كابوسية مدينة تمسخ وجوه أهلها

محمد أبو زيد في روايته «ملحمة رأس الكلب»

كابوسية مدينة تمسخ وجوه أهلها
TT

كابوسية مدينة تمسخ وجوه أهلها

كابوسية مدينة تمسخ وجوه أهلها

يضع الكاتب الروائي محمد أبو زيد في روايته «ملحمة رأس الكلب» المدينة في موازاة سردية مع تقنيات الحياة المعاصرة، حيث الشوارع والمقاهي ومحطات «الأتوبيس» ومنصات الـ«تيك توك»، عوالم مُقنّعة، يبحث الكاتب في حقيقة وجوهها المستعارة، عبر أبطاله الذين تجمعهم الوحدة، والهُوية المفقودة؛ مستعيناً بالفانتازيا أداة لإعادة ترتيب العالم الذي يبدو في الرواية مبعثراً بين أصوات تائهة لثلاثة رُواة رئيسيين، وفي الخلفية أصوات فرعية تشارك في إعادة بناء المدينة المُتخيلة، حيث يبرز «نباح» الكلاب و«مُواء» القطط كأصوات سردية يقوم الكاتب بتوظيفها في الرواية كأصحاب حقوق يكابدون قسوة أهالي المدينة.
وتصل كابوسية المدينة إلى درجة مسخ وجوه أهلها، فهل يمكنك تصوّر ما إذا تبدل رأسك البشري برأس زرافة أو قط أو كلب؟ على متن هذا السؤال يؤسس أبو زيد بناءه الروائي باحثاً وراء تلك المفارقة عن سؤال المصير الإنساني الغائم، حيث «كل من لا يملك الإجابة عن سؤال ذاته فهو تائه».

طاقة سحرية
تتوزع الرواية الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» المصرية بين 3 شخوص. تقود دفة السرد «دو» و«لبنى»، وهما فتاتان في عمر العشرين تكتشفان مشاعر الوحدة مبكراً، وتشتركان في نظرتهما العاطفية للحياة، فـ«دو» تدوّن في دفتر مذكراتها الأزرق قائمة بأسماء عُشاق خياليين مرّوا في حياتها دون أن يعرفوا ذلك، وهي قائمة تشمل سائقي حافلات، وبائعي سوبر ماركت، ورُكاب حافلة عابرين، جميعهم كانت تضيفهم في دفترها الأزرق كعشاق أحبتهم في خيالها من طرف واحد، وكانت تتشارك سر قصص حبها الخيالية مع «لبنى» صديقتها الوحيدة التي لم تفقد يوماً حلمها بأن تصير ساحرة تقليدية تطير فوق مكنسة بعدما تُتمتم بتعويذة.
تبدو الغرابة عاملاً مشتركاً في بناء العالمين النفسي والدرامي لكل من «دو» و«لبنى»، ما يؤسس لمصادفة لقائهما رجلاً له جسد بشري، لكنه برأس كلب «كان يرتدي بنطلون جينز أزرق، وقميصاً أبيض بياقة زرقاء، وحزاماً أسود، وكان له رأس كلب: فم كلب، وأنف كلب، وعينا كلب»، وهي المعالم الشكلية التي أطلّ بها البطل المركزي للرواية، الذي يضعه الكاتب في اختبار مصيري، حيث ينتزعه من عالم البشر إلى عالم ممسوخ يدفعه للبحث في تاريخه عن سبب منطقي لهذا المصير. في المقابل تتوحّد «دو» مع سؤال البطل عن مصيره بعدما تقع في حبه، وتسعى «لبنى» لاستدعاء طاقاتها السحرية لإعادة رأسه الحقيقي له من جديد. فتبدو رحلة الثلاثة أقرب لمغامرة خرافية، بحثاً عن تبادل التعاطف والإيمان بالمعجزات في عالم مُترع بقسوة البشر وأحكامهم العنيفة. كما تبدو على لسان أبطالها الثلاثة مُترعة بالتفاصيل العائلية التي يمكن الاستدلال بها على ملامح الوحدة التي استلبتهم، ودفعتهم إلى براثن الفضاء الإلكتروني، والهروب من ذكريات الواقع التي لا تقل عبثية، فوالد البطل يموت فجأة بسبب «نكتة» قرأها في كتاب «مائة نكتة ونكتة»، فتصير لعنة موته مرتبطة بكثرة الضحك: «ضحكة كبيرة طويلة لا تنتهي، ضحكة تحوّلت في النهاية إلى بكاء ونحيب ونشيج ونواح وعويل، سقط وجهه في بركة من دموعه ومخاطه ولعابه وعيناه تحدقان برعب في شيء مجهول».
يكابد البطل أزمة هُوية حادة بعد فشله في محاولات الاندماج مع المجتمع المحيط به، فهو لا يعرف إذا كان يجب أن يتجه بشكواه إلى طبيب بشري أم بيطري؟ هل يحسب عمره بسنوات عمر الكلاب القصيرة؟ «لا أعرف هل أنا بعقل كلب وقلب إنسان، هل أنا إنسان كامل أم كلب كامل؟ لا أعرف». يزور «عم بركات»، وهو الحلاق الذي اعتاد الذهاب إليه طيلة حياته، فما إن يجلس على الكرسي حتى يرميه الحلاق بحجر ويضربه ككلب ضال. يضطر طيلة الوقت لارتداء ما يغطي به رأسه، لإخفاء وجهه وأذن الكلب التي تلتصق به وهو يسير في الشارع.

الجميلة والوحش

وسط كل تلك المفارقات لا تتوقف «دو» عن التعاطف مع ضعفه واستسلامه في مواجهة لعنته اليومية، فتُحبه وتعترف له بالحب، ما يستدعي ومضات من دراما «الجميلة والوحش»، إلا أن البطلة هنا لم تكن تنتظر عودة حبيبها لرأسه البشري، بقدر ما كانت تصارع طواحين أخرى، كاقتراب موته، حيث أصابته لعنة عمر الكلاب القصيرة وشيخوختها المبكرة، وتصبح عفوية الطفولة مفتاحاً لمواجهة اللعنة، فتبحث عن طرق بسيطة تشاركه بها أيامه الأخيرة وتحقق له واحدة من كبرى أمنياته؛ وهي زيارة مدينة الملاهي، التي يتسللان لها في قلب الليل.
ويفتح السرد مغارات خيالية متفرعة من شوارع وسط مدينة القاهرة التقليدية التي تدور بها أحداث الرواية، فيقودنا لمكان سوريالي يحمل اسم «حارة السماء»، يشهد مغامرة حالمة بين «دو» و«رأس الكلب»، حيث يمرّان بين أشجار الصفصاف ويصلان إلى سيدة البحر، ويمتطيان خيولاً ملونة تماماً كما في الأحلام، ما يجعل «دو» تشعر بأنها في أحد أطوار «أليس في بلاد العجائب» التي تسقط في حفرة فيتبدّل مصيرها.
وفي «حارة السماء» تتكشف تدريجياً الطبيعة الشِعرية لشخصية الرجل برأس الكلب، فهو يصف الأشجار بأنها «قلوب الموتى، كل ميت يتحوّل قلبه إلى بذرة، كل بذرة تصبح شجرة».
وفي متاهة أخرى، يصل البطل إلى مدينة سوريالية مُخصصة للتائهين والمُختفين، حيث يستدل على أشباهه، فبها يلتقي بمن هو برأس ذئب، وآخر بذيل تمساح، وأحدب نوتردام، ودكتور جيكل ومستر هايد، و«زومبي»، وكثير ممن تعثروا في الحياة بعد أن فقدوا ذواتهم وصاروا مسخاً «الرجال الذين اختفوا فجأة، والطيور التي نقصت من عشة الدجاج واتُهم فيها الثعلب زوراً، وقطع الشوكولاته الضائعة من الثلاجة، والقصائد التي مات مؤلفوها قبل أن يعرفوا البيت الأخير»، هناك في تلك المدينة يجد «رأس الكلب» أن حكايات غيره لا تختلف كثيراً عن حكايته، وأن نهاية العالم لن تكون بالضرورة بسبب ظهور من هم على شاكلته، بل سيظل سؤال «التيه» المشترك الذي يُوحد حكايات أهل تلك المدينة هو: لماذا أصبحنا هكذا؟



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».