متظاهرو العراق يريدون دولة مدنية.. ويفرقون بين مرجعية النجف والأحزاب الدينية

السيستاني يعرف أن هناك من وصل إلى البرلمان من خلال مال سياسي عنوانه الأكبر الفساد

امرأة عراقية ترفع لافتة ضد الفساد خلال مظاهرة في كربلاء (أ.ف.ب)
امرأة عراقية ترفع لافتة ضد الفساد خلال مظاهرة في كربلاء (أ.ف.ب)
TT

متظاهرو العراق يريدون دولة مدنية.. ويفرقون بين مرجعية النجف والأحزاب الدينية

امرأة عراقية ترفع لافتة ضد الفساد خلال مظاهرة في كربلاء (أ.ف.ب)
امرأة عراقية ترفع لافتة ضد الفساد خلال مظاهرة في كربلاء (أ.ف.ب)

طغت ولأول مرة الشعارات المناهضة للأحزاب الدينية التي تمسك بالسلطة في العراق منذ عام 2003 وحتى اليوم على مظاهرات العراقيين، شيعة وسنة، الجمعة الماضية، في بغداد وبقية محافظات وسط وجنوب العراق.
وفي وقت حاول فيه المتظاهرون بمختلف اتجاهاتهم ومشاربهم الفصل بين المرجعية الدينية في النجف، ممثلة بالمرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني الذي يعد الداعم الأكبر للإصلاحات التي يقوم بها رئيس الوزراء حيدر العبادي، وبين الأحزاب الدينية التي تدعي الانتماء إلى المرجعية، سواء لجهة كون بعض المراجع الكبار وفي مقدمتهم السيستاني نفسه كمراجع تقليد لديها طبقا للمذهب الشيعي أو احترامها لها حتى في حال قلدت مراجع آخرين ربما هم خارج العراق (حزب الدعوة الذي يتزعمه نوري المالكي يقلد أتباعه محمود الشاهرودي، والتيار الصدري يقلد أتباعه كاظم الحائري، وعصائب أهل الحق قلد أتباعها علي خامنئي وكلهم في إيران).
ومع تصاعد المظاهرات الجماهيرية في بغداد وكل محافظات الوسط والجنوب، وللأسبوع الرابع على التوالي، وقيام رئيس الوزراء بسلسلة إصلاحات لا يزال المتظاهرون ينظرون إليها على أنها لا تمثل سوى الحد الأدنى من مطالبهم، الأمر الذي يدفعه لا سيما مع استمرار دعم السيستاني له إلى اتخاذ قرارات أكثر جرأة يمكن تصل إلى إسقاط الحكومة التي يترأسها وتشكيل حكومة تكنوقراط، وهو ما يعني نهاية المحاصصة والتوافق السياسي، فإن اللجوء إلى هذا المسار يعني حصول حالة تصادم بين ما يرغب المتظاهرون في الوصول إليه من خلال مظاهراتهم، وهو الدولة المدنية لا الدينية، وبين مصالح الأحزاب الدينية والقوى المرتبطة بها والتي تريد استمرار الوضع الحالي الذي يضمن لها النفوذ والتوسع مع إجراء إصلاحات اعتيادية تقتصر على الخدمات، مثل الماء والكهرباء وفرص العمل، بينما باتت سقوف طموحات المتظاهرين وأهدافهم ترتفع إلى ما هو أبعد من ذلك وبالذات إلى ما يمس النظام السياسي.
وبينما يحاول بعض قادة الأحزاب الدينية كيل الاتهامات للمتظاهرين من قبيل أن رفعهم شعارات ضدهم إنما يستهدف الدين والمرجعية معا، وهو ما يرفضه المتظاهرون بقوة، فإن المتظاهرين وكذاك مقربين من المرجعية يؤكدون أن المرجعية الدينية في النجف لا تتدخل في شكل وطبيعة النظام السياسي في البلاد، وبالتالي ما يحاول القيام به بعض قادة الأحزاب الدينية المتهمة بالفساد إنما هو محاولة لخلط الأوراق فقط.
ويقول القيادي البارز في التيار المدني الديمقراطي وأحد أبرز الناشطين في المظاهرات جاسم الحلفي، لـ«الشرق الأوسط»، إن «المظاهرات أهدافها واضحة وسليمة، فهي لا تستهدف النظام السياسي، بل هي داعمة لرئيس الوزراء الذي هو وإن كان جزءا من الطبقة السياسية نفسها وينتمي إلى حزب ديني (الدعوة) يحكم منذ عشر سنوات، لكننا مع ذلك انسجمنا مع رغبته في الإصلاح»، مبينا أن «دعم المرجعية في النجف لا يتناقض أبدأ مع أهدافنا وشعاراتنا ما دامت تستهدف محاربة الفساد الذي استشرى بطريقة لم يعد ممكنا السكوت عليها، وهو أمر يعترف به الجميع بمن فيهم قادة الأحزاب الإسلامية أنفسهم».
وبشأن ما إذا كان الهدف هو إقامة دولة مدنية لا دينية، أكد الحلفي أن «شكل النظام في العراق وطبيعته حددهما الدستور، وهو لا يشير إلى دولة دينية بل نظام ديمقراطي يتعايش فيه الدين والسياسة بشكل طبيعي، ودليل ذلك الدعم الكامل من قبل المرجعية الدينية والسيد السيستاني بكل ما نطرحه، لأن هدفنا هو محاربة الفساد الذي كان ولا يزال هو السبب الرئيسي لكل الكوارث والمآسي التي عشناها ومنها الإرهاب و(داعش) الذي احتل مدننا ومحافظاتنا بسبب الفساد والمحاصصة الحزبية والعرقية والطائفية».
وفي السياق نفسه، أكد رجل الدين الشيعي والأكاديمي عبد الحسين الياسري، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن «موقف المرجعية واضح منذ البداية، وهو عدم خلط الدين بالسياسة أو استخدام الدين وسيلة للإثراء وسرقة المال العام، إلى حد أن المرجع الأعلى السيد علي السيستاني رفض بشدة خلال الانتخابات الأخيرة رفع صوره أو استخدام اسمه في الحملات الانتخابية، وكانت قد صدرت توجيهات صارمة إلى ممثلي المرجعيات في المحافظات بهذا الاتجاه». وأوضح الساعدي أن الأحزاب الدينية «وصلت إلى مقاعد البرلمان من خلال المال السياسي وعنوانه الأكبر الفساد، وهو ما تعرفه المرجعية جيدا، ولذلك فإنها الآن تفصل بين كل أبناء الطبقة السياسية وبين رئيس الوزراء الذي هو مطالب الآن بالابتعاد عن أركان هذه الطبقة والبدء بثورة إصلاح تنادي بها المرجعية وينادي بها الشعب دون مخاوف من إمكانية قيام دولة مدنية أو دينية، لأن مثل هذه الشؤون لا تتدخل فيها المرجعية لا من قريب ولا من بعيد».
وكان أهم ما تميزت به المظاهرات العراقية التي أكملت الجمعة الماضية شهرها الأول هو رفع هتافات وشعارات ضد الأحزاب الإسلامية، لعل أشهرها «باسم الدين باكونا (سرقونا) الحرامية» بالإضافة إلى عشرات الشعارات والهتافات التي بقدر ما عبرت عن واقع الحال بسخرية مرة فإنها عبرت من جانب آخر عن اتساع نطاق الرفض للأحزاب الدينية بالدرجة الأولى، وحيث إن العنوان الأكبر للمظاهرات هو الفساد والمتمثل بعدم القدرة على تأمين الطاقة الكهربائية على الرغم من إنفاق عشرات مليارات الدولارات فإن شعارا مثل «حبيبتي أنت جميلة كساعة إضافية من الكهرباء) يعبر عن حالة السخرية المرة. كما أن هناك شعارات مثلت نقدا لرئيس الوزراء الذي طالبته المرجعية بالضرب بين من حديد ضد الفاسدين، إذ رفع متظاهرون شعارا يقول: «يا عبادي ضرباتك بلاستيك أين الحديد؟». كما رفع أحد المتظاهرين وهو يشبه حيدر العبادي لافتة كتب عليها «شبيه العبادي عاطل عن العمل»، وشعار: «يسرقنا ويقول هذا من فضل ربي».



الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
TT

الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)

أطلقت الجماعة الحوثية سراح خمسة من قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في مناطق سيطرتها، بضمانة عدم المشاركة في أي نشاط احتجاجي أو الاحتفال بالمناسبات الوطنية، وفي المقابل كثّفت في معقلها الرئيسي، حيث محافظة صعدة، حملة الاعتقالات التي تنفّذها منذ انهيار النظام السوري؛ إذ تخشى تكرار هذه التجربة في مناطق سيطرتها.

وذكرت مصادر في جناح حزب «المؤتمر الشعبي» لـ«الشرق الأوسط»، أن الوساطة التي قادها عضو مجلس حكم الانقلاب الحوثي سلطان السامعي، ومحافظ محافظة إب عبد الواحد صلاح، أفضت، وبعد أربعة أشهر من الاعتقال، إلى إطلاق سراح خمسة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب، بضمانة من الرجلين بعدم ممارستهم أي نشاط معارض لحكم الجماعة.

وعلى الرغم من الشراكة الصورية بين جناح حزب «المؤتمر» والجماعة الحوثية، أكدت المصادر أن كل المساعي التي بذلها زعيم الجناح صادق أبو راس، وهو عضو أيضاً في مجلس حكم الجماعة، فشلت في تأمين إطلاق سراح القادة الخمسة وغيرهم من الأعضاء؛ لأن قرار الاعتقال والإفراج مرتبط بمكتب عبد الملك الحوثي الذي يشرف بشكل مباشر على تلك الحملة التي طالت المئات من قيادات الحزب وكوادره بتهمة الدعوة إلى الاحتفال بالذكرى السنوية للإطاحة بأسلاف الحوثيين في شمال اليمن عام 1962.

قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في صنعاء يتعرّضون لقمع حوثي رغم شراكتهم الصورية مع الجماعة (إكس)

في غضون ذلك، ذكرت وسائل إعلام محلية أن الجماعة الحوثية واصلت حملة الاعتقالات الواسعة التي تنفّذها منذ أسبوعين في محافظة صعدة، المعقل الرئيسي لها (شمال)، وأكدت أنها طالت المئات من المدنيين؛ حيث داهمت عناصر ما يُسمّى «جهاز الأمن والمخابرات»، الذين يقودهم عبد الرب جرفان منازلهم وأماكن عملهم، واقتادتهم إلى معتقلات سرية ومنعتهم من التواصل مع أسرهم أو محامين.

300 معتقل

مع حالة الاستنفار التي أعلنها الحوثيون وسط مخاوف من استهداف قادتهم من قبل إسرائيل، قدّرت المصادر عدد المعتقلين في الحملة الأخيرة بمحافظة صعدة بنحو 300 شخص، من بينهم 50 امرأة.

وذكرت المصادر أن المعتقلين يواجهون تهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى؛ حيث تخشى الجماعة من تحديد مواقع زعيمها وقادة الجناح العسكري، على غرار ما حصل مع «حزب الله» اللبناني، الذي أشرف على تشكيل جماعة الحوثي وقاد جناحيها العسكري والمخابراتي.

عناصر من الحوثيين خلال حشد للجماعة في صنعاء (إ.ب.أ)

ونفت المصادر صحة التهم الموجهة إلى المعتقلين المدنيين، وقالت إن الجماعة تسعى لبث حالة من الرعب وسط السكان، خصوصاً في محافظة صعدة، التي تستخدم بصفتها مقراً أساسياً لاختباء زعيم الجماعة وقادة الجناح العسكري والأمني.

وحسب المصادر، تتزايد مخاوف قادة الجماعة من قيام تل أبيب بجمع معلومات عن أماكن اختبائهم في المرتفعات الجبلية بالمحافظة التي شهدت ولادة هذه الجماعة وانطلاق حركة التمرد ضد السلطة المركزية منذ منتصف عام 2004، والتي تحولت إلى مركز لتخزين الصواريخ والطائرات المسيّرة ومقر لقيادة العمليات والتدريب وتخزين الأموال.

ومنذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد وانهيار المحور الإيراني، استنفرت الجماعة الحوثية أمنياً وعسكرياً بشكل غير مسبوق، خشية تكرار التجربة السورية في المناطق التي تسيطر عليها؛ حيث نفّذت حملة تجنيد شاملة وألزمت الموظفين العموميين بحمل السلاح، ودفعت بتعزيزات كبيرة إلى مناطق التماس مع القوات الحكومية خشية هجوم مباغت.

خلق حالة رعب

بالتزامن مع ذلك، شنّ الحوثيون حملة اعتقالات شملت كل من يُشتبه بمعارضته لسلطتهم، وبررت منذ أيام تلك الحملة بالقبض على ثلاثة أفراد قالت إنهم كانوا يعملون لصالح المخابرات البريطانية، وإن مهمتهم كانت مراقبة أماكن وجود قادتها ومواقع تخزين الأسلحة في صنعاء.

وشككت مصادر سياسية وحقوقية في صحة الرواية الحوثية، وقالت إنه ومن خلال تجربة عشرة أعوام تبيّن أن الحوثيين يعلنون مثل هذه العمليات فقط لخلق حالة من الرعب بين السكان، ومنع أي محاولة لرصد تحركات قادتهم أو مواقع تخزين الصواريخ والمسيرات.

انقلاب الحوثيين وحربهم على اليمنيين تسببا في معاناة ملايين السكان (أ.ف.ب)

ووفق هذه المصادر، فإن قادة الحوثيين اعتادوا توجيه مثل هذه التهم إلى أشخاص يعارضون سلطتهم وممارساتهم، أو أشخاص لديهم ممتلكات يسعى قادة الجماعة للاستيلاء عليها، ولهذا يعمدون إلى ترويج مثل هذه التهم التي تصل عقوبتها إلى الإعدام لمساومة هؤلاء على السكوت والتنازل عن ممتلكاتهم مقابل إسقاط تلك التهم.

وبيّنت المصادر أن المئات من المعارضين أو الناشطين قد وُجهت إليهم مثل هذه التهم منذ بداية الحرب التي أشعلتها الجماعة الحوثية بانقلابها على السلطة الشرعية في 21 سبتمبر (أيلول) عام 2014، وهي تهم ثبت زيفها، ولم تتمكن مخابرات الجماعة من تقديم أدلة تؤيد تلك الاتهامات.

وكان آخرهم المعتقلون على ذمة الاحتفال بذكرى الإطاحة بنظام حكم أسلافهم في شمال اليمن، وكذلك مالك شركة «برودجي» التي كانت تعمل لصالح الأمم المتحدة، للتأكد من هوية المستفيدين من المساعدات الإغاثية ومتابعة تسلمهم تلك المساعدات؛ حيث حُكم على مدير الشركة بالإعدام بتهمة التخابر؛ لأنه استخدم نظام تحديد المواقع في عملية المسح، التي تمت بموافقة سلطة الحوثيين أنفسهم