دأب الدرس الفلسفي عبر مساره، على طرح حقيقة التمثلات الشائعة حول العالم والإنسان والحياة ومدى صوابيتها. ومن بين أهم هذه الاهتمامات الفلسفية، تلك التي تتصل بمسألة بيان طبيعة التاريخ الإنساني، من حيث التساؤل حول بداياته الحقة والغايات التي يتجه نحوها، وعلاقته بالإرادة الإنسانية، ومدى قدرة هذه الإرادة على صناعة أحداثه ومساراته وانعطافاته الحاسمة. والأدهى من ذلك، أنه تم استبدال انشغال آخر يتغاضى عن التفكير في الأسس والجذور والمبادئ، بالانشغال الأول، لينخرط في مساءلة برغماتية للغايات التي يتوجب بلوغها والتوقف عندها، مما يبرر التفكير في إمكانية إيقاف التاريخ عند حد معين أو وضعية ما. ولعل هذا ما يبرر انبلاج مقولة نهاية التاريخ التي غذت مجمل الخطابات الفلسفية الحديثة والمعاصرة؛ الدينية منها والسياسية، الذاتية والجماعية. فالناظر المدقق في الأمر، يجد نفسه أمام سيل جارف من التصورات والاختيارات المذهبية والآيديولوجية، تصب جميعها إما في تبني نظرة سكونية تقرأ لغز «النهاية» بعيون الكمال الحضاري الإنساني الموجب للتأبيد والتخليد، أو في الانخراط في رؤية جدلية تقر بأهمية التجاوز، والانخراط في تشييد رؤى بديلة، تتراوح بين ترميم أعطاب المرحلة الآفلة أو الانفصال الجذري عنها.
يحيل نعت «النهاية» إلى أن للتاريخ معنى ووجهة يسري إليها، على الرغم من أن اللغات الأوروبية، الألمانية منها بالخصوص، عادة ما تميز بين الهدف والحد الذي تتوقف عنده الأشياء؛ فالأول ينم عن استراتيجية وتخطيط مسبقين، في حين أن الثاني يرتهن بالنقص والسقف المعقول والأقصى لفاعلية الإنسان في الوجود والحياة، مما يدعو إلى المساءلة عن حقيقة تجربة الإنسان في الوجود والزمان. فهل يمكن النظر إلى حركة التاريخ باعتبارها حركة موضوعية وأنطولوجية (وجودية)، تحكم الزمان والإنسان والدولة والمجتمع، حيث بمقتضاها يتحول المنتج الحضاري إلى مجرد مفعول ومعلول تخطه علة حاكمة وناظمة ودينامية؟ أم إن التاريخ لا يعدو أن يكون منجزا بشريا تغنيه إرادة الإنسان وتصنعه وفق رغبات وتطلعات مشروعة؟
ما مدى مشروعية القول بنهاية واقعية للتاريخ؟ وهل ثمة مبررات معرفية معقولة مسوغة للتوقف عند المنجز الحضاري الراهن؟
لا غرو أن نشهد في عالمنا الحديث والمعاصر، كيف أن سؤال النهايات قد امتد أثره ليشمل كثيرا من الموضوعات بشكل غير مسبوق، على غرار: نهاية الإنسان، نهاية العالم، نهاية الواقع.. وهو المنطق نفسه الذي يحكم مقولة نهاية التاريخ.
إن المطلع على انشغالات فلسفة التاريخ وإشكالاتها الكبرى، وأبجديات التاريخ الأنثروبولوجي للأفكار، سيسترعي انتباهه هذا السجال الدائر حول الموضوع، والمشوب بالاستفسارات والتساؤلات الحابلة بهواجس حضارية ودينية وعسكرية وغيرها، على الرغم من كل التواري الذي قد يلحظه أي متتبع لخلفياته وأسسه، وللمقاصد المعرفية والثقافية والأخلاقية التي يرومها، خصوصا منها السياسية، لما لها من مكاسب مادية واقتصادية جمة في عالم اليوم.
يرتبط القول بنهاية التاريخ بفكرة أعم وأشمل، وهي فكرة الخلاص والفناء. وهي الحقيقة التي تحبل بها الأديان والميثولوجيات وشتى المذاهب الفلسفية. بمعنى أن المرجعية المؤسسة لها لا تغرف فقط من خطابات أسطورية أو دينية، بل من تصورات فلسفية ذات امتدادات حديثة ومعاصرة، «تنذر» البشرية وتحذرها من مصير مشؤوم، أو تبشرها بمدن فاضلة، كلما وجدت إلى ذلك سبيلا، أو بعالم مثالي يجد فيه المرء بلسما لكل أعطابه الذاتية والجماعية، وهي خطابات يمكن أن نجد لها بعض ما يبررها في الوحي أو سيكولوجية الموت، أو قد تمتد جذورها لتلامس خلفيات إنثربولوجية ثقافية متجذرة في سجية الشعوب والحضارات.. بل إن البعض صار اليوم يتوقع شؤما من مغبة السقوط في «كارثة أرضية» تأتي على الأخضر واليابس، وتقضي على كل أمل في الحياة على ظهر كوكبنا، مما يبرر الحديث عن نهاية للعالم أكثر من التوقف عند لحظة أو وضعية تاريخية محددة.. فليس من الجرأة المنفلتة من كل منطق القول بأن البحث عن ممكنات الحياة في عوالم أخرى، أو كواكب مجاورة أو بعيدة، ما هي إلا محاولة كوسمولوجية لتهدئة قلق الوجود المتعاظم لدينا كلما اشتد بنا الصراع، وانتصرت فينا غرائز الموت (التناتوس) على حساب غرائز الحياة (الإيروس) بتعبير فرويد.
لكن في المقابل، نلحظ في خطابات مجاورة ورديفة في الموضوع، نزوعا نحو إيقاف جدل الحركة والصيرورة لصالح منطق السكون والتأبيد الحاسم لوضع ما، أو اختيار آيديولوجي محدد، أو الانتصار لقيم ما بعد حداثية.. إنها نوع من الخطابات التي غالبا ما تتذرع بمحصول حضاري تكنولوجي يقوم على اقتصاد الوفرة والليبرالية السياسية. ها هنا نجد أنفسنا إذن أمام مقولة ترتحل معانيها لتتدثر بلبوس العدم والوجود، والصيرورة والثبات، والقبلي والبَعدي، وعالم الخير والشر، والمادي والروحي.
يمكن لأي واحد منا أن يجس نبض درجة اطلاعه إزاء ردود الفعل الموسومة بالقوة حيال خطابات النهايات عموما، تلك الردود التي قد تكون رفضا لادعاءاتها، أو دعما لاختياراتها الآيديولوجية. فلو اتخذنا لأنفسنا نماذج عينية، لاسترعت انتباهنا تلك الهجمة النقدية الشديدة التي جوبه بها خطاب نهاية التاريخ في فلسفة هيغل، عندما عدّ أن الدولة الحديثة هي الصيغة العليا والمطلقة والنهائية للعقل. فقد هاجم الماركسيون، بكل توجهاتهم، الفيلسوف الألماني هيغل عندما انتهى إلى تأبيد مرحلة تاريخية معينة من تطور التاريخ، مع أن حقيقة الأمر تستدرك لحظة النظر الفاحص للمسلمات الماركسية التي اعترفت على لسان زعيمها بالقلب الجذري للفلسفة العقلانية المثالية للرجل، عبر تحوير مسألة النهاية من طبيعتها الروحية المطلقة نحو تجلٍ تاريخي ومادي ينتصر لمعايير ملموسة ومباشرة في الحياة. إن نهاية التاريخ التي ارتضاها الماركسيون لأنفسهم، تتمثل في رؤية مادية اقتصادية واجتماعية للوجود الحقيقي للناس؛ أي إن نهاية التاريخ لا تدرك حقيقتها بناء على تصورات فلسفية غارقة في العقلانية على الرغم من موضوعيتها وشموليتها، وإنما تعاش حياتيا في دنيا الناس، التي اتخذ لها الماركسيون اسم الحياة الشيوعية كنهاية «سعيدة» للتاريخ، ومريحة للإنسان من قلاقل الذاتية ونزوعات الملكية، والصراعات الطبقية التي وسمت رحلة الإنسان في الأرض. يبدو أن تطور المجتمعات عند كل من هيغل وتلميذه ماركس، يتعذر أن يستمر إلى ما لانهاية، فقد أضحى توقيف التاريخ عند حدود نظام اجتماعي وسياسي معين كفيلا بتوفير كل الاحتياجات، وملائما للاستجابة لتطلعات الناس وآمالهم، وهو الحل العقلاني لتحقيق المعنى من التاريخ والتطور.
ومع سقوط جدار برلين، استشعر الجميع ذلك التغير الجذري في الرؤى الفكرية والسياسية للعالم، فانصرف الجدل الفكري والمعرفي عن مجرد التفكير في طبيعة النهاية المفترضة للتاريخ، إلى الانشغال بقضية من يصنع التاريخ ويتملكه ويتحكم في روافد نهره العظيم، ومن يجني ثماره ومكاسبه العظيمة المورثة للقوة والقيادة وتملك الأرض، بما فيها ومن عليها. لقد صار التاريخ موجها نحو غاية محددة، تشحذه آليات التفكير البرغماتية، ووجهة المجتمعات الغربية المعاصرة وقيمها واختياراتها، «مبشرة» بسقوط القطبية السياسية والمعرفية والثقافية، لتحل محلها «الواحدية» التي آثرت أن تضع لنفسها لقبا أنيقا هو «النظام العالمي الجديد»، معززة انطلاقتها الجديدة بـ«محركات فكرانية» جديدة تغذيها العولمة والصناعة الثقافية والحضارية الراهنة، التي وجدت عزاءها التام فيما ذهب إليه المفكر الأميركي المعاصر فرنسيس فوكوياما، لما عدّ أن الديمقراطية الليبرالية «قد تشكل نقطة النهاية في التطور الآيديولوجي للإنسانية»، والصورة النهائية النموذجية لنظام الحكم البشري، تقويما وتعديلا لمختلف التناقضات الداخلية للحكومات الدينية والديكتاتورية العسكرية، وعيوبها الخطيرة التي مست العقل البشري وقادتها إلى الفشل والسقوط.
فنحن إذن أمام مقترب للتاريخ يقام صرحه على فكرة التأبيد والتخليد لاختيار ما، ومن الطبيعي أن يجد الإنسان في منجزه التاريخي إعجابا منقطع النظير بذاته وباختياراته الراهنة، التي تجهد نفسها ضدا لحقائق الواقع الإنساني المعاصر الذي يسوده الفقر والحرب والإقصاء والتبخيس والظلم.
وتصويبا للحقيقة، وجب التذكير بأن قدر الفيلسوف هو أن يكون طبيبا للحضارة، لا منظرا لنظام سياسي يكتسب شرعيته بفعل انتصاره الآيديولوجي. ولعل قيم الكونية والعالمية مختلفة تماما عن نزوعات الأمركة والعولمة، ذات المنزع التنميطي الرافض للاختلاف والتعدد والتسامح.. إنها قيم عليا يتم تأسيسها بناء على نقاش كوني يعترف بالمواطنة العالمية للجميع، وبها يتم تحوير نظرتنا إلى الأرض من مجرد مجال للاستحواذ والنمذجة والهيمنة وتأبيد اختيار سياسي أو «حضاري»، إلى بناء اختيار ممكن يعترف للإنسانية جمعاء بذاتيتها الأخلاقية، ومساهمتها الفعالة في تحديد شروط العيش المشترك، والقائم على الاعتراف بالغير خارج جدلية العبد والسيد، وإلا صار تاريخ الإنسان سيزيفيا يحكي باستمرار انتكاساتنا وهيمنة بعضنا على بعض.