوغات الشرعية لتيار الجمود النصي، والانحراف الطرقي الصوفي. كما هاجم المختصرين، الذين رفعوا شعار «نحن أناس خليليون إن ضل خليل ضللنا، وإن اهتدى اهتدينا».
لقد كان العلامة الحجوي نموذجا للنخبة الدينية الصحوية المتنورة، والمتفاعلة مع العلم الديني والمدافعة عنه، بصفته ضامن دوام بقاء الأمة وتثقفها الحضاري مع غيرها. من هنا اعتبر العلامة الفقه الإسلامي نظاما للحياة ونظاما للناموس الاجتماعي والسياسي. ولأنه كذلك فإن تحقيق الإصلاح والتحديث إنما يتحقق بالبدء بإصلاح الفقه، والعودة به إلى الدور الحضاري الذي لعبه في الطور الثاني، أي طور الاجتهاد الذي بدأه الصحابة الكرام، حيث تمكن الفقه من إنتاج منظومة معرفية إدراكية شاملة، نظمت وقادت الحياتين الخاصة والعامة في عموم العالم الإسلامي.
كيف يمكن تحقيق ذلك؟ يجيب الحجوي عن هذا السؤال من خلال مشروعه الإصلاحي الديني، بطرح قضية إعادة البناء الداخلي للفقه، وإعادة خلق تصور جديد لتاريخ الفقه، يفرق بين صنفين من العلماء، الأول ينتمي إلى مدرسة الأزمة وهم المقلدون. أمام المدرسة الثانية فهي إصلاحية تجديدية، بنائية، وراشدة، يقودها المجتهدون العالمون بالمذاهب واختلافاتها، وتقاطعاتها الفقهية المعرفية.
صحيح أن العلامة الحجوي لا يتبنى ولا يدعو إلى «قطيعة معرفية» مع الفقه القديم، بيد أنه يرى أن الإصلاح لا يتم دون تحقيق قطيعة منهجية مع آليات اشتغال العقل الفقهي التقليدي، خاصة الموغل في المختصرات والناقل للفتوى القديمة دون دراية بالمكانة العلمية لصاحبها؛ فضلا عن معرفة صحيح الحديث من ضعيفه، فبسبب منهج الاختصار «صار لفظ المتن مغلقا لا يفهم إلا بواسطة الشرح أو الشروح والحواشي».
واعتمادا على هذا المنهج، فقد الفقه حسه التاريخي ودوره الحضاري التحديثي، وشلت قوى العقل الفقهي، ودخل في دائرة الأزمة التي وصلت منتهاها و«بلغ الاختصار غايته لأن مختصر خليل مختصر مختصر مختصر بتكرار الإضافة ثلاث مرات، وكادَ جُلُّ عباراته أن يكون لغزا».
إن القصد المنهجي من رفض المختصرات عند الفقيه الإصلاحي هو تحويل قبلة الفقه نحو الاجتهاد، والتحديث، وذم التقليد الذي مزق نسيج الوعي الديني على مستوى النخبة والمجتمع. ثم إن استمرار التقليد والجمود ورعاية العلماء لمسلكياته المنهجية والمعرفية أصبح يتعارض ومنطق الشريعة الإسلامية، لأنها «ليست شريعة جمود وآصار، ولا هي شريعة مانعة للأمة من الترقي والتطور مع الأحوال، بل شريعة صالحة لكل زمان ومكان وكل أمة.. وذلك لا يتأتى مع الجمود لأن العالم كله متغير ومتطور».
واضح إذن أن تعطيل ملكة الاجتهاد، ونزوع العقل الفقهي المغربي إلى التقليد، قد أضر بالشريعة، وغير من صورتها في الأوساط الاجتماعية. فأصبح الناس يفرون من الضيق الذي رسمه الفقهاء، إلى رحابة القانون الوضعي المادي الغربي؛ وبذلك يكون المقلدون من الفقهاء قد جلبوا مفسدة عظيمة للدين، حيث «صار الناس إلى القوانين الوضعية ونبذوا الشريعة ظهريا، وساء ظنهم فيها مع أنه لا ذنب للشريعة التي فتحت باب الاجتهاد وباب المصالح المرسلة ونحوها، وإنما الذنب على بعض العلماء المقلدين الجامدين المتعصبين الذين جعلوا الدين أحبولة، وألاعيب على المتقدمين والسلف الصالح رضوان الله عليهم».
استحضر الحجوي وهو يعالج هذا الخلل الذي مس العقل الفقهي مقاصد الشريعة، ودورها في حفظ مصالح الفرد والجماعة، ودعوتها إلى استعمال العقل لاستنباط الأدلة الشرعية مباشرة من الكتاب والسنة. وإن تعطيل هذا المنهج الإسلامي كان واحدا من الأسباب التي أنتجت التطرف العلماني؛ «ولربما كان هذا الجمود على الألفاظ والمألوفات والأحكام التي جعلت كلها تعبدية في باب المعاملات التي بنيت على جلب المصالح ودفع المضار، من أسباب سقوط الأمم الإسلامية، وفي الأخير لربما كانت سبب نبذ بعض الدول للشريعة كليا».
ينبغي إذن إعادة الاعتبار للواقع المعاصر وللرؤية الشرعية فيه، والقضاء على التقليد وطرده من ذهنية الفقيه؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا عبر العودة إلى الاجتهاد باعتباره دعوة قرآنية وممارسة نبوية أصيلة، وزرع هذه الروح من جديد في بنية العقل الفقهي؛ هذا هو المنهج المفضي إلى تحقيق التجديد الديني خاصة الفقهي.
إنه تجديد قابل للتحقق في زمننا المعاصر، كما تحقق في الزمن الذهبي للفقه؛ لما غمر هذا الطور من اجتهاد متجدد وتبويب للفقه، وتنوع لفروعه. لذلك استطاع أن يقود الحياة العامة للأمة، وكثر فيه الاجتهاد بتنوع النوازل مع اختلاف الأمصار الإسلامية.. «وكان هذا العصر زاهيا زاهرا بسادات كبار أساطيل الاجتهاد.. وكان جميع العلماء مجتهدين لم يكن بينهم مقلد إلا العوام، فلم يكن الخلاف ضارا لهم ولا مشينا، بل كان سعيا وراء إظهار الحقيقة، فلذلك عددنا الفقه فيه شابا قويا». على عكس طور «الشيخوخة والهرم المقرب من العدم»، المتسم بندرة العلماء، وطغيان التقليد، وأصبح علماء الدين «قصوري الهمم عن الاجتهاد إلى الاقتصار على الترجيح في الأقوال المذهبية.. ثم قصروا.. على النقل عمن تقدم فقط، وانصرفت همتهم لشرح كتب المتقدمين وتفهمها ثم اختصارها.. صاروا قراء كتب لا محصلي علوم، ثم في الأخير قصروا عن الشرح، واقتصروا على التحشية والقشور».
من أجل استعادة التجديد الفقهي يطرح الحجوي في مشروعه الإصلاحي أطروحة مركزية، تعتبر الفقه معيارا ومقياسا لتطور وتخلف الأمة، كما يعتبره مقدمة لكل إصلاح وتحديث إسلامي منتظر.
* أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس*



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.