تفرض موجة العنف السياسي الحالية بالوطن العربي، الدفاع عن النهج الإصلاحي الجامع بين قوى المجتمع ومؤسسات الدولة الشرعية، الضامنة لحقوق الإنسان وحريته وكرامته. ولأن الإصلاح لا يتحقق في ظروف نزاعية مسلحة بين السلطة الشرعية ومكوّنات المجتمع، فإننا نقصد هنا بالإصلاح تلك الرؤية المعرفية الشاملة، التي تمتلك مدركاتها السياسية الخاصة، ونسقا ثقافيا ناظما لشؤون الحياة ولتنظيم العلاقة بين البنى والنظم المعرفية الذاتية والغيرية المتباينة الأصول الدينية والقيمية. وهذه الرؤية المعرفية هي التي تقود الفعالية المجتمعية وممارستها السياسية في الوطن العربي الإسلامي منذ قرون طويلة، ولقد استطاعت عبر زمن ممتد أن ترسم اختيارات الناس، وممارساتهم في بناء المؤسسات الأهلية والسياسية، وأن تصمد وتتحدى الهجمات المتكررة للاستعمار المباشر والجديد.
إن الإصلاح في الخبرة العربية الإسلامية، هو بالضرورة نظام معرفي خلاّق، يستند في طرح نموذجه إلى مرجعية عليا دينية، وإلى خبرته التاريخية التي تعاملت مع الشرق والغرب. وهذا ما يجعل قيمه المثالية في سعي دائم إلى التجانس مع حقيقة السلوك والضوابط المجتمعية، مستفيدة بذلك من الخبرة الإنسانية وإنجازاتها الفطرية.
والإصلاح، باعتباره رؤية معرفية شاملة، قادر على تأطير عملية التحديث السياسي، وما يستلزم ذلك من ديمقراطية وحرية شاملة وعدالة اجتماعية. وعلى الرغم من أن «فكر التثنية» الانقسامي يزعم أننا نعيش عربيًا وإسلاميًا، في انقسام ثنائي معرفي وسوسيولوجي، ويؤكد: «إننا مجتمعون تحت سقف واحد» فإننا نقر بأن عملية الانقسام المفترضة في الفكر والمجتمع العربي الإسلامي لم تصبح بعد واحدة من الوقائع المدمجة في الرؤية المعرفية للمجتمعات الحالية. وذلك ما أكدته الموجة الأولى من الحراك المجتمعي العربي عام 2011م.
ثم إن ملامح «الانقسام» الموجودة تتعرض منذ ثمانينات القرن العشرين لعملية التجاوز السلس عربيًا وإسلاميًا، بسبب الوعي الجماعي، واستعادة المجتمع لبعض فعالياته التي سحبها منه الاستعمار والدولة الحديثة. وهذا يعني أن انفصال المجتمع العربي عن نفسه لم يتحقق، لما عبرت عنه المحددات والمدركات الجماعية للأمة العربية الإسلامية من قدرة فائقة على حماية هوية أعضائها الحضارية زمن الضعف والهزيمة، وهو ما لم تدركه بعض النخب المثقفة التي اختارت العنف وهجران المجتمع ونظامه المعرفي.
على هذا الأساس مثّلت مشاريع الإصلاح العربي الإسلامي منذ القرن الـ19م، بوصلة ومنطلقًا اعتمد المرجعية الإسلامية باعتبارها المرجعية العليا النهائية المؤطرة للنظر والعمل الأهلي السياسي الإصلاحي. وهذا الاختيار نجم عنه رغم الأزمة القائمة، استعادة فعالية قيم المرجعية مجتمعيا وإفشال المخططات الاستعمارية.
ومن جهة أخرى، كرّس هذا الواقع التعدد الحضاري النوعي مع الغرب، خاصة، مع ارتباط الحركات الوطنية العربية بمفاهيم ورموز المرجعية الدينية. وواقع الأمر أن مختلف النخب لم تستطع أن تكتسب مشروعية مجتمعية اعتمادًا على طرحها الحداثي، إلا عبر تأطيره بالمرجعية العليا الإسلامية، أو على الأقل التأكيد على عدم تصادم طرحها مع هذه المرجعية الدينية.
لقد كان الإطار المرجعي الإسلامي حاضرًا مع بناء دولة الاستقلال العربي، حيث قادت الحركة الوطنية مرحلة جديدة من مشاريع الإصلاح وتحديث الجهاز الإداري والعسكري، وبناء المؤسسات السياسية. وكانت جهود بناء الدولة في هذه المرحلة، امتدادًا طبيعيًا لما طرحته الإصلاحية العربية في القرن 19 وبداية القرن العشرين (مشروع الدستور المغربي الأول لسنة 1908م مثلا).
وبذلك يصبح الدفاع عن الإصلاح في قضايا الفكر السياسي، دفاعا عن حضور اجتهادي لعلاقة التراث السياسي بالتصورات والفعالية المجتمعية المعاصرة، وقدرتها على التجدد الذاتي المنتج لعملية الاستيعاب الحضاري من جهة. ومن جهة أخرى إنجاز التجاوز المعرفي للمبادئ والقيم غير الذاتية، والمغنية للرؤية الاجتهادية الإصلاحية الإسلامية عموما على المستويين الفكري والحركي. وإذا كانت الاستفادة من المشترك الحضاري العربي الإسلامي، تخلق نوعا من التصورات المتماثلة، ولا تطرح إشكالات جذرية، فإن المنظور المعرفي الغربي يخلق بالمفاهيم المستعارة منه، إشكالات متعددة، بعضها ذات طبيعة مرجعية.
وإذا عدنا للمستوى الداخلي العربي، فسنجد أن ظهور البعثية والناصرية المتحالفة مع العسكر، خلق ثنائيات فكرية تعكس آيديولوجيا «الحداثة المسلحة»، وأخذ التعارض المرجعي يُطرح مع الأنظمة السياسية والمرجعية الدينية. وهكذا أصبحت النخبة المثقفة تتحدث عن التقليد والتحديث وتصادمهما، وعن التراث وتناقضه مع الحداثة والديمقراطية.. وظهرت أطروحات نخبوية «فوقية» تدعو إلى تجاوز التراث وتبني فكر الأنوار الفرنسي. كما تدعو إلى تجاوز الأنظمة التقليدية الشرعية، وتدعو لإسقاطها بالعنف المسلح والانقلابات، مستثمرة بذلك بعض أطروحات الدولة الحديثة، بناء على الجهد الفكري لهيغل وماركس وفيبر.
لقد أنتج زمن «العسكرتارية» العربية والصراع مع الأنظمة التي توصف بـ«التقليدية الدينية»، تشظيات مجتمعية، أخطرها تلك التي حولت العنف السياسي إلى أداة «شرعية» باسم الثورية، ثم جاءت جماعات التطرّف الديني لتغترف من نفس المعين الفكري لـ«العسكرتارية»، فزعمت أن «الإرهاب» هو «الجهاد»، وأنها تعمل لبناء «دولة إسلامية» و«دولة الخلافة».
هذا التلاقي والتحالف الموضوعي القديم بين «العسكرتارية» والإرهاب عرقل عملية الإصلاح السلمي، وأربك الأنظمة الشرعية والنخب الإصلاحية السلمية، ومكّن القوى الأجنبية من مزيد من النفوذ على الدولة العربية المعاصرة. ولذا يمكننا فهم مسار الصراع السياسي العربي الحالي وتدخل القوة العسكرية بسلاحها في الساحة السياسية، بكونه مسارًا مناهضا لعملية الإصلاح ومنظومته المرجعية المجتمعية. لقد كانت الانقلابات على الأنظمة الشرعية جزءًا من عدم الإيمان بتدرّجية وسلمية الإصلاح وشموليته، لذلك يكون الانقلاب هو إعلان الجيش، أو الفئة المسلحة، عن رفض السلمية في العمل السياسي.
وإذا كان هذا يمثل الوجه الأول للعنف المناهض للإصلاح، فإن الحركات الإرهابية المعولمة المتزيية بالدين هي الوجه الثاني، الذي لم يستطع غير تغيير الشعار والسقوط في نفس المنهج الدموي الذي وَلَدَته ورعته النخبة «العسكرتارية». هذان الوجهان يحاولان ملء ساحة الفعل الفكري والحركي العربي الإسلامي، بنشرهما للإقصاء والقتل، ويحاولان إظهار صراعهما أنه صراع المجتمع ضد نفسه، أو كما عبر مفكّر نظرية «العقد الاجتماعي» هوبس: «صراع الجميع ضد الجميع».
والحقيقة أن تبنّي العنف هو حرب ضد الإصلاح السياسي السلمي ونخبه ومرجعيته المجتمعية، والقيم الإسلامية التي أخذت صفة الثابت داخل المجتمع السياسي، وما اكتسبته من قدسية في الخبرة التاريخية العربية. وإصرار التيارين العنيفين المشار إليهما على تحويل المنظومة الفكرية العربية لمنظومة صراع، لا يهدف إلى خدمة الشعوب ومصالح المجتمع العربي الإسلامي. بل هو يبرر نشر العنف والقتل واستدامتهما تارة بيافطة دينية، وتارة بلافتة «عسكرتارية»، ومن ثمة تقوية نفوذ النخب العنيفة، وتأجيل الإصلاح لأجل غير مسمى.
* أستاذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس. الرباط.