الإصلاح والإرهاب.. مدركات الشعوب السلمية وسطوة النخب العنيفة

الإطار المرجعي الإسلامي كان حاضرًا مع بناء دولة الاستقلال العربي بمشاريع تحديث الجهاز الإداري والعسكري وبناء المؤسسات السياسية

الإصلاح والإرهاب.. مدركات الشعوب السلمية وسطوة النخب العنيفة
TT

الإصلاح والإرهاب.. مدركات الشعوب السلمية وسطوة النخب العنيفة

الإصلاح والإرهاب.. مدركات الشعوب السلمية وسطوة النخب العنيفة

تفرض موجة العنف السياسي الحالية بالوطن العربي، الدفاع عن النهج الإصلاحي الجامع بين قوى المجتمع ومؤسسات الدولة الشرعية، الضامنة لحقوق الإنسان وحريته وكرامته. ولأن الإصلاح لا يتحقق في ظروف نزاعية مسلحة بين السلطة الشرعية ومكوّنات المجتمع، فإننا نقصد هنا بالإصلاح تلك الرؤية المعرفية الشاملة، التي تمتلك مدركاتها السياسية الخاصة، ونسقا ثقافيا ناظما لشؤون الحياة ولتنظيم العلاقة بين البنى والنظم المعرفية الذاتية والغيرية المتباينة الأصول الدينية والقيمية. وهذه الرؤية المعرفية هي التي تقود الفعالية المجتمعية وممارستها السياسية في الوطن العربي الإسلامي منذ قرون طويلة، ولقد استطاعت عبر زمن ممتد أن ترسم اختيارات الناس، وممارساتهم في بناء المؤسسات الأهلية والسياسية، وأن تصمد وتتحدى الهجمات المتكررة للاستعمار المباشر والجديد.
إن الإصلاح في الخبرة العربية الإسلامية، هو بالضرورة نظام معرفي خلاّق، يستند في طرح نموذجه إلى مرجعية عليا دينية، وإلى خبرته التاريخية التي تعاملت مع الشرق والغرب. وهذا ما يجعل قيمه المثالية في سعي دائم إلى التجانس مع حقيقة السلوك والضوابط المجتمعية، مستفيدة بذلك من الخبرة الإنسانية وإنجازاتها الفطرية.
والإصلاح، باعتباره رؤية معرفية شاملة، قادر على تأطير عملية التحديث السياسي، وما يستلزم ذلك من ديمقراطية وحرية شاملة وعدالة اجتماعية. وعلى الرغم من أن «فكر التثنية» الانقسامي يزعم أننا نعيش عربيًا وإسلاميًا، في انقسام ثنائي معرفي وسوسيولوجي، ويؤكد: «إننا مجتمعون تحت سقف واحد» فإننا نقر بأن عملية الانقسام المفترضة في الفكر والمجتمع العربي الإسلامي لم تصبح بعد واحدة من الوقائع المدمجة في الرؤية المعرفية للمجتمعات الحالية. وذلك ما أكدته الموجة الأولى من الحراك المجتمعي العربي عام 2011م.
ثم إن ملامح «الانقسام» الموجودة تتعرض منذ ثمانينات القرن العشرين لعملية التجاوز السلس عربيًا وإسلاميًا، بسبب الوعي الجماعي، واستعادة المجتمع لبعض فعالياته التي سحبها منه الاستعمار والدولة الحديثة. وهذا يعني أن انفصال المجتمع العربي عن نفسه لم يتحقق، لما عبرت عنه المحددات والمدركات الجماعية للأمة العربية الإسلامية من قدرة فائقة على حماية هوية أعضائها الحضارية زمن الضعف والهزيمة، وهو ما لم تدركه بعض النخب المثقفة التي اختارت العنف وهجران المجتمع ونظامه المعرفي.
على هذا الأساس مثّلت مشاريع الإصلاح العربي الإسلامي منذ القرن الـ19م، بوصلة ومنطلقًا اعتمد المرجعية الإسلامية باعتبارها المرجعية العليا النهائية المؤطرة للنظر والعمل الأهلي السياسي الإصلاحي. وهذا الاختيار نجم عنه رغم الأزمة القائمة، استعادة فعالية قيم المرجعية مجتمعيا وإفشال المخططات الاستعمارية.
ومن جهة أخرى، كرّس هذا الواقع التعدد الحضاري النوعي مع الغرب، خاصة، مع ارتباط الحركات الوطنية العربية بمفاهيم ورموز المرجعية الدينية. وواقع الأمر أن مختلف النخب لم تستطع أن تكتسب مشروعية مجتمعية اعتمادًا على طرحها الحداثي، إلا عبر تأطيره بالمرجعية العليا الإسلامية، أو على الأقل التأكيد على عدم تصادم طرحها مع هذه المرجعية الدينية.
لقد كان الإطار المرجعي الإسلامي حاضرًا مع بناء دولة الاستقلال العربي، حيث قادت الحركة الوطنية مرحلة جديدة من مشاريع الإصلاح وتحديث الجهاز الإداري والعسكري، وبناء المؤسسات السياسية. وكانت جهود بناء الدولة في هذه المرحلة، امتدادًا طبيعيًا لما طرحته الإصلاحية العربية في القرن 19 وبداية القرن العشرين (مشروع الدستور المغربي الأول لسنة 1908م مثلا).
وبذلك يصبح الدفاع عن الإصلاح في قضايا الفكر السياسي، دفاعا عن حضور اجتهادي لعلاقة التراث السياسي بالتصورات والفعالية المجتمعية المعاصرة، وقدرتها على التجدد الذاتي المنتج لعملية الاستيعاب الحضاري من جهة. ومن جهة أخرى إنجاز التجاوز المعرفي للمبادئ والقيم غير الذاتية، والمغنية للرؤية الاجتهادية الإصلاحية الإسلامية عموما على المستويين الفكري والحركي. وإذا كانت الاستفادة من المشترك الحضاري العربي الإسلامي، تخلق نوعا من التصورات المتماثلة، ولا تطرح إشكالات جذرية، فإن المنظور المعرفي الغربي يخلق بالمفاهيم المستعارة منه، إشكالات متعددة، بعضها ذات طبيعة مرجعية.
وإذا عدنا للمستوى الداخلي العربي، فسنجد أن ظهور البعثية والناصرية المتحالفة مع العسكر، خلق ثنائيات فكرية تعكس آيديولوجيا «الحداثة المسلحة»، وأخذ التعارض المرجعي يُطرح مع الأنظمة السياسية والمرجعية الدينية. وهكذا أصبحت النخبة المثقفة تتحدث عن التقليد والتحديث وتصادمهما، وعن التراث وتناقضه مع الحداثة والديمقراطية.. وظهرت أطروحات نخبوية «فوقية» تدعو إلى تجاوز التراث وتبني فكر الأنوار الفرنسي. كما تدعو إلى تجاوز الأنظمة التقليدية الشرعية، وتدعو لإسقاطها بالعنف المسلح والانقلابات، مستثمرة بذلك بعض أطروحات الدولة الحديثة، بناء على الجهد الفكري لهيغل وماركس وفيبر.
لقد أنتج زمن «العسكرتارية» العربية والصراع مع الأنظمة التي توصف بـ«التقليدية الدينية»، تشظيات مجتمعية، أخطرها تلك التي حولت العنف السياسي إلى أداة «شرعية» باسم الثورية، ثم جاءت جماعات التطرّف الديني لتغترف من نفس المعين الفكري لـ«العسكرتارية»، فزعمت أن «الإرهاب» هو «الجهاد»، وأنها تعمل لبناء «دولة إسلامية» و«دولة الخلافة».
هذا التلاقي والتحالف الموضوعي القديم بين «العسكرتارية» والإرهاب عرقل عملية الإصلاح السلمي، وأربك الأنظمة الشرعية والنخب الإصلاحية السلمية، ومكّن القوى الأجنبية من مزيد من النفوذ على الدولة العربية المعاصرة. ولذا يمكننا فهم مسار الصراع السياسي العربي الحالي وتدخل القوة العسكرية بسلاحها في الساحة السياسية، بكونه مسارًا مناهضا لعملية الإصلاح ومنظومته المرجعية المجتمعية. لقد كانت الانقلابات على الأنظمة الشرعية جزءًا من عدم الإيمان بتدرّجية وسلمية الإصلاح وشموليته، لذلك يكون الانقلاب هو إعلان الجيش، أو الفئة المسلحة، عن رفض السلمية في العمل السياسي.
وإذا كان هذا يمثل الوجه الأول للعنف المناهض للإصلاح، فإن الحركات الإرهابية المعولمة المتزيية بالدين هي الوجه الثاني، الذي لم يستطع غير تغيير الشعار والسقوط في نفس المنهج الدموي الذي وَلَدَته ورعته النخبة «العسكرتارية». هذان الوجهان يحاولان ملء ساحة الفعل الفكري والحركي العربي الإسلامي، بنشرهما للإقصاء والقتل، ويحاولان إظهار صراعهما أنه صراع المجتمع ضد نفسه، أو كما عبر مفكّر نظرية «العقد الاجتماعي» هوبس: «صراع الجميع ضد الجميع».
والحقيقة أن تبنّي العنف هو حرب ضد الإصلاح السياسي السلمي ونخبه ومرجعيته المجتمعية، والقيم الإسلامية التي أخذت صفة الثابت داخل المجتمع السياسي، وما اكتسبته من قدسية في الخبرة التاريخية العربية. وإصرار التيارين العنيفين المشار إليهما على تحويل المنظومة الفكرية العربية لمنظومة صراع، لا يهدف إلى خدمة الشعوب ومصالح المجتمع العربي الإسلامي. بل هو يبرر نشر العنف والقتل واستدامتهما تارة بيافطة دينية، وتارة بلافتة «عسكرتارية»، ومن ثمة تقوية نفوذ النخب العنيفة، وتأجيل الإصلاح لأجل غير مسمى.

* أستاذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس. الرباط.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.