رواية جديدة لماركيز بعد 10 سنوات على رحيله

ولداه رودريغو وغونزالو قررا نشرها بعد تردد طويل

غابرييل غارسيا ماركيز
غابرييل غارسيا ماركيز
TT

رواية جديدة لماركيز بعد 10 سنوات على رحيله

غابرييل غارسيا ماركيز
غابرييل غارسيا ماركيز

في مثل هذه الأيام من مطلع ربيع العام المقبل تصدر رواية جديدة للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز؛ تزامناً مع مرور عشر سنوات على رحيله في المنزل الذي عاش معظم سنوات حياته بين جدرانه في مكسيكو بعد أن أمضى أشهراً لم يكن يتعرّف فيها حتى على أبنائه. هذا ما قرره ورثته بشأن مخطوط الرواية التي تحمل عنوان En Agosto nos vemos «إلى اللقاء في أغسطس» وتقع في 150 صفحة استعصى إنهاؤها على صاحب «مائة عام من العزلة» طوال سنوات، وأعاد كتابتها مرات عدة قبل إيداعها إلى جانب أوراقه في مركز هارّي رانسون التابع لجامعة تكساس الأميركية التي اشترت كامل إرثه المادي. وستصدر الرواية عن دار «بنغوين رانسون هاوس» في جميع البلدان الناطقة بالإسبانية ما عدا المكسيك.
تضمّ الرواية خمس قصص منفصلة عن بعضها، لكنها تشكّل وحدة متكاملة بطلتها امرأة مثقّفة على مشارف الشيخوخة تدعى آنا ماغدالينا باخ، لكنها ما زالت على قدر وافر من الجمال، تسافر منتصف كل أغسطس (آب) إلى الجزيرة الصغيرة، حيث مثوى والدتها في مقبرة الفقراء لتقصّ عليها تفاصيل مغامراتها العاطفية ولقاءاتها الجنسية مع عشّاقها خلسة عن زوجها.
أوّل مرة سمعنا عن هذه الرواية كانت عام 1999 عندما قرأ ماركيز إحدى القصص الخمس في أمسية نظّمها «بيت أميركا» في مدريد، معلناً أنها ستكون منطلق رواية جديدة له ترى النور قريباً. يومها كان ماركيز قد أكمل الثانية والسبعين من عمره، وتعافى من إصابة بالسرطان، وكان يرافقه صديقه رئيس الوزراء الإسباني الأسبق فيليبي غونزاليس. ومن مقاطع هذه القصة
«عادت إلى الجزيرة في السادس عشر من أغسطس على متن الباخرة الصغيرة التي رست على رصيف الميناء في الثالثة بعد الظهر. كانت ترتدي قميصاً يحمل رسوم مربعات أسكوتلندية وسروالاً جينزاً، وتنتعل حذاءً بسيطاً من غير جوارب، وتحمل مظلّة قماشية وحقيبة بحرية صغيرة. ولما بلغت طابور سيارات الأجرة على ناصية الرصيف، توجهت مباشرة إلى سيارة قديمة كان الصدأ قد تآكلها بسبب تعرّضها الدائم لماء البحر المالح. استقبلها السائق بعبارات تدلّ على معرفة قديمة بينهما، وانطلقت بهما السيارة في شوارع القرية المكسوّة بالتراب الأبيض بين المنازل المسقوفة بسعف النخيل والمطلّة على بحر متقّد تحت نور الشمس الغاربة». ما أن انتهى ماركيز من تلاوة هذا المقطع الأول من القصة، حتى انفجرت القاعة بالتصفيق الحاد قبل أن يطلب من الحضور التزام الصمت، ومن الذين يشعرون بالملل الخروج بهدوء؛ حرصاً على عدم إيقاظ النائمين... وعلا الضحك، وسمعت قهقهة، ومرة أخرى دوّى التصفيق. في الأيام المقبلة ستنشر «الشرق الأوسط»، بعد الحصول على إذن من العائلة، نص إحدى القصص الخمس التي تشكّل هذه الرواية.
من الأسباب التي حالت دون صدور هذه الرواية في الموعد الذي كان ماركيز قد حدده، أنه أراد إنهاء مذكراته التي كان الناشر يلحّ عليه لإصدارها، ونزلت إلى الأسواق في العام 2002 ولاقت رواجاً كبيراً، وبخاصة في سوق الولايات المتحدة. وفي العام 2004 صدرت له روايته الأخيرة «مذكرات مومساتي الحزانى» التي تضمّ هي أيضاً مجموعة من القصص المستقلة عن بعضها. لكن «إلى اللقاء في أغسطس» التي كان منتظراً أن ترى النور في ذلك الوقت، بقيت بين مخطوطات الكاتب، ربما أيضاً بسبب من تدهور ذاكرته الذي كان قد بدأ في تلك الفترة واستمرّ حتى وفاته عام 2014 عن 87 عاماً.
وفي العام 2004 كان ماركيز قد أدلى بتصريحات صحافية قال فيها إنه «راضٍ كل الرضى» عن مقاربته للأزمة التي كانت تعاني منها بطلة الرواية، لكن ناشره صرّح بعد عام على وفاته بأنه لم يكن مقتنعاً بالنتيجة النهائية التي آلت إليها الرواية على رغم السنوات التي أمضاها في كتابتها. والمعروف عن ماركيز أنه كان يعدّ كتابة رواياته ما لا يقلّ عن عشر مرات قبل أن يستقرّ على الصيغة التي يريدها، وهذا ما لم يحصل له مع «إلى اللقاء في أغسطس» التي قرّر تنحية مخطوطها بين محفوظاته.
بعد وفاته بات قرار نشر الرواية أو عدمه بيد ولديه رودريغو وغونزالو اللذين فكّرا مراراً بنشرها خلال السنوات العشر المنصرمة إلى أن استقرّ رأيهما مؤخراً على إصدارها في الذكرى السنوية العاشرة لرحيله.
يقول غونزالو في مكالمة هاتفية مع «الشرق الأوسط»: «هذه الرواية هي ثمرة الجهد الأخير الذي بذله والدي للاستمرار في الكتابة رغم الظروف الصحية التي كان بدأ يعاني منها. ولدى قراءتها مرة أخرى بعد عشر سنوات تقريباً على وفاته، اكتشفنا أن النص يزخر بالعديد من المزايا التي تستدرج القارئ إلى التمتع بأبرز ما في أعمال غابو: قدرته على الإبداع، ولغته الشعرية، وسرديته الأخّاذة، ومعرفته العميقة بمكامن النفس البشرية، ومدى التصاقه الحميم بما عاشه من التجارب، وبخاصة في الحب الذي ربما هو المحور الأساس والمحرك الأول لكل أعماله».
وتجدر الإشارة إلى أن الأرشيف الشخصي الكامل لماركيز كانت قد اشترته في العام 2014 جامعة تكساس بمبلغ 2.2 مليون دولار، وأودعته مركز هارّي رانسون للعلوم الإنسانية. ويضمّ الأرشيف كل ما كان الكاتب يحفظه في منزله بمكسيكو، مجموعاً في عشرين صندوقاً، بينها المخطوطات العشر التي وضعها لرواية «إلى اللقاء في أغسطس». قبل بذلك بعام كانت محفوظات غابو تضمّ 78 علبة من الوثائق، إلى جانب 43 مجموعة من الصور، إضافة إلى 22 دفتراً من المدوّنات. وفي العام 2015 أصبح الأرشيف في متناول الباحثين، ثم متاحاً بالوسائل الرقمية منذ العام 2017.
وتفيد الخريطة التي وضعها معهد سرفانتيس لترجمات الأعمال الأدبية الإسبانية، بأن ماركيز هو الكاتب الأكثر ترجمة إلى اللغات الأخرى في القرن الواحد والعشرين، متفوقاً حتى على واضع الكيخوتي. ومن المنتظر أن تنقل هذه الرواية الأخيرة إلى لغات عدة، من بينها الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية والعربية.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».