إذا كان الحطيئة في بيتيه: «ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ» أول من كتب من العرب في أدب السجون، وتلاه أبو فراس في «أقول وقد ناحت بقربي حمامة»، فإن هذه الأبيات باتت دواوين وروايات من روايات أساطير الألم، والذل، والعذاب، والامتهان، إذ لم ينتج شعب أدب سجون كما أنتج العرب، ولا حظي شعب منه كما حظي الشعب السوري في تاريخه. وإذا كان نجيب الريس قد أرخ لبداية هذا الأدب في تاريخ سوريا الحديث بقوله في سجون الاستعمار الفرنسي
يا ظلام السجن خيم
إننا نهوى الظلام
فإن الفترة المظلمة من هذا التاريخ التي بدأت بانقلاب الأسد الأب، وتنتهي بالأسد الابن قد شهدت أكبر إنتاج أدبي يعكس سياسة القمع الرهيب، وواقع معاناة السوريين من القهر والظلم والاستبداد في سجن سوريا الكبير. ورغم أن السجون نبتت على أرض الشام كفطر سام، (المزة، عدرا، صيدنايا، حلب المركزي، دمشق المركزي، كفرسوسة تدمر...) وغصت بمساجين الرأي والأبرياء، يبقى سجن تدمر المريع أكثرها ذكرا في أدب هؤلاء الذين عاشوا، أو شهدوا مرارة ظلم ذوي القربي - وليس الاستعمار - وإذ لا يسعنا هنا، في هذا الحيز الضيق، أن نذكرها جميعا، فإننا نتطرق لأهمها. ففي هذه المرحلة المفصلية في تاريخ سوريا تحدى أكثر من كاتب، وأديب الخطوط الحمراء التي رسمها النظام البعثي - الأسدي. فهناك عدد لا بأس به من أعمال المذكرات والشواهد التي تسلط الضوء على الممارسات الوحشية في سجون السلطة على سبيل المثال لا الحصر:
«الطريق إلى تدمر: كهف في الصحراء الداخل مفقود والخارج مولود» لسليمان أبو الخير، «تدمر شاهد ومشهود» لمحمد سليم حماد، «من تدمر إلى هارفارد، رحلة سجين عديم الرأي» للبراء محمد، «في القاع، سنتان في سجن تدمر الصحراوي» لخالد فاضل، «يسمعون حسيسها» لأيمن العتوم (يحكي تجربة صديقه إياد أسعد بعد قضاء 17 سنة في سجن تدمر). «حمامات الدم في سجن تدمر» لعبد الله الناجي. «ترانيم على أسوار تدمر» ليحيى الحاج يحيى. «مذكرات سجينة» لمحمد عادل فارس، الرحيل إلى المجهول: «يوميات في السجون السورية» لآرام كرابيت (من أصل أرمني، ثلاث عشرة سنة في سجن عدرا وتدمر). «عائد من جهنم، ذكريات من تدمر وإخوانه» لعلي أبو الدهن (من أصل لبناني). «14 سنة في الدرك الأسفل من النار داخل السجون السورية» لكامل إبراهيم عيسى. «أصابع الموز» لغسان الجباعي (مجموعة قصصية تحكي تسع سنوات في سجن تدمر).. وإن غلب على هذه الأعمال طابع الشهادات والتوثيق، تبقى رواية «القوقعة.. يوميات متلصص» لمصطفى خليفة الأكثر حفرا في الذاكرة، وألما في النفس، لما تصف من ممارسات الجلادين بمعتقليهم. الرواية تحكي قصة سوري مسيحي اعتقل بتهمة انتمائه للإخوان المسلمين وعاش جحيم سجن تدمر لمدة ثلاث عشرة سنة. صورة حية، بشعة، مقززة، جارحة لمعاناة سجناء ذنبهم الوحيد معارضة نظام جائر، أو أنهم وقعوا ضحية تقرير ملفق. يكاد القارئ لا يصدق هول ما يجري داخل جحيم سجن تدمر.
رواية «حمام زنوبيا» (لكاتب هذا المقال) سرد في قالب أدبي لحياة مواطن عادي ترعرع في صلب عائلة وطنية دفعت «شهيدين» من أفرادها (الوالد والأخ) في حروب خاسرة ضد إسرائيل، وينتهي به الأمر في سجن تدمر بتهمة سرقة كنز أثري كانت تبحث عنه عالمة آثار فرنسية في صحراء تدمر لصالح أحد كبار ضباط النظام فيعيش معاناة السجن - الجهنم، لكنه يستطيع الهروب بمساعدة صديق قديم جاء يعمل صدفة في السجن لحساب مدير السجن الضابط المرتشي، وواحد من بطانة النظام الفاسدة، يوم مجزرة السجن الكبرى التي اقترفها رفعت الأسد في حق مئات المساجين في عام 1980، الرواية تنتهي بالحرية من السجن، كرمز لنيل الشعب السوري الحرية بعد عناء نصف قرن من الظلم تحت النظام الأسدي.
كتاب آخرون شهدوا فظائع سجون أخرى وكتبوا مشاهداتهم، ومعاناتهم في قوالب سردية تلامس اللامعقول في ظلم الإنسان للإنسان، للسوري لأخيه السوري. معظمها في قالب قصص قصيرة تحكي كل قصة عن معاناة سجين، أو وصف سجن وسجان. نذكر منها: «ملائكة وشياطين» لياسر الخطيب، «بائس في فردوس الشيطان» لعبد الله سلامة. «بالخلاص يا شباب 16 عاما في السجون السورية»، «نقطة انتهى التحقيق»، لسليم عبد القادر زنجبير (وهي عبارة عن قصص قصيرة كشهادات لمساجين في سجن كفر سوسة)، «آه يا وطن» لفاضل السباعي (اثنتا عشرة قصة قصيرة في قالب سردي وشهادات)، «عربة الذل» لحسام الدين خضور (مجموعة قصصية تحكي معاناة خمس عشرة سنة في سجن دمشق المركزي)، «الشهادة كي لا تتكرر الجريمة» لبدر الدين شنن (سرد لثماني سنوات في سجن حلب المركزي)، «خطوات في الليل» لمحمد حسناوي. (تجدر الإشارة إلى أن الكثير من هذه الأعمال كانت بأقلام كتاب ينتمون لحزب الإخوان المسلمين، أو حزب العمل الشيوعي).
السجون السورية لم تقتصر على الرجال، بل كانت النساء عرضة للاعتقال، والاغتصاب والتعذيب. وقد برعت مجموعة من الكاتبات السوريات في إصدار مجموعة من الأعمال الأدبية
الكاتبة هبة دباغ (الأولى في إصدار روايات النساء عن السجون السورية) في روايتها «خمس دقائق وحسب.. تسع سنوات في سجون سورية» تروي كيف جاءها زوار الليل ليقولوا لها بأنها مطلوبة لتحقيق لن يدوم أكثر من خمس دقائق فاستمر سجنها في سجن المزة العسكري لتسع سنوات مريرات.
روزا ياسين حسن في روايتها «نيجاتيف» ترصد وضع المرأة في السجون الأسدية، عن طريق شهادات لست عشرة امرأة سورية وما تعرضن له من ممارسات لا إنسانية.
الروائية حسيبة عبد الرحمن، التي عاشت في السجون السورية لسنوات كثيرة، في روايتها «الشرنقة» تكتب مذكرات ومشاهدات يومية داخل الأقبية العتمة، ومراكز التحقيق، ومعاناة السجينات.
الكاتبة مي الحافظ (من أصل فلسطيني) في روايتها «عينك على السفينة» تحكي لغة العنف ضد النساء، وهدر كرامتهن، وكيف يمتن موتا بطيئا روحا وجسدا، في سجن فرع فلسطين، فرع «الفقدان والولادة» كما تصفه وكيف تسابق الجلادون على تعذيبها «بدحرجة جسدها على الأرض كما لو أنهم في ملعب كرة قدم، كانوا منتصرين في كل الأشواط».
لم يقتصر الإنتاج الأدبي في أدب السجون في سوريا على فن الرواية والقصة القصيرة فهناك الكثير من الشعراء الذين عبروا بدورهم عن واقع السجون السورية، وكثير كتب قصائد حزينة لم ترق إلى مستوى ديوان متكامل. نذكر هنا
دواوين في «غياهب الجب» لمحمد حسناوي، و«الظل والحرور» لعبد الله سلامة، و«القادمون الخضر» لسليم عبد القادر.
ولكن يبقى الشاعر الكبير فرج بيرقدار الذي طال سجنه لمدة أربع عشرة سنة في سجن تدمر، في دواوينه «الخروج من الكهف»: «يوميات السجن والحرية»، و«تغريبتي في سجون المخابرات السورية» من أكثر الشعراء تأثيرا وغزارة وجرأة. يقول في إحدى قصائده:
لا أقسم اليوم بالدم والخبز والبيلسان
يشبه الموت أدنى الذي بلغت روحنا
في الزنازين
خلي جهنم تدمر في حالها
وخذي الأمثلة:
1 - «شبقوا» واحدا من يديه ورجليه
قالوا بمن تستجير؟
فقال: بربي
وهم بسملة الموت
2 - شتموا أم آخر..
3 - خيروا والدا أن يموت بنوه ويبقى
أو العكس
فاختار ما ينبغي لحنان الأبوة
فامتثلوا عندما علقوه
ولكنهم أكملوا السلسلة
ويستمر هذا الأدب في العطاء، ما دامت السجون السورية مليئة بالأبرياء.
نظام الأسد.. أكبر إنتاج لأدب السجون
روايات وشعر وقصص قصيرة تروي أساطير الألم والذل والعذاب
نظام الأسد.. أكبر إنتاج لأدب السجون
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة