البيئة المحلية كمرآة للشعر

فتحي عبد السميع.. يحتفي بجمالياتها في ديوانه «تمثل رملي»

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

البيئة المحلية كمرآة للشعر

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

على عكس شعراء كثيرين يعيشون في بيئات محلية ذات طبيعة خاصة، قلما نجد صدى لها في شعرهم، ينفتح الشاعر فتحي عبد السميع في ديوانه «تمثال رملي» الصادر حديثا عن الهيئة المصرية للكتاب، على مفردات البيئة المحلية، في صعيد مصر مسقط رأسه ومقر إقامته. وبعين طفل يشتبك مع إرثها الاجتماعي، ومحمولاتها التراثية، محاورا ما تنطوي عليه من رموز ودلالات شعبية خصبة، لا تزال تحتفظ بامتدادها الخاص في الزمان والمكان.
واللافت في أغلب قصائد الديوان أن الشاعر لا يكتفي بالملامسة العابرة لهذه البيئة، وإنما يعايشها بحميمية، محتفيا بجغرافيتها وتاريخها وناسها، ويدفعها إلى اكتساب حيوات جديدة تساهم في إنتاج شعرية النص، وتوسع منابعه التصويرية وطاقته التعبيرية معا، وفي الوقت نفسه، تشكل نقطة تمايزه بعمق على مستويي الرؤية والعلاقات الجمالية.
وعلى مدار قصائد الديوان التي تقع في مائة وعشر صفحات، تتجلى مقدرة الشاعر في تحويل هذه المفردات البيئية إلى مشهدية شعرية شيقة ومتنوعة، تنساب بعفوية بين براح الماضي وضيق الحاضر، متخذا من إيقاع الوصل والقطع جسرا شفيفا يربط بينهما، وفي الوقت نفسه يمنح الذات حيوية إعادة القراءة وطرح الأسئلة واصطياد الدهشة بروح جديدة.
تتسع هذه المشهدية في الديوان باللعب على وتر عادات وتقاليد مرتبطة بروح ووجدان هذه البيئة، وأصبحت تشكل ملمحا أساسيا في تشكيل هويتها وخصوصيتها على مر التاريخ، مثلما في قصيدته «المرماح»، وهو سباق خيول شعبي يجري على إيقاع الطبل والمزمار البلدي، في ساحة ضريح ولي مشهور، احتفاء بيوم مولده، ويستمر السباق من العصر حتى صلاة المغرب. ويتصاعد السباق بمقدرة الفارس على تنويع ألاعيب عصا «الزانة» الرفيعة المدببة في الهواء، والرقص على أنغام المزمار والطبل البلدي، دون أن تسقط الزانة من يده.
تصور القصيدة هذا الطقس، وتجعله مفتوحا على آفاق أرحب من التأويل، لبنياته وانزياحاته، بحيث يكتسب صدى معرفيا وجماليا خاصا في النص.. ففي جزء منها بعنوان «الزانة» يقول الشاعر:
«صياح وغبار
الأرض طبلة تقرعها الحوافر
حرب، لكن اللحم الآدمي مصان بقوة اللعب
لا سيف، لا حربة، لا معدن
زانة شبعانة من الماء والشمس
طويلة ولا تعرف الأذى
طويلة مثل قلوب الزهاد.
يد الفارس أرجوحة
والزانة في الأعالي مرَّة
وأخرى تحفر خطا في التراب.
قال الراوي:
لم أشاهد رجلا يمشي وفي يده زانة
الناس يفضلون الشومة والنبوت.
يفضلون الأقصَرَ والأكثَرَ غلظة
يمشون في الأرض وكأن الولي لم يقل لهم:
الحياة مرماح لا أقصر».
ورغم أن القصيدة تحيلنا ببساطتها إلى أجواء هذا الطقس الشعبي، فإن عينها مشدودة نحو ما يكمن في ظلاله وهوامشه، بحثا عن علاقات نصية ومعرفية جديدة، تضيف لمقومات السرد والوصف الخاطف طعما خاصا، يفتح المشهد على أسئلة ممتدة في الزمان والمكان ليتحول الطقس نفسه إلى سيرة شيقة للأرض والبشر والحياة.
ومن ثم، يشكل البحث عن هذه العلاقات الجديدة ملمحا مهما في أغلب قصائد الديوان، ويستند - برأيي - على ركيزتين أساسيتين، الأولى تتسم بتحريك نوازع السكون، وإشاعة الحيوية في علاقات راسخة ومستقرة، يمنحها النص المقدرة لتطل على وجودها من نافذته بشكل مغاير، ويحرص الشاعر هنا على إقامة نوع من التوازن الشفيف بين الذاتية والموضوعية، وهو ما يطلعنا في قصائد: «لساني للعالم»، «رشف الشاي»، «عينان بلا جسد»، «وجع في قعر كوب»، «لاصق طبي على فم شاعر»، «لظلي أطوار غريبة». فالقصائد تقف على عتبة الذات والموضوع معا، تحافظ على مسافة ما بينهما، بين الشيء وظله، بين الرمز ومرموزه، بين اللغة والمعني، بين الذاكرة والحلم. كما تحافظ علاقات الواقع والنص على تضاداتها وتجاوراتها، وتقاطعاتها، والنص يحتويها بكل واقعيتها، لكنه لا يقيم نوعا من التصالح الزائف بينه وبينها، وإنما يضعها فنيا على حافة مفارقة، تبدو حادة وموجعة أحيانا إلى حد السخرية، لأنها نابعة من النسيج الداخلي لهذه العلاقات، وليست مقحمة عليها من الخارج.
وعلى ذلك تتبدى مركزية الدلالة في تجسيد سكونية هذه العلاقات بكل نسقها الإنساني والمعرفي، وهو ما يعني ضمنيا تعريتها في فضاء النص، وكشف كل ما تحتويه من نوازع القلق والخداع والتوتر، أو على الأقل وضعها في صيغة تساؤل يبحث عن إجابة مفتوحة، تخترق الواقع، في شتى تمظهراته الجغرافية والاجتماعية والتاريخية والنفسية.. وهو ما يطالعنا في قصيدته «عينان بلا جسد»، حيث تصبح ربكة العلاقة بين الشاعر وجاره، بمثابة صدى لربكة أعمق، فبعلاقته بذاته والوجود، ومثلما يقول:
«أمشي ولا أثر لي فوق التراب
أمشي وللمطر وقع المسامير
أسلم على جاري وأنا أحرك مفتاح الباب
فلا يرد.
لا يشعر أبدا بأني أحرك المفتاح
وأدخل دافعا الباب بكعبي
لا يشعر أبدا بأن شقتي مهجورة.
جاري معذور
عيناي وحدهما تجعلاني أعتقد بأني حي
فكيف يقتنع الجار بأن شقتي مسكونة
لمجرد أن بها حدقتين
حتى الماء الذي يتسرب من عقب الباب
لا يمكن أن يقود مخيلته إلى أن في الشقة رجلا يبكي».
وتلعب الركيزة الثانية في البحث عن علاقات نصية جديدة، على ما يمكن أن أسمية «دراما الحكاية»، حيث ثمة حكاية بلا راو، أو ثمة راو بلا حكاية، لكنهما مع ذلك يتبادلان الأدوار والأقنعة بنزق طفل في النص، وكأن كليهما يبحث في الآخر عن حريته ووجعه، عن شي مفتقد، هارب منه. ويفض الشاعر سكونية العلاقات الواقعية الكامنة في جوهر الحكاية، بجلبها للنص كأيقونة رمزية، تنساب في لغة حارة سلسة، تتصاعد مستوياتها، لتكون محورا خاصا لإيقاع النص والحكاية معا.. ففي قصيدة «تمثال رملي» التي وسمت عنوان الديوان تبدو رمزية التفتت معادلا للبناء، ويتحول التمثال الرملي على الشاطئ كمعادل للوجود، تتلاقح في ذراته الطائرة جدلية الوجود والعدم، بل هو يصرخ ككائن حي وفي نفس لاعج على هذا النحو كما في القصيدة:
«تقدموا بهدوء
والتقطوا صورا معي
بوسعكم أن تبصروا أرواحكم
وهي تلمع في ظلالي
أن تبصروا ظهوركم وهي تمتد في البحر إلى ما لا نهاية.
تقدموا الآن قبل أن أذوب في موجة
فلا يبقى أمامكم سوى الرمل».
هذا المعنى ومن زاوية نصية أخرى تعتمد على بنية التساؤل كمقوم معرفي، يطالعنا في قصيدة «الحرب يا سلامة»، حيث البطل بسلاحه الخشبي لا يعرف، هل يطارد وهما، ثأرا من نفسه أم من الآخرين، وهو ما يذكرنا بـ«دون كيخوتة» ومحاربة طواحين الهواء. ويتبدى أيضا في افتقاد لذة الاستماع للغناء، جراء صراع مشتعل بين الهدوء والفوضى والضجيج، في قصيدة «حكاية فيروز والأسطى نبيل النجار»، وفي حوار الأب والابن الطفل على قتل خنفساء، في القصيدة التي تحمل العنوان نفسه، حيث يصبح قتل الخنفساء صكا على الشجاعة وبلوغ الطفل مراتب الرجولة.
وفي قصيدة «الحَر»، وهو إحدى سمات البيئة المناخية في الصعيد، نلمح محاولة لأنسنة الطبيعة، والانفتاح علي عناصرها بروح الكائن الحي، خاصة روح الأنثى التي تهفو إلى حرارة الدفء الخاص، وتضيق بلفحاته الحارقة حين تعطل مجرى الحياة في الواقع الخارجي.. فعلى لسان الحر يقول الشاعر: «سألم شوكي من حلوقكم وأذهب- ماذا ستفعلون بأرواحكم- وقد عادت تتنفس بلا ضغوط- لا يفضحها العرق- ولا تمشي بزجاجات لتضلل العطش تواجه الشمس وجها لوجه».
وتبلغ الحكاية ذروتها، حين يلبس الحَر قناع الضحية، ويبدو كمسجون بلا زنزانة أو قيد، سوى نظرة البشر وتعاملهم معه، وهو ما تجسده القصيدة في لطشتها الختامية بهذه النبرة الشجية قائلة:
«بعيدا أشتمكم
أغسل جلدي من روائحكم
بعيدا أبكي عليكم
وانتم تشعرون باختناقات
ولا تجدون حرا تتهمونه».



انطلاق الدورة الـ19 لـ«البابطين الثقافية» بمضاعفة جوائز الفائزين

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
TT

انطلاق الدورة الـ19 لـ«البابطين الثقافية» بمضاعفة جوائز الفائزين

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

كرمّت «مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية»، صباح اليوم (الأحد)، الفائزين بجوائز الدورة الـ19 للجائزة، مع انطلاق هذه الدورة التي حملت اسم مؤسس وراعي الجائزة الراحل عبد العزيز سعود البابطين، تخليداً لإرثه الشعري والثقافي.

وأُقيم الاحتفال الذي رعاه أمير الكويت، الشيخ مشعل الأحمد الصباح، في مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي، بحضور (ممثل أمير البلاد) وزير الإعلام والثقافة وزير الدولة لشؤون الشباب عبد الرحمن المطيري، ومشاركة واسعة من الأدباء والمثقفين والسياسيين والدبلوماسيين وأصحاب الفكر من مختلف أنحاء العالم العربي، كما حضر الحفل أعضاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

جانب من حضور دورة الشاعر عبد العزيز سعود البابطين (الشرق الأوسط)

وقال وزير الثقافة والإعلام الكويتي، عبد الرحمن المطيري، في كلمته، إن هذا الملتقى «الذي يحمل في طياته عبق الشعر وأريج الكلمة، ليس مجرد احتفالية عابرة، بل هو تأكيد على أن الثقافة هي الروح التي تحيي الأمم، والجسر الذي يعبر بنا نحو مستقبل زاخر بالتسامح والتعايش والمحبة».

وأضاف: «إن لقاءنا اليوم ليس فقط تكريماً لمن أبدعوا الكلمة وشيَّدوا صروح الأدب، بل هو أيضاً دعوة لاستلهام الإرث الثقافي الكبير الذي تركه لنا الشاعر الراحل عبد العزيز سعود البابطين (رحمه الله)، والذي كان، وسيبقى، قامة ثقافية جمعت بين جمال الكلمة وسمو الرسالة... رسالة تُعبِّر عن القيم التي تجمع بين الحضارات. ومن هنا جاءت مبادراته الرائدة، التي عرَّف من خلالها الشرقَ بالشعر العربي، وقدَّم للغرب بُعدَه الإنساني، جاعلاً من الشعر جسراً يربط القلوب، ومفتاحاً للحوار بين الثقافات».

رئيس مجلس أمناء «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين يلقي كلمته في افتتاح الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

في حين قال رئيس مجلس أمناء «مؤسسة البابطين الثقافية»، سعود البابطين، إن هذه الدورة تأتي احتفاءً «بالشعر، فن العرب الأول على مر العصور، وتكريماً للمبدعين والفائزين مِنَ الشعراءِ والنقاد، ووفاءً ومحبة لشاعر هذه الدورة (عبد العزيز البابطين) الذي أخلص في رعاية الشعر العربي وخدمة الثقافة العربية بصدق ودأب وتفانٍ طيلة عمره كله، بلا ملل ولا كلل».

وفي خطوة لافتة، قدَّم رئيس مجلس الأمناء، أمين عام المؤسسة السابق، الكاتب عبد العزيز السريع، الذي رافق مؤسس الجائزة منذ نشأتها، ليتحدث عن ذكرياته مع راعي الجائزة الراحل، والخطوات التي قطعها في تذليل العقبات أمام إنشاء المؤسسة التي ترعى التراث الشعري العربي، وتعمل فيما بعد على بناء جسور التواصل بين الثقافات والحضارات.

وأعلن البابطين، في ختام كلمته عن مضاعفة القيمة المالية للجوائز ابتداءً من هذه الدورة، وفي الدورات المقبلة لـ«جائزة عبد العزيز البابطين».

ونيابة عن الفائزين، تحدَّث الأديب والشاعر الكويتي الدكتور خليفة الوقيان، مشيداً بـ«جهود (مؤسسة البابطين الثقافية) في دعمها اللامحدود للفعل والنشاط الثقافي داخل وخارج الكويت».

وأضاف: «في هذا المحفل الثقافي البهيج، يمرُّ في الذاكرة شريط لقاءات تمَّت منذ 3 عقود، كان فيها الفقيد العزيز الصديق عبد العزيز البابطين يحمل دائماً هَمّ تراجع الاهتمام بالشعر، ويضع اللَّبِنات الأولى لإقامة مؤسسة تُعنى بكل ما من شأنه خدمة ذلك الفن العظيم، ثم ينتقل عمل المؤسسة إلى الأفق الدولي، من خلال ما يُعنى بقضية حوار الثقافات والحضارات».

وألقى الشاعر رجا القحطاني قصيدة عنوانها «إشعاع الكويت»، من أشعار الراحل عبد العزيز البابطين.

يُذكر أن فعاليات الدورة الـ19 مستمرة على مدى 3 أيام، بدءاً من مساء الأحد 15 ديسمبر (كانون الأول) إلى مساء الثلاثاء 17 ديسمبر الحالي. وتقدِّم الدورة على مسرح مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي 5 جلسات أدبية، تبدأ بجلسة بعنوان «عبد العزيز البابطين... رؤى وشهادات»، تليها 4 جلسات أدبية يعرض المختصون من خلالها 8 أبحاث عن الشاعر عبد العزيز سعود البابطين المحتَفَى به، و3 أمسيات شعرية ينشد فيها 27 شاعراً.

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

الفائزون:

* الفائز بالجائزة التكريمية للإبداع الشعري الشاعر الدكتور خليفة الوقيان، وقيمة الجائزة 100 ألف دولار.

* الفائزان بجائزة الإبداع في مجال نقد الشعر «مناصفة»، وقيمتها 80 ألف دولار: الدكتور أحمد بوبكر الجوة من تونس، والدكتور وهب أحمد رومية من سوريا.

* الفائزة بجائزة أفضل ديوان شعر، وقيمتها 40 ألف دولار: الشاعرة لطيفة حساني من الجزائر.

* الفائز بجائزة أفضل قصيدة، وقيمتها 20 ألف دولار: الشاعر عبد المنعم العقبي من مصر.

* الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر للشعراء الشباب، وقيمتها 20 ألف دولار: الشاعر جعفر حجاوي من فلسطين.