«داعش» لا يخطئ في الترجمة

صعود المقاتلين الغربيين بشكل غير مسبوق حوّر السؤال من «لماذا يكرهوننا؟} إلى {كيف جندوا شبابنا؟»

«داعش» لا يخطئ في الترجمة
TT

«داعش» لا يخطئ في الترجمة

«داعش» لا يخطئ في الترجمة

قدرة تنظيم داعش المتطرف على تجنيد الأعضاء باتت هاجسًا للدوائر الأمنية والسياسية في العالم. ومما يقلق هذه الدوائر تطور الخطاب التواصلي الجاذب الذي يستخدمه التنظيم لترويج نفسه وتسويق نشاطه، وتنوعه تبعًا لكل بيئة يستهدفها. وكذلك الإمكانيات التقنية والمالية التي تتيح له الإطلالة على كل البيئات التي يأنس فيها وجود أرضية واعدة لكسب المناصرين والأعضاء، وبين هؤلاء أبناء الجيلين الثاني والثالث في الدول الغربية من الذين يواجهون مشكلات مع الاندماج، أو خاب أملهم بالثقافة الغربية التي يعيشون.
«أن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدًا»، ربما هذا ما يتردد في نفوس الكثير من الباحثين الغربيين ومراكز الدراسات المتخصصة في معالجة الإرهاب. إذ بدأ الجميع يغيّر حقيبته المملوءة بـ«الصور النمطية» عن الإرهابي والانتحاري، المكتئب، القليل التعليم، الخارج عن سياقه المجتمعي بسبب مشكلات البطالة والعنف وقبضة السلطة.
لكن مشكلة الإرهاب أنه يتطوّر بشكل متسارع ومذهل يفوق الكثير من حملات محاربته ومناشط مكافحته، فهو إن جاء متأخرا يكون قد ازداد قوة وصلابة ووحشية، وكذلك قدرة على تجاوز كل العقبات الأمنية والعسكرية، وهو ما بات ظاهرة تطفح بها عبارات الحسرة على لسان العائلات التي فقدت ذويها لصالح تنظيم داعش ودون أي مقدمات.
فرنسي عجوز طاعن في السن يبكي شقيقته وابنها اللذين كانا في طريقهما لقضاء إجازة في تركيا إلا أنهما بسبب تأثير خطاب «داعش» الاستقطابي وصلا أخيرًا إلى سوريا. وهو ما يفتح السؤال كيف يغادر شبّان صغار ليس لهم حظ من التديّن في بلدانهم ليعودوا إرهابيين تعرضوا لأقصى أنواع غسيل الدماغي والتغيير المفاهيمي بسبب بيئة التطرف والعنف التي عاشوا فيها؟
كيف وقع هؤلاء فريسة للتجنيد على أساس «الهويّة».. في حين ضاقت بهم هويّاتهم الأصلية التي تتعرّض في كل العالم إلى أزمات خانقة وتحديات كبيرة؟
بول كروكشانك، أحد محللي الإرهاب البارزين - وهو بريطاني مقيم في نيويورك - يذهب إلى أن «داعش» نجح في خلق صورة نمطية سهلة وجاذبة بسبب غفلة الدول المتضرّرة منها بالصراع على القضايا الإقليمية، مما أسهم في انتعاش التنظيم وقدرته على التجنيد، فهم عبر أفلامهم ومنتجاتهم الإعلامية الموجه للغرب يقدمون جانبًا من حياة محافظة وسلهة وبسيطة توحي بالألفة والروح المعنوية العالية، ومظاهر البطولة والتحدي والانتصار كجزء من «احترام الذات» الذي يفتقده الإنسان المعاصر المشغول حتى أخمص قدميه بملاحقة إيقاع الحياة السريع.
ويرى ماثيو أولسن، مدير المركز القومي لمكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة، في هذه الصورة النمطية المريحة أعظم آلة دعاية أنتجتها المنظمات الإرهابية منذ نشأتها، فهي تنجح في جعل الغربيين يتخلّون عن حياتهم الوادعة للسفر إلى مناطق التوتر والدماء المسالة بحثًا عن هدف مختلف أقرب ما يكون إلى محاولة إحداث الفرق في معادلات الموت والحياة والانتماء والشعور بالواجب.
ويؤكد محللو الخطاب الإعلامي الداعشي أن «داعش» أكثر خبرة وأعلى كعبًا على مستوى الإنتاج الإعلامي من كل التجارب السابقة، بل ومن قدرة عدد من الدول التي تحاول كبح جماح دعاية التنظيم المتطرّف على مواقع التواصل الاجتماعي. وهو لا يهدف فقط إلى تغيير كل المفاهيم بشأن دور الدين في حياة الإنسان أو تداخل العمل السياسي والمسلح مع مفهوم الانتماء للإسلام كدين متسامح، بل على العكس تمامًا، فإن خطابات «داعش» الموجهة لكوادره الغربيين تقوم بإرساء قواعد منهجية لاستقطاب كوادر نوعية مؤهلة على المستوى العسكري والإعلامي. وبالتالي فإنه يكفي لنقل إيمانهم بالتنظيم وولائهم المطلق أن تظهر لقطة فيديو تبدو عفوية يحرق فيها شبّان غربيون تشربوا حياة «داعش» جوازات سفرهم والابتسامة تعلو وجوههم. هذه الصورة التي يراد أن تستقر في الأذهان من شأنها محو كل الصور السلبية التي يكافح التنظيم بشكل عكسي لمحاربتها.
محللون آخرون يرون أن قدرة «داعش» على جذب الآلاف الغربيين على الرغم من انتشار مقاطع «حزّ الرؤوس» وسحل الأجساد في الشوارع، والتفنن في التعذيب مع التقاط صور «السيلفي» (الذاتية) يعني أننا أمام انهيار منظومة قيم أساسية، وأن «داعش» استغل ذلك لتظهر بشكل حازم غير مهادن لأعدائه بأكثر مما يعكسه الواقع الحقيقي على الأرض. هذا الحزم يجعله أيضًا أكثر جاذبية للمقاتلين الأجانب الذين يطمحون في بناء شخصية قتالية مستقلة ومؤثرة، فهؤلاء لا يحضرون لمجرد المشاركة أو الاندفاع العاطفي بقدر محاولة تغيير المعادلات على الأرض.
اللافت في تتبع سياق تجنيد «داعش» للمقاتلين الغربيين هو نوعية أولئك المقاتلين الذين لم يسبق لهم تجارب تديّن أو المرور عبر وساطة إحدى المجموعات المعتدلة أو المراكز الإسلامية التي تعاني من عبء «الإسلاموفوبيا» مع تقلّص دورها في إنتاج شخصيات متدينة قد تتبنى أفكارا راديكالية. وأن مسيرة التطور في شخصية الإرهابي التقليدية من متشدّد فكريًا إلى متعاطف مع العنف إلى ممارس له.. لا مكان لها في سيرة حياة المقاتل الغربي الذي قد لا يكون أمضى وقتًا طويلاً في الإسلام. وغالبهم كما يؤكد الخبير ماثيو غودير في بحثه الذي شمل طلابا في جامعة تولوز الفرنسية ممن انضموا أو تعاطفوا مع «داعش» جلهم من المثاليين المحبطين ومن الثوار المناهضين للرأسمالية والحكومات.
20 ألف مقاتل من الأجانب تأكد التحاقهم بصفوف «داعش» في سوريا والعراق، علما أن هناك تقارير تتحدث عن أرقام أكبر. واللافت في الأمر أن هؤلاء الأجانب ليسوا من المهاجرين، بل من الجيلين الثاني والثالث، ولقد ولدوا في أراضي الغرب وتشربوا مبادئ التعليم والهويّة والثقافة الغربية، لكن فشل الاندماج ومشكلات مجتمعية ضخمة ما كانت عوامل كافية لانتقال هؤلاء إلى مربع «داعش» لولا نجاح خطاب التنظيم في تغيير الهويّة المركبة عندهم وتفتيتها لهويّات صغيرة وبسيطة، وربما ساذجة، في تصورها عن الإسلام. وكما يؤكد بعض القادة المحللين لـ«داعش» في تفسيرهم لهذا التدفق الغربي الهائل في حواره مع الـ«سي إن إن» أنهم فقط يكرهون بلدانهم ويريدون تجربة الفرق، ونحن نمنحهم ذلك.
والحال أن «داعش» لا يخطئ في الترجمة، فهو استفاد جدًا من تاريخ ودعايات الجماعات العنفية غير الإسلامية التي تنشط في الغرب. ولذا يرى كثير من الخبراء أوجه شبه بين تلك التنظيمات المتطرفة غير الدينية وبين تجربة «داعش»، لا سيما فيما يخص خصائص وملامح المقاتلين الأجانب. فهناك ذات الأسلوب والجرأة وقلة الاكتراث ببشاعة الوحشية تشبه إلى حد ما أسلوب «الألوية الحمراء» الإيطالية أو «الجيش الأحمر» - الفصيل الدموي الذي نشط في ألمانيا الغربية - هذا بالإضافة إلى استخدام اليوتيوبيا (أو المثالية) الشيوعية ولكن بمضامين دينية تلائم البيئة الداعشية التي يتم ترويجها للأجانب. إن الموقف من توحّش رأسمالية الغرب كان الدافع الأساس لمخاطبة الجمهور الغربي الحانق، كما يؤكد توماس هيغاهمر، الباحث النرويجي الذي درس الإرهاب المشرقي، ويعود الآن بأدواته المنهجية لمقارنته بالإرهاب الغربي.
وتشير التقارير إلى أن جزءًا كبيرًا من مقاتلي «داعش» من الغربيين الذين ليس لديهم أي أصول عربية أو إسلامية هم متحولون من المسيحية، وهؤلاء يشكلون نسبة لا بأس بها من مجموعات المقاتلين الآتين من دول أوروبية، تقف على رأسها فرنسا التي تحتل المركز الأول في تصدير المقاتلين لـ«داعش».
نسبة المتحولين، مثل السيد إمدي، لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من الجاليات المسلمة في أوروبا، وهم يشكلون نحو ربع المقاتلين الأجانب من فرنسا. وبإزاء المتحولين دينيًا هناك المتحولون على مستوى الاهتمامات، إذ نلحظ ظاهرة «مغني الراب» وممارسي الرياضات العنيفة، إضافة إلى شخصيات ناجحة وظيفيًا في مجالات الإعلام الجديد وصناعة الترفيه. كل هذه المجالات يترك «داعشيوها» عالمها المليء بالألوان ليختاروا الانغماس بلون الدم هربًا من لسعات الروح القلقة الباحثة عن المختلف..كنوع من اضطراب قضايا الهويّة والانتماء التي يشكو منها إنسان اليوم.
ولكن، «داعش» بدوره يزيد من جرعات الإحساس بالعدمية والنقمة على الرأسمالية المتوحشة في خطابه باللغات الأجنبية. فالمستمع لا يجد هنا أي حديث عن «الحور العين» أو «الخلافة المسلوبة» بل يجري استثمار الغضب العام في الأوساط الغربية من إيقاع الحياة عبر الحديث عن «عبودية الوظيفة» و«الرأسمالية المتوحشة» و«الغرب المعادي للإنسان» و«العودة إلى الجذور».. إلخ.
ثم إن الخطاب المكتوب عادة ما يشفعه إعلام مرئي ذو جودة عالية تلائم الشباب الباحث عن المغامرة في الحياة وما أكثرهم. وهم كما يقول أحد المقاتلين «يريدون فعل شيء استثنائيا ومختلفا ومغامرا». وهو ما يتجلى في دعايات «داعش» على شبكات التواصل الاجتماعي التي تعتبر ملعب التنظيم الأول، إذ توجد أفلام مترجمة إلى كل اللغات الحيّة وأناشيد بلغات نادرة أو خاصة بفئة معينة، ولعل أنشودة «تعال لنا يا صديقي» باللغة الأويغورية التي تنتشر في غرب الصين (إقليم سنكيانغ، أو تركستان الشرقية) دليل على النهم الداعشي لابتلاع أكبر قدر من المجندين الأجانب من كل مكان، وهي جهود تنوء بحملها الكثير من الجماعات الإسلامية المعتدلة أو المتشددة. كما أن هذا يطرح السؤال عن البديل في ظل هذا التضخم الداعشي على مستوى المنتجات والخطاب، وإن كان تراجعهم ملموسًا على مستوى مناطق التوتر المحرّرة حيث بدأ يضيق الخناق على التنظيم.
إن المنتجات الإعلامية الداعشية مخدومة على مستوى الانتشار والحماية، فهناك العشرات من «المواقع الصديقة» التي تقدم مواد «داعش» مجانًا بصيغ مختلفة وبلغات كثيرة، منها الحيّة ومنها اللغات المحلية لشعوب الهند وشرق آسيا والصين، وصولاً إلى دول أفريقية كثيرة صارت تعاني من تمدد دعاية التنظيم.
الأكاديمية الوطنية للعلوم ومقرها في الولايات المتحدة (PNAS) قامت بصكّ مصطلح للتعبير عن تمدد «داعش» والجماعات الإرهابية بفضل منتجات إعلامية صغيرة وتغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي هو «فيتموريسك femtorisk». المصطلح يعني تضخم ظواهر صغيرة عددًا وعدة على ممارسة تأثير ضخم وكبير في العالم، وهو ما حصل للتنظيم بعدما عاد إلى الأضواء في خضم الدعاية ضده وضد وحشيته ليحصد الآلاف من الأنصار. وهو هنا يعتبر خيارًا مثاليًا لتمدّد التأثير المعنوي مع محدودية القوة العددية. إنه بالضبط، كما يقول خبير إعلامي مهتم بظاهرة الإعلام التحريضي، إن «تستطيع جماعة ما الحضور الإعلامي المكثف وتصدر شاشات التلفزيون والأخبار، أي ألا تمر 24 ساعة دون أن يمر ذكر (داعش)، هذا هو النجاح الإعلامي بغض النظر عن التقدم على الأرض».



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».