«داعش» لا يخطئ في الترجمة

صعود المقاتلين الغربيين بشكل غير مسبوق حوّر السؤال من «لماذا يكرهوننا؟} إلى {كيف جندوا شبابنا؟»

«داعش» لا يخطئ في الترجمة
TT

«داعش» لا يخطئ في الترجمة

«داعش» لا يخطئ في الترجمة

قدرة تنظيم داعش المتطرف على تجنيد الأعضاء باتت هاجسًا للدوائر الأمنية والسياسية في العالم. ومما يقلق هذه الدوائر تطور الخطاب التواصلي الجاذب الذي يستخدمه التنظيم لترويج نفسه وتسويق نشاطه، وتنوعه تبعًا لكل بيئة يستهدفها. وكذلك الإمكانيات التقنية والمالية التي تتيح له الإطلالة على كل البيئات التي يأنس فيها وجود أرضية واعدة لكسب المناصرين والأعضاء، وبين هؤلاء أبناء الجيلين الثاني والثالث في الدول الغربية من الذين يواجهون مشكلات مع الاندماج، أو خاب أملهم بالثقافة الغربية التي يعيشون.
«أن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدًا»، ربما هذا ما يتردد في نفوس الكثير من الباحثين الغربيين ومراكز الدراسات المتخصصة في معالجة الإرهاب. إذ بدأ الجميع يغيّر حقيبته المملوءة بـ«الصور النمطية» عن الإرهابي والانتحاري، المكتئب، القليل التعليم، الخارج عن سياقه المجتمعي بسبب مشكلات البطالة والعنف وقبضة السلطة.
لكن مشكلة الإرهاب أنه يتطوّر بشكل متسارع ومذهل يفوق الكثير من حملات محاربته ومناشط مكافحته، فهو إن جاء متأخرا يكون قد ازداد قوة وصلابة ووحشية، وكذلك قدرة على تجاوز كل العقبات الأمنية والعسكرية، وهو ما بات ظاهرة تطفح بها عبارات الحسرة على لسان العائلات التي فقدت ذويها لصالح تنظيم داعش ودون أي مقدمات.
فرنسي عجوز طاعن في السن يبكي شقيقته وابنها اللذين كانا في طريقهما لقضاء إجازة في تركيا إلا أنهما بسبب تأثير خطاب «داعش» الاستقطابي وصلا أخيرًا إلى سوريا. وهو ما يفتح السؤال كيف يغادر شبّان صغار ليس لهم حظ من التديّن في بلدانهم ليعودوا إرهابيين تعرضوا لأقصى أنواع غسيل الدماغي والتغيير المفاهيمي بسبب بيئة التطرف والعنف التي عاشوا فيها؟
كيف وقع هؤلاء فريسة للتجنيد على أساس «الهويّة».. في حين ضاقت بهم هويّاتهم الأصلية التي تتعرّض في كل العالم إلى أزمات خانقة وتحديات كبيرة؟
بول كروكشانك، أحد محللي الإرهاب البارزين - وهو بريطاني مقيم في نيويورك - يذهب إلى أن «داعش» نجح في خلق صورة نمطية سهلة وجاذبة بسبب غفلة الدول المتضرّرة منها بالصراع على القضايا الإقليمية، مما أسهم في انتعاش التنظيم وقدرته على التجنيد، فهم عبر أفلامهم ومنتجاتهم الإعلامية الموجه للغرب يقدمون جانبًا من حياة محافظة وسلهة وبسيطة توحي بالألفة والروح المعنوية العالية، ومظاهر البطولة والتحدي والانتصار كجزء من «احترام الذات» الذي يفتقده الإنسان المعاصر المشغول حتى أخمص قدميه بملاحقة إيقاع الحياة السريع.
ويرى ماثيو أولسن، مدير المركز القومي لمكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة، في هذه الصورة النمطية المريحة أعظم آلة دعاية أنتجتها المنظمات الإرهابية منذ نشأتها، فهي تنجح في جعل الغربيين يتخلّون عن حياتهم الوادعة للسفر إلى مناطق التوتر والدماء المسالة بحثًا عن هدف مختلف أقرب ما يكون إلى محاولة إحداث الفرق في معادلات الموت والحياة والانتماء والشعور بالواجب.
ويؤكد محللو الخطاب الإعلامي الداعشي أن «داعش» أكثر خبرة وأعلى كعبًا على مستوى الإنتاج الإعلامي من كل التجارب السابقة، بل ومن قدرة عدد من الدول التي تحاول كبح جماح دعاية التنظيم المتطرّف على مواقع التواصل الاجتماعي. وهو لا يهدف فقط إلى تغيير كل المفاهيم بشأن دور الدين في حياة الإنسان أو تداخل العمل السياسي والمسلح مع مفهوم الانتماء للإسلام كدين متسامح، بل على العكس تمامًا، فإن خطابات «داعش» الموجهة لكوادره الغربيين تقوم بإرساء قواعد منهجية لاستقطاب كوادر نوعية مؤهلة على المستوى العسكري والإعلامي. وبالتالي فإنه يكفي لنقل إيمانهم بالتنظيم وولائهم المطلق أن تظهر لقطة فيديو تبدو عفوية يحرق فيها شبّان غربيون تشربوا حياة «داعش» جوازات سفرهم والابتسامة تعلو وجوههم. هذه الصورة التي يراد أن تستقر في الأذهان من شأنها محو كل الصور السلبية التي يكافح التنظيم بشكل عكسي لمحاربتها.
محللون آخرون يرون أن قدرة «داعش» على جذب الآلاف الغربيين على الرغم من انتشار مقاطع «حزّ الرؤوس» وسحل الأجساد في الشوارع، والتفنن في التعذيب مع التقاط صور «السيلفي» (الذاتية) يعني أننا أمام انهيار منظومة قيم أساسية، وأن «داعش» استغل ذلك لتظهر بشكل حازم غير مهادن لأعدائه بأكثر مما يعكسه الواقع الحقيقي على الأرض. هذا الحزم يجعله أيضًا أكثر جاذبية للمقاتلين الأجانب الذين يطمحون في بناء شخصية قتالية مستقلة ومؤثرة، فهؤلاء لا يحضرون لمجرد المشاركة أو الاندفاع العاطفي بقدر محاولة تغيير المعادلات على الأرض.
اللافت في تتبع سياق تجنيد «داعش» للمقاتلين الغربيين هو نوعية أولئك المقاتلين الذين لم يسبق لهم تجارب تديّن أو المرور عبر وساطة إحدى المجموعات المعتدلة أو المراكز الإسلامية التي تعاني من عبء «الإسلاموفوبيا» مع تقلّص دورها في إنتاج شخصيات متدينة قد تتبنى أفكارا راديكالية. وأن مسيرة التطور في شخصية الإرهابي التقليدية من متشدّد فكريًا إلى متعاطف مع العنف إلى ممارس له.. لا مكان لها في سيرة حياة المقاتل الغربي الذي قد لا يكون أمضى وقتًا طويلاً في الإسلام. وغالبهم كما يؤكد الخبير ماثيو غودير في بحثه الذي شمل طلابا في جامعة تولوز الفرنسية ممن انضموا أو تعاطفوا مع «داعش» جلهم من المثاليين المحبطين ومن الثوار المناهضين للرأسمالية والحكومات.
20 ألف مقاتل من الأجانب تأكد التحاقهم بصفوف «داعش» في سوريا والعراق، علما أن هناك تقارير تتحدث عن أرقام أكبر. واللافت في الأمر أن هؤلاء الأجانب ليسوا من المهاجرين، بل من الجيلين الثاني والثالث، ولقد ولدوا في أراضي الغرب وتشربوا مبادئ التعليم والهويّة والثقافة الغربية، لكن فشل الاندماج ومشكلات مجتمعية ضخمة ما كانت عوامل كافية لانتقال هؤلاء إلى مربع «داعش» لولا نجاح خطاب التنظيم في تغيير الهويّة المركبة عندهم وتفتيتها لهويّات صغيرة وبسيطة، وربما ساذجة، في تصورها عن الإسلام. وكما يؤكد بعض القادة المحللين لـ«داعش» في تفسيرهم لهذا التدفق الغربي الهائل في حواره مع الـ«سي إن إن» أنهم فقط يكرهون بلدانهم ويريدون تجربة الفرق، ونحن نمنحهم ذلك.
والحال أن «داعش» لا يخطئ في الترجمة، فهو استفاد جدًا من تاريخ ودعايات الجماعات العنفية غير الإسلامية التي تنشط في الغرب. ولذا يرى كثير من الخبراء أوجه شبه بين تلك التنظيمات المتطرفة غير الدينية وبين تجربة «داعش»، لا سيما فيما يخص خصائص وملامح المقاتلين الأجانب. فهناك ذات الأسلوب والجرأة وقلة الاكتراث ببشاعة الوحشية تشبه إلى حد ما أسلوب «الألوية الحمراء» الإيطالية أو «الجيش الأحمر» - الفصيل الدموي الذي نشط في ألمانيا الغربية - هذا بالإضافة إلى استخدام اليوتيوبيا (أو المثالية) الشيوعية ولكن بمضامين دينية تلائم البيئة الداعشية التي يتم ترويجها للأجانب. إن الموقف من توحّش رأسمالية الغرب كان الدافع الأساس لمخاطبة الجمهور الغربي الحانق، كما يؤكد توماس هيغاهمر، الباحث النرويجي الذي درس الإرهاب المشرقي، ويعود الآن بأدواته المنهجية لمقارنته بالإرهاب الغربي.
وتشير التقارير إلى أن جزءًا كبيرًا من مقاتلي «داعش» من الغربيين الذين ليس لديهم أي أصول عربية أو إسلامية هم متحولون من المسيحية، وهؤلاء يشكلون نسبة لا بأس بها من مجموعات المقاتلين الآتين من دول أوروبية، تقف على رأسها فرنسا التي تحتل المركز الأول في تصدير المقاتلين لـ«داعش».
نسبة المتحولين، مثل السيد إمدي، لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من الجاليات المسلمة في أوروبا، وهم يشكلون نحو ربع المقاتلين الأجانب من فرنسا. وبإزاء المتحولين دينيًا هناك المتحولون على مستوى الاهتمامات، إذ نلحظ ظاهرة «مغني الراب» وممارسي الرياضات العنيفة، إضافة إلى شخصيات ناجحة وظيفيًا في مجالات الإعلام الجديد وصناعة الترفيه. كل هذه المجالات يترك «داعشيوها» عالمها المليء بالألوان ليختاروا الانغماس بلون الدم هربًا من لسعات الروح القلقة الباحثة عن المختلف..كنوع من اضطراب قضايا الهويّة والانتماء التي يشكو منها إنسان اليوم.
ولكن، «داعش» بدوره يزيد من جرعات الإحساس بالعدمية والنقمة على الرأسمالية المتوحشة في خطابه باللغات الأجنبية. فالمستمع لا يجد هنا أي حديث عن «الحور العين» أو «الخلافة المسلوبة» بل يجري استثمار الغضب العام في الأوساط الغربية من إيقاع الحياة عبر الحديث عن «عبودية الوظيفة» و«الرأسمالية المتوحشة» و«الغرب المعادي للإنسان» و«العودة إلى الجذور».. إلخ.
ثم إن الخطاب المكتوب عادة ما يشفعه إعلام مرئي ذو جودة عالية تلائم الشباب الباحث عن المغامرة في الحياة وما أكثرهم. وهم كما يقول أحد المقاتلين «يريدون فعل شيء استثنائيا ومختلفا ومغامرا». وهو ما يتجلى في دعايات «داعش» على شبكات التواصل الاجتماعي التي تعتبر ملعب التنظيم الأول، إذ توجد أفلام مترجمة إلى كل اللغات الحيّة وأناشيد بلغات نادرة أو خاصة بفئة معينة، ولعل أنشودة «تعال لنا يا صديقي» باللغة الأويغورية التي تنتشر في غرب الصين (إقليم سنكيانغ، أو تركستان الشرقية) دليل على النهم الداعشي لابتلاع أكبر قدر من المجندين الأجانب من كل مكان، وهي جهود تنوء بحملها الكثير من الجماعات الإسلامية المعتدلة أو المتشددة. كما أن هذا يطرح السؤال عن البديل في ظل هذا التضخم الداعشي على مستوى المنتجات والخطاب، وإن كان تراجعهم ملموسًا على مستوى مناطق التوتر المحرّرة حيث بدأ يضيق الخناق على التنظيم.
إن المنتجات الإعلامية الداعشية مخدومة على مستوى الانتشار والحماية، فهناك العشرات من «المواقع الصديقة» التي تقدم مواد «داعش» مجانًا بصيغ مختلفة وبلغات كثيرة، منها الحيّة ومنها اللغات المحلية لشعوب الهند وشرق آسيا والصين، وصولاً إلى دول أفريقية كثيرة صارت تعاني من تمدد دعاية التنظيم.
الأكاديمية الوطنية للعلوم ومقرها في الولايات المتحدة (PNAS) قامت بصكّ مصطلح للتعبير عن تمدد «داعش» والجماعات الإرهابية بفضل منتجات إعلامية صغيرة وتغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي هو «فيتموريسك femtorisk». المصطلح يعني تضخم ظواهر صغيرة عددًا وعدة على ممارسة تأثير ضخم وكبير في العالم، وهو ما حصل للتنظيم بعدما عاد إلى الأضواء في خضم الدعاية ضده وضد وحشيته ليحصد الآلاف من الأنصار. وهو هنا يعتبر خيارًا مثاليًا لتمدّد التأثير المعنوي مع محدودية القوة العددية. إنه بالضبط، كما يقول خبير إعلامي مهتم بظاهرة الإعلام التحريضي، إن «تستطيع جماعة ما الحضور الإعلامي المكثف وتصدر شاشات التلفزيون والأخبار، أي ألا تمر 24 ساعة دون أن يمر ذكر (داعش)، هذا هو النجاح الإعلامي بغض النظر عن التقدم على الأرض».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.