موجة رومانسية تشكل خمس الإنتاج العالمي من الكتب الأدبيّة سنوياً

احتلت القوائم الأكثر مبيعاً حسب معطيات معرض لندن

جانب من معرض لندن للكتاب 2023 (ذا بوك سيلر)
جانب من معرض لندن للكتاب 2023 (ذا بوك سيلر)
TT

موجة رومانسية تشكل خمس الإنتاج العالمي من الكتب الأدبيّة سنوياً

جانب من معرض لندن للكتاب 2023 (ذا بوك سيلر)
جانب من معرض لندن للكتاب 2023 (ذا بوك سيلر)

مع تكرّس هيمنة البرجوازيّات على عالم الغرب في القرن التاسع عشر أصبحت الرّواية أهم الأشكال الأدبيّة وأكثرها انتشاراً وأقدرها على التعبير عن مجمل تجارب وتطلعات وخبرات ونوستالجيات الطّبقة الصاعدة. وقتها طغت كتابات الروائيين الرومانسيين الأوائل على هذا النوع الأدبي الجديد، وشهدت فترة الخمسين عاماً ما بين 1775 و1825 ظهور عدد كبير من التجارب التي لقيت رواجاً كبيراً بمقاييس تلك الأيّام - لا سيّما في فرنسا - وأصبحت تعدّ اليوم الأعمال المؤسسة للرواية الرومانسيّة مثل (بول وفيرجيني - 1789) لبرناردين دي سان بيير، و(آتالا – 1801) لشاتوبريان، و(كورين 1807) لمدام دوستايل وأيضاً (أدولف 1816) لبنجامان كونستان، وغيرها.
ويقول مؤرخو الأدب إن تلك الأعمال قدمّت للطبقة البرجوازية المتعلمة، التي تمتعت بفضل ثرواتها المستجدة بأوقات فراغ مديدة، متعة عيش بطولات وأجواء غراميّة خيالية أخذتهم من فروسيّات العصور الوسطى إلى واقعيات راهن أيّامهم، ومن استكشاف أغوار النفس البشرية وأقدارها في الحبّ إلى قراءة الرموز والدوافع الاجتماعيّة وراء العلاقات الغراميّة، وساعدتهم على إعادة اكتشاف ذواتهم بعدما تراجعت مساهمة الكنيسة والدّين في تفسير علاقتهم بالعالم.
وإذا كانت الرومانسيّات تراجعت تالياً وأفسحت المجال لصعود أنواع أدبيّة أخرى في فضاء الرواية، فإنّ بريقها لم يخب بالكليّة، واستمرت دائماً، وحتى وقتنا الحاليّ، مساحة أساسيّة من مجمل الإنتاج المطبوع للعالم.
وعلى الرّغم من أنّ النّقاد الأدبيين قد لا يعترفون بقيمة معظم الأعمال الرومانسيّة ويصنفونها ضمن الأدب التجاري أو الكتابة الشعبيّة، فإن حجم الصّناعة يتجاوز الآن ملياري دولار أميركي في مجال الكتب - مطبوعة وإلكترونيّة ومسموعة – أي نحو خمس كل إنتاج الكتب الأدبيّة العالمي سنوياً، وتُنشر شهرياً آلاف العناوين التي يترجم العديد منها سريعاً إلى معظم لغات العالم الرئيسيّة، ناهيك بالطّبع من عدّة مليارات أخرى في سوق إنتاج الرّومانسيات على الشّاشات، سينمائيّة وتلفزيونيّة. وهناك ملايين القراء الشّرهين الذين يشترون كتابا تلو الآخر في هذه الفئة أساساً، ويتابعون الإصدارات الجديدة باهتمام، وهم بالمناسبة ليسوا جميعاً من النساء، إذ إن 18 في المائة من قرّاء روايات الغرام هم في الحقيقة – وفق دراسات واستطلاعات شركات التسويق المتخصصة - من الذّكور.
لكّن المراقبين الذين تابعوا فعاليّات معرض لندن للكتاب في نسخته الأخيرة (18 - 20 أبريل «نيسان» الماضي) - الذي يعد أهم تظاهرة على الإطلاق لصناعة الكتاب في هذه الجهة من الأطلسي - أشاروا إلى تكرّس اتجاه متعاظم لسيطرة الرومانسيّات على قوائم الأكثر مبيعاً لدى متاجر الكتب. وقدّمت شركة نيلسون لدراسات التسويق لجمهور المعرض أرقاماً من أسواق العالم الرئيسيّة للكتاب تظهر تقدّم قصص الحب والغرام على أنواع الرواية الأخرى بمجموع المبيع من النسخ، وأظهرت تصدر رواية (It Ends with Us) للأميركيّة كولين هوفرز القوائم منذ 2016 وإلى 2022 لدى ثلاثة آلاف من تجار الكتب في بريطانيا وأستراليا والبرازيل ونيوزيلندا وآيرلندا وجنوب أفريقيا وغيرها من الأسواق التي تتابعها الشركة، هذا بالطبع سوى مبيعاتها المليونيّة في الولايات المتحدة، لتزيح بذلك ثلاثية (Fifty Shades of Grey) للكاتبة البريطانية إريكا ميتشيل (التي تكتب باسمها الأدبي إي. إل. جيمس) من هذا الموقع الذي تمسكت به منذ صدور جزئها الأوّل عام 2011. وقد تجاوزت مبيعات أربعة من أعمال هوفرز حاجز المليون نسخة، بما فيها رواية (It Ends with Us) التي باعت إلى اليوم وحدها أكثر من عشرين مليون نسخة.
واللّافت كما يقول الخبراء أنّ هذه الموجة الشاهقة من التعطش للحب والعواطف الفائرة والنهايات السعيدة لا تقتصر على دنيا الكتاب، لكنّها ملحوظة أيضاً في النتاجات البصريّة. وبحسب أرقام مواقع متخصصة فإن ما لا يقل عن 36 فيلماً سينمائياً رومانسياً جديداً سيطلق هذا العام، سوى مجموعات كاملة من المسلسلات والقصص الرومانسيّة المبرمجة للعرض على منصات البث عبر الإنترنت (نيتفليكس وأخواتها).
فمن هذا الجمهور الذي يشتري هذه الكتب ويتابع هذه الأعمال؟ وما سرّ هذا الإقبال المتفجّر عليها خلال السنوات القليلة الماضية؟
يقول الخبراء إن قرّاء الرومانسيات ينتمون غالباً إلى المجموعة العمريّة (من 30 – 54 عاماً)، وهم بشكل عام متعلمون تعليماً جامعياً، ويتمتعون بدخل يضعهم ضمن الجزء العلوي من الطبقة الوسطى، وستون في المائة منهم مرتبطون بعلاقات دائمة – زوجيّة، أو ما يماثلها -، ويقرأون أكثر بعشر مرّات من معدل عدد الكتب التي يقرأها الفرد (في الولايات المتحدة مثلاً)، ويحمل ثلثهم في حقائبهم الشخصية رواية رومانسيّة يرجعون إليها كلّما تسنى لهم الوقت، ومعظمهم ينهي النصّ الذي في يديه خلال سبعة أيّام كمعدل.
وبالتأكيد، فإن ثمة غايات متفاوتة يحققها هؤلاء الأشخاص من متابعتهم للأعمال الرومانسيّة. فالرّجال مثلاً يشيرون إلى أنّها تساعدهم على استعادة مزاج العواطف الغراميّة بعيداً عن أجواء الابتذال التي تسود الثقافة المعاصرة وترّوج للتّطرفات والجنس والعلاقات غير السويّة. أمّا النساء – وهن الأغلبية الساحقة من مستهلكي الكتاب الرومانسي – فقد عبّرن عن أسباب عديدة، مثل الحاجة إلى جرعة من الهدوء والعواطف في مواجهة سيل الأخبار السيئة التي تتدفق من دون توقف عبر الشاشات والصحف والهواتف الذكيّة، لا سيما أن القارئة تضمن أنّها في نهاية الرواية ستجد نهاية سعيدة – ورغم أن بعض الكتب الرومانسيّة تصف حكايات أكثر قتامة مثل سوء المعاملة أو الصدمات العاطفيّة لكن تجنبها سهل في زمن الإنترنت -، أو فرصة للهروب من العالم الحقيقي والانغماس في عالم شخص آخر، واختبار مشاعره وعواطفه دون شعور بالذنب أو التناقض مع الحياة الواقعية أو الأدوار الاجتماعيّة المتعددة التي تلعبها بصفتها زوجة وأما وموظفة وابنة وشقيقة وصديقة. وبالطبع، فإن الخيال الرومانسي يتيح لنا الهرب إلى زمن آخر، أول بلد مختلف، أو حتى تجربة مشاعر الحب الجياشة في عمر غير عمرنا، وربما في ظرف اجتماعي أو وظيفة لم نختبرها من قبل، ما يتّفق علماء النفس على أنّه يساعد على تحسن الصحة العقليّة عموماً، ويمكن أن يعيد الحيوية حتى لعلاقاتنا القائمة.
ولكن هذه الأسباب التي تدفع البعض لقراءة الرومانسيّات على وجاهتها تظل في النهاية مسائل شخصيّة مرتبطة بتجربة الفرد ذاته وعلاقاته وتجاربه الإنسانيّة المختلفة، ولا تفسّر لنا بالضرورة تلك العودة المحمومة لهذا النوع الروائي ليوسع قاعدته بهذا الشكل الذي شهدناه، واكتساحه الأنواع الأخرى. على أن تأمّل أمور عالمنا في العقد الأخير قد يجعل من الإقبال على قصص الحب الخيالية أمراً مفهوماً وغير مفاجئ. لقد أصبحت أحوال الجيل الحالي من أبناء الطبقات الوسطى في المجتمعات الغربيّة أكثر كآبة بعد أن تكالبت عليهم عدّة مصائب متلاحقة لا تجتمع عادة جميعاً في جيل واحد: الأزمة المالية العالميّة في 2008 وما ترتبت عليها من بطالة وإفلاس وسياسات تقشف حكوميّ، قبل أن تلحق بها تهديدات المناخ، وكوابيس وباء كوفيد - 19، وأزمات اللجوء، ثمّ حرب أوكرانيا، والصراع الروسي – الأميركي هناك، وأزمة التضخم المفرط التي نتجت عنهما، وبالتالي ارتفاع تكاليف المعيشة وانقطاعات الطاقة، وأيضاً الاستقطابات الثقافيّة الحادة بين مكونات المجتمع الواحد.
ويبدو أن الفن الأدبي يميل في النهاية إلى معارضة الأوضاع القائمة والسعي إلى توفير ملجأ للهروب منها، كما لو كان أفيوناً للشعوب - وفق توصيف كارل ماركس لحاجة الفقراء والمهمشين إلى السلوى في مواجهة شظف العيش - وهكذا عندما تكون أمور العالم مستقرّة ومتفائلة، فإننا نذهب في التعبير الأدبي نحو الديستوبيا القاتمة، وعندما نغرق في القنوط والظلمات، نفرّ إلى حيث الحبّ المتخيّل، والفرح الموعود، والنهايات السعيدة. وإذا كان هذا التقييم صحيحاً، فإن تعاطينا الزائد للرومانسية خلال الأعوام الأخيرة دلالة يأس، وعلامة خلل في هذا العالم.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.