«داعش» لا يخطئ في الترجمة

صعود المقاتلين الغربيين بشكل غير مسبوق حوّر السؤال من «لماذا يكرهوننا؟} إلى {كيف جندوا شبابنا؟»

«داعش» لا يخطئ في الترجمة
TT

«داعش» لا يخطئ في الترجمة

«داعش» لا يخطئ في الترجمة

قدرة تنظيم داعش المتطرف على تجنيد الأعضاء باتت هاجسًا للدوائر الأمنية والسياسية في العالم. ومما يقلق هذه الدوائر تطور الخطاب التواصلي الجاذب الذي يستخدمه التنظيم لترويج نفسه وتسويق نشاطه، وتنوعه تبعًا لكل بيئة يستهدفها. وكذلك الإمكانيات التقنية والمالية التي تتيح له الإطلالة على كل البيئات التي يأنس فيها وجود أرضية واعدة لكسب المناصرين والأعضاء، وبين هؤلاء أبناء الجيلين الثاني والثالث في الدول الغربية من الذين يواجهون مشكلات مع الاندماج، أو خاب أملهم بالثقافة الغربية التي يعيشون.
«أن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدًا»، ربما هذا ما يتردد في نفوس الكثير من الباحثين الغربيين ومراكز الدراسات المتخصصة في معالجة الإرهاب. إذ بدأ الجميع يغيّر حقيبته المملوءة بـ«الصور النمطية» عن الإرهابي والانتحاري، المكتئب، القليل التعليم، الخارج عن سياقه المجتمعي بسبب مشكلات البطالة والعنف وقبضة السلطة.
لكن مشكلة الإرهاب أنه يتطوّر بشكل متسارع ومذهل يفوق الكثير من حملات محاربته ومناشط مكافحته، فهو إن جاء متأخرا يكون قد ازداد قوة وصلابة ووحشية، وكذلك قدرة على تجاوز كل العقبات الأمنية والعسكرية، وهو ما بات ظاهرة تطفح بها عبارات الحسرة على لسان العائلات التي فقدت ذويها لصالح تنظيم داعش ودون أي مقدمات.
فرنسي عجوز طاعن في السن يبكي شقيقته وابنها اللذين كانا في طريقهما لقضاء إجازة في تركيا إلا أنهما بسبب تأثير خطاب «داعش» الاستقطابي وصلا أخيرًا إلى سوريا. وهو ما يفتح السؤال كيف يغادر شبّان صغار ليس لهم حظ من التديّن في بلدانهم ليعودوا إرهابيين تعرضوا لأقصى أنواع غسيل الدماغي والتغيير المفاهيمي بسبب بيئة التطرف والعنف التي عاشوا فيها؟
كيف وقع هؤلاء فريسة للتجنيد على أساس «الهويّة».. في حين ضاقت بهم هويّاتهم الأصلية التي تتعرّض في كل العالم إلى أزمات خانقة وتحديات كبيرة؟
بول كروكشانك، أحد محللي الإرهاب البارزين - وهو بريطاني مقيم في نيويورك - يذهب إلى أن «داعش» نجح في خلق صورة نمطية سهلة وجاذبة بسبب غفلة الدول المتضرّرة منها بالصراع على القضايا الإقليمية، مما أسهم في انتعاش التنظيم وقدرته على التجنيد، فهم عبر أفلامهم ومنتجاتهم الإعلامية الموجه للغرب يقدمون جانبًا من حياة محافظة وسلهة وبسيطة توحي بالألفة والروح المعنوية العالية، ومظاهر البطولة والتحدي والانتصار كجزء من «احترام الذات» الذي يفتقده الإنسان المعاصر المشغول حتى أخمص قدميه بملاحقة إيقاع الحياة السريع.
ويرى ماثيو أولسن، مدير المركز القومي لمكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة، في هذه الصورة النمطية المريحة أعظم آلة دعاية أنتجتها المنظمات الإرهابية منذ نشأتها، فهي تنجح في جعل الغربيين يتخلّون عن حياتهم الوادعة للسفر إلى مناطق التوتر والدماء المسالة بحثًا عن هدف مختلف أقرب ما يكون إلى محاولة إحداث الفرق في معادلات الموت والحياة والانتماء والشعور بالواجب.
ويؤكد محللو الخطاب الإعلامي الداعشي أن «داعش» أكثر خبرة وأعلى كعبًا على مستوى الإنتاج الإعلامي من كل التجارب السابقة، بل ومن قدرة عدد من الدول التي تحاول كبح جماح دعاية التنظيم المتطرّف على مواقع التواصل الاجتماعي. وهو لا يهدف فقط إلى تغيير كل المفاهيم بشأن دور الدين في حياة الإنسان أو تداخل العمل السياسي والمسلح مع مفهوم الانتماء للإسلام كدين متسامح، بل على العكس تمامًا، فإن خطابات «داعش» الموجهة لكوادره الغربيين تقوم بإرساء قواعد منهجية لاستقطاب كوادر نوعية مؤهلة على المستوى العسكري والإعلامي. وبالتالي فإنه يكفي لنقل إيمانهم بالتنظيم وولائهم المطلق أن تظهر لقطة فيديو تبدو عفوية يحرق فيها شبّان غربيون تشربوا حياة «داعش» جوازات سفرهم والابتسامة تعلو وجوههم. هذه الصورة التي يراد أن تستقر في الأذهان من شأنها محو كل الصور السلبية التي يكافح التنظيم بشكل عكسي لمحاربتها.
محللون آخرون يرون أن قدرة «داعش» على جذب الآلاف الغربيين على الرغم من انتشار مقاطع «حزّ الرؤوس» وسحل الأجساد في الشوارع، والتفنن في التعذيب مع التقاط صور «السيلفي» (الذاتية) يعني أننا أمام انهيار منظومة قيم أساسية، وأن «داعش» استغل ذلك لتظهر بشكل حازم غير مهادن لأعدائه بأكثر مما يعكسه الواقع الحقيقي على الأرض. هذا الحزم يجعله أيضًا أكثر جاذبية للمقاتلين الأجانب الذين يطمحون في بناء شخصية قتالية مستقلة ومؤثرة، فهؤلاء لا يحضرون لمجرد المشاركة أو الاندفاع العاطفي بقدر محاولة تغيير المعادلات على الأرض.
اللافت في تتبع سياق تجنيد «داعش» للمقاتلين الغربيين هو نوعية أولئك المقاتلين الذين لم يسبق لهم تجارب تديّن أو المرور عبر وساطة إحدى المجموعات المعتدلة أو المراكز الإسلامية التي تعاني من عبء «الإسلاموفوبيا» مع تقلّص دورها في إنتاج شخصيات متدينة قد تتبنى أفكارا راديكالية. وأن مسيرة التطور في شخصية الإرهابي التقليدية من متشدّد فكريًا إلى متعاطف مع العنف إلى ممارس له.. لا مكان لها في سيرة حياة المقاتل الغربي الذي قد لا يكون أمضى وقتًا طويلاً في الإسلام. وغالبهم كما يؤكد الخبير ماثيو غودير في بحثه الذي شمل طلابا في جامعة تولوز الفرنسية ممن انضموا أو تعاطفوا مع «داعش» جلهم من المثاليين المحبطين ومن الثوار المناهضين للرأسمالية والحكومات.
20 ألف مقاتل من الأجانب تأكد التحاقهم بصفوف «داعش» في سوريا والعراق، علما أن هناك تقارير تتحدث عن أرقام أكبر. واللافت في الأمر أن هؤلاء الأجانب ليسوا من المهاجرين، بل من الجيلين الثاني والثالث، ولقد ولدوا في أراضي الغرب وتشربوا مبادئ التعليم والهويّة والثقافة الغربية، لكن فشل الاندماج ومشكلات مجتمعية ضخمة ما كانت عوامل كافية لانتقال هؤلاء إلى مربع «داعش» لولا نجاح خطاب التنظيم في تغيير الهويّة المركبة عندهم وتفتيتها لهويّات صغيرة وبسيطة، وربما ساذجة، في تصورها عن الإسلام. وكما يؤكد بعض القادة المحللين لـ«داعش» في تفسيرهم لهذا التدفق الغربي الهائل في حواره مع الـ«سي إن إن» أنهم فقط يكرهون بلدانهم ويريدون تجربة الفرق، ونحن نمنحهم ذلك.
والحال أن «داعش» لا يخطئ في الترجمة، فهو استفاد جدًا من تاريخ ودعايات الجماعات العنفية غير الإسلامية التي تنشط في الغرب. ولذا يرى كثير من الخبراء أوجه شبه بين تلك التنظيمات المتطرفة غير الدينية وبين تجربة «داعش»، لا سيما فيما يخص خصائص وملامح المقاتلين الأجانب. فهناك ذات الأسلوب والجرأة وقلة الاكتراث ببشاعة الوحشية تشبه إلى حد ما أسلوب «الألوية الحمراء» الإيطالية أو «الجيش الأحمر» - الفصيل الدموي الذي نشط في ألمانيا الغربية - هذا بالإضافة إلى استخدام اليوتيوبيا (أو المثالية) الشيوعية ولكن بمضامين دينية تلائم البيئة الداعشية التي يتم ترويجها للأجانب. إن الموقف من توحّش رأسمالية الغرب كان الدافع الأساس لمخاطبة الجمهور الغربي الحانق، كما يؤكد توماس هيغاهمر، الباحث النرويجي الذي درس الإرهاب المشرقي، ويعود الآن بأدواته المنهجية لمقارنته بالإرهاب الغربي.
وتشير التقارير إلى أن جزءًا كبيرًا من مقاتلي «داعش» من الغربيين الذين ليس لديهم أي أصول عربية أو إسلامية هم متحولون من المسيحية، وهؤلاء يشكلون نسبة لا بأس بها من مجموعات المقاتلين الآتين من دول أوروبية، تقف على رأسها فرنسا التي تحتل المركز الأول في تصدير المقاتلين لـ«داعش».
نسبة المتحولين، مثل السيد إمدي، لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من الجاليات المسلمة في أوروبا، وهم يشكلون نحو ربع المقاتلين الأجانب من فرنسا. وبإزاء المتحولين دينيًا هناك المتحولون على مستوى الاهتمامات، إذ نلحظ ظاهرة «مغني الراب» وممارسي الرياضات العنيفة، إضافة إلى شخصيات ناجحة وظيفيًا في مجالات الإعلام الجديد وصناعة الترفيه. كل هذه المجالات يترك «داعشيوها» عالمها المليء بالألوان ليختاروا الانغماس بلون الدم هربًا من لسعات الروح القلقة الباحثة عن المختلف..كنوع من اضطراب قضايا الهويّة والانتماء التي يشكو منها إنسان اليوم.
ولكن، «داعش» بدوره يزيد من جرعات الإحساس بالعدمية والنقمة على الرأسمالية المتوحشة في خطابه باللغات الأجنبية. فالمستمع لا يجد هنا أي حديث عن «الحور العين» أو «الخلافة المسلوبة» بل يجري استثمار الغضب العام في الأوساط الغربية من إيقاع الحياة عبر الحديث عن «عبودية الوظيفة» و«الرأسمالية المتوحشة» و«الغرب المعادي للإنسان» و«العودة إلى الجذور».. إلخ.
ثم إن الخطاب المكتوب عادة ما يشفعه إعلام مرئي ذو جودة عالية تلائم الشباب الباحث عن المغامرة في الحياة وما أكثرهم. وهم كما يقول أحد المقاتلين «يريدون فعل شيء استثنائيا ومختلفا ومغامرا». وهو ما يتجلى في دعايات «داعش» على شبكات التواصل الاجتماعي التي تعتبر ملعب التنظيم الأول، إذ توجد أفلام مترجمة إلى كل اللغات الحيّة وأناشيد بلغات نادرة أو خاصة بفئة معينة، ولعل أنشودة «تعال لنا يا صديقي» باللغة الأويغورية التي تنتشر في غرب الصين (إقليم سنكيانغ، أو تركستان الشرقية) دليل على النهم الداعشي لابتلاع أكبر قدر من المجندين الأجانب من كل مكان، وهي جهود تنوء بحملها الكثير من الجماعات الإسلامية المعتدلة أو المتشددة. كما أن هذا يطرح السؤال عن البديل في ظل هذا التضخم الداعشي على مستوى المنتجات والخطاب، وإن كان تراجعهم ملموسًا على مستوى مناطق التوتر المحرّرة حيث بدأ يضيق الخناق على التنظيم.
إن المنتجات الإعلامية الداعشية مخدومة على مستوى الانتشار والحماية، فهناك العشرات من «المواقع الصديقة» التي تقدم مواد «داعش» مجانًا بصيغ مختلفة وبلغات كثيرة، منها الحيّة ومنها اللغات المحلية لشعوب الهند وشرق آسيا والصين، وصولاً إلى دول أفريقية كثيرة صارت تعاني من تمدد دعاية التنظيم.
الأكاديمية الوطنية للعلوم ومقرها في الولايات المتحدة (PNAS) قامت بصكّ مصطلح للتعبير عن تمدد «داعش» والجماعات الإرهابية بفضل منتجات إعلامية صغيرة وتغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي هو «فيتموريسك femtorisk». المصطلح يعني تضخم ظواهر صغيرة عددًا وعدة على ممارسة تأثير ضخم وكبير في العالم، وهو ما حصل للتنظيم بعدما عاد إلى الأضواء في خضم الدعاية ضده وضد وحشيته ليحصد الآلاف من الأنصار. وهو هنا يعتبر خيارًا مثاليًا لتمدّد التأثير المعنوي مع محدودية القوة العددية. إنه بالضبط، كما يقول خبير إعلامي مهتم بظاهرة الإعلام التحريضي، إن «تستطيع جماعة ما الحضور الإعلامي المكثف وتصدر شاشات التلفزيون والأخبار، أي ألا تمر 24 ساعة دون أن يمر ذكر (داعش)، هذا هو النجاح الإعلامي بغض النظر عن التقدم على الأرض».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.