من «قوارب الموت» إلى مسارح أوروبا... رحلة أوركسترا «أورنينا» السورية

المايسترو شفيع بدر الدين لـ«الشرق الأوسط»: نحلم بتقديم عرض في بلد عربي

أوركسترا «أورنينا» في إحدى حفلاتها في ألمانيا (الشرق الأوسط)
أوركسترا «أورنينا» في إحدى حفلاتها في ألمانيا (الشرق الأوسط)
TT

من «قوارب الموت» إلى مسارح أوروبا... رحلة أوركسترا «أورنينا» السورية

أوركسترا «أورنينا» في إحدى حفلاتها في ألمانيا (الشرق الأوسط)
أوركسترا «أورنينا» في إحدى حفلاتها في ألمانيا (الشرق الأوسط)

تكتمل خريطة البلاد عندما تجتمع أوركسترا «أورنينا» لتحيي بصوتٍ واحد التراث السوري. يتوزع أعضاؤها على العواصم الأوروبية من مدريد إلى استوكهولم، مروراً بباريس وبرلين، وليس انتهاءً ببروكسل ولوكسمبورغ. نثَرتهم التغريبة بعيداً عن الجذور، لكنّ الغربة تصير أخفّ وطأة بمجرّد أن يلتقي عازفو الفرقة ومغنّوها في إحدى مدن أوروبا، لإحياء حفلٍ يستعيد تلك الجذور ويسقيها بالموسيقى.
منذ أيام، كان اللقاء في مدينتَي برلين ومانهايم الألمانيتين. أمام مئات الحاضرين، عزف فنانو «أورنينا» وغنّوا تراث بغداد ومصر والشام وحلب، وغيرها من المدن العربية. أكثر من 50 عازفاً ومغنياً حملوا أصواتهم وآلاتهم، وندوب رحلة شاقة نقلتهم من الوطن الأمّ إلى العواصم الأوروبية. من بينهم مَن اختبر معاناة الخطف خلال الحرب السورية، وكثيرون منهم عبروا إلى ضفّة الأمان مستقلّين قوارب الموت.

عازفان كانا في عداد المخطوفين
عام 2015، كانت «أورنينا» مجرّد فكرة استغرق تحويلها واقعاً سنة واحدة، على ما يخبر مؤسس الأوركسترا ومديرها المايسترو شفيع بدر الدين «الشرق الأوسط». بعد أن انشغل وزملاؤه بإحياء حفلات بهدف جمع التبرعات لأطفال سوريا النازحين، صوّب الأهداف وأطلق على الفكرة «أورنينا»؛ مستوحياً الاسم من مغنّية معبد عشتار في مملكة ماري، والتي يُعتقد بأنها أول موسيقية أنثى في التاريخ.

«في 2016، كان عدد الموسيقيين السوريين في أوروبا قد شهد ارتفاعاً مطّرداً. في الموازاة عانى اللاجئون بتراً مع ثقافتهم الأصلية، فوجدنا أنه لا بد من وصل ما انقطع»، هكذا يختصر بدر الدين مبرّر وجود «أورنينا». لقاءات الفرقة، على قلّتها، هي مساحة حنين وفرح واسترجاع قطعة من الوطن، وهي كذلك واحة أمان لموسيقيين يعيدون ترميم أنفسهم بعدما صدّعتها ويلات ما اختبروا.
يقول بدر الدين، إنه يفتخر بالتعاضد الإنساني الذي يجمع ما بين أعضاء الفرقة، وهم في غالبيتهم أصدقاء وأساتذة وطلّاب سابقون في المعهد العالي للموسيقى في دمشق: «وجودنا ضمن (أورنينا) بلسَم بالنسبة إلينا». غالباً ما تتحوّل لحظات ما بعد البروفات والعروض احتفالياتٍ صغيرة، يتحلّق خلالها الفنانون حول أطباق «الشاكريّة» و«الملوخيّة». وثمة لحظات أخرى يروي فيها العازفون وأفراد الكورس لزملائهم، حياتهم السابقة بعيداً عن عذوبة الموسيقى ولطف النغمات.
يخبر بدر الدين، أن «اثنين من العازفين المحترفين ضمن الأوركسترا كانا مخطوفين من قِبَل جماعات مسلّحة في سوريا، وقد انضمّا إلى (أورنينا) بعد الإفراج عنهما»، أما «أعضاء الفرقة في غالبيتهم، فهاجروا على متن قوارب الموت»، وفق ما يؤكد المايسترو المقيم منذ سنوات في لوكسمبورغ. ويتابع، أن «القصص التي يسردها هؤلاء عن رحلاتهم في القوارب الصغيرة وسط الأمواج العاتية، مخيفة». يصِفهم بـ«الأبطال لمجرّد أنهم خرجوا من هذه الصدمة وعادوا إلى العزف والغناء».


مؤسس ومدير أوركسترا "أورنينا" المايسترو شفيع بدر الدين (الشرق الأوسط)
بين الموسيقى السورية التقليدية والكلاسيكيات العربية، يتنوّع برنامج الحفلات. صحيح أن للتراث السوري نصيباً وازناً من الأغاني التي تُقدَّم، «لكن لا يمكن تجاوز التنوّع الموسيقي العربي»، وفق ما يقول بدر الدين. لذلك؛ فليس مستغرباً أن تتنقّل الفرقة بين «قدّك الميّاس» ودبكة لبنانية وموشّح حلبي وموّال عراقي، لتحطّ في إسكندريّة سيّد درويش، ثم تحلّق باتّجاه المغرب العربي ومنه تعود إلى تراث الخليج.
إلى جانب استعادة الفولكلور الموسيقي ضمن متتاليات غنائية ذات ثيمة واحدة كالقدود والدبكات على سبيل المثال، تقدّم «أورنينا» أغاني خاصة بالفرقة من تأليف بدر الدين وأداء منفرد لنجومها المطربين رشا رزق، ولبانة القنطار، وأبو غابي، وشادي علي، وعبد الهادي ديب. كلها أعمالٌ تروق للجمهورَين العربي والأوروبي على حدٍ سواء.
«في بداية انطلاقة الفرقة، كان الأوروبيون يشترون بطاقات الحفلات ويقدّمونها هدية للّاجئين السوريين للتخفيف عنهم، أما اليوم فصار السوريون يدعون أصدقاءهم الأوروبيين إلى عروضنا لتعريفهم إلى تراثنا»، بفرحٍ يخبر بدر الدين كيف أن القاعدة الجماهيرية لـ«أورنينا» تضاعفت عبر سنوات عمرها السبع، وكيف أن الجمهور الأوروبي بات يقصد الحفلات.


المغنّون المنفردون في أوركسترا "أورنينا" (الشرق الأوسط)

رسالة من لوكسمبورغ...
بعد حفل ألمانيا الأخير، تلقّى المؤلف الموسيقي رسالة من إحدى السيّدات اللواتي كنّ هناك وهي آتية من لوكسمبورغ. كتبت «لقد عشقت الحفل والموسيقى والأغاني التي لمست قلبنا من دون أن نفهم الكلام. حضرت الحفل مع أصدقائي الآتين من إيطاليا، وهم أيضاً استمتعوا وتأثروا». بذلك تكون «أورنينا» قد أصابت هدفاً آخر وضعته لنفسها، وهو تحقيق التبادل الثقافي بالاتّجاهين بين المضيفين والضيوف. يوضح بدر الدين «يجب أن يحصل الاندماج من الجانبين، من الضروري أن تتعرف المجتمعات المضيفة إلى ثقافة الأشخاص الوافدين إليها، وليس العكس فحسب».
لهذه الغاية، يتعمّد المايسترو الاستعانة بموسيقيين من البلد، حيث يقام الحفل. في حفلي «فيلهارموني برلين» و«كابيتول مانهايم» مؤخراً، انضمّ عازفون ألمان إلى الأوركسترا. أما عازفو الفرقة الأساسيون الذين يتحمّلون مشقّة التنقّل من بلدٍ إلى آخر، فيفعلون ذلك عن طيب خاطر؛ لأنهم، وفق بدر الدين، «مساهمون في إخراج المشروع إلى الضوء، من خلال مجهودهم وتخلّيهم عن جزء من تعويضاتهم المالية». فـ«أورنينا» لا تعتمد سوى على التمويل الذاتي ومردود بيع بطاقات الحفلات.


الفنانة السورية رشا رزق في أداء منفرد مع "أورنينا" (الشرق الأوسط)
حققت «أورنينا» الكثير على المستويين الجماهيري والموسيقي. يتحدّث بدر الدين بفخر عن «المقاعد الألف التي تمتلئ في المسارح»، وعن «النسيج الموسيقي الفريد الذي تقدّمه الأوركسترا»، والقائم على مزج الآلات الوازنة كالـ«ترومبون» والـ«ترومبيت» مع الوتريات والتخت الشرقي.
في المقابل، ما زال ثمة المزيد لتحقيقه؛ كإنتاج مسرح موسيقي يستلهم تجربة الأخوين رحباني، اللذين أثّرا بعمق في بدر الدين. ومن بين الطموحات، تقديم عروض في مهرجان قرطاج وفي المملكة العربية السعودية التي يرى فيها بدر الدين «مركز الثقل الثقافي العربي حالياً».
أما الحلم الأكبر، أي الغناء في سوريا، فيصفُه بدر الدين بـ«الحسرة»؛ إذ يبدو الأمر مستحيلاً بنظره حالياً. وفي انتظار دخول «أورنينا» إلى ديارها العربية، تستعد الأوركسترا لحفلٍ قريب في باريس يختصر المسافات الممتدّة بين دول التغريبة وخريطة البلاد.



مؤتمر النقد السينمائي يطلق رحلة استكشافية بالرياض لفن «الصوت في السينما»

المؤتمر في نسخته الثانية تناول الصوت في السينما (الشرق الأوسط)
المؤتمر في نسخته الثانية تناول الصوت في السينما (الشرق الأوسط)
TT

مؤتمر النقد السينمائي يطلق رحلة استكشافية بالرياض لفن «الصوت في السينما»

المؤتمر في نسخته الثانية تناول الصوت في السينما (الشرق الأوسط)
المؤتمر في نسخته الثانية تناول الصوت في السينما (الشرق الأوسط)

انطلقت في الرياض جلسات مؤتمر النقد السينمائي الذي تنظمه هيئة الأفلام في نسخته الثانية، لينقل حضوره إلى الجانب الآخر من الشاشة الكبيرة، ومستكشفاً المسار الفكري والمهني الثري الذي تمر به الأفكار قبل تشكّلها أفلاماً.

وشهد افتتاح المؤتمر، الأربعاء، الاحتفاء بالرائد والمخرج السعودي عبد الله المحيسن، المولود عام 1947، أحد رواد صناعة السينما السعودية، وأول متخصص سعودي في السينما وضع اللبنات الأولى لمفهوم صناعة السينما في المملكة.

ورحب رئيس هيئة الأفلام عبد الله آل عياف، بضيوف المؤتمر، وقال: «مرحباً بكم في مدينة الرياض، المدينة الممزوجة بعبق الماضي وألق المستقبل، مدينة تستمد عظمتها من إرثها الخالد، وتبني مجدها بيدين إحداهما تنغرس عميقاً في جذور التراث والتاريخ، وأخرى تمتد عالياً لتعانق المستقبل».

وأكد آل عياف خلال كلمته الافتتاحية للمؤتمر، أن مدينة الرياض تعد المكان المثالي لملتقى فريد من نوعه مثل هذا، فهي من جهة قلب مستقبل صناعة السينما في المنطقة بسوقها الأكبر الذي يبشر باقتصاد قوي، ومن جهة أخرى حضن الثقافة ومستقبل الفكر، مشيراً إلى أن قطاع الأفلام في السعودية أضحى واعداً ومؤثراً على الصعيد الإقليمي والدولي.

عبد الله آل عياف رئيس هيئة الأفلام في افتتاح المؤتمر (الشرق الأوسط)

وأضاف: «انطلاقاً من (رؤية السعودية 2030) تولي هيئة الأفلام اهتماماً كبيراً بتأسيس وتطوير واستدامة قطاع أفلام قوي وحيوي، وانطلاقاً من أهمية تمكين النقد كأداة فكرية وفنية تنير الطريق للسينما وتفتح نوافذ جديدة لها، يأتي هذا المؤتمر بوصفه منصة تجمع بين النقاد والمبدعين، تتيح لهم فرصة لتبادل الأفكار والخبرات، وصولاً إلى تشكيل وعي سينمائي عربي أعمق ينقلها نحو آفاق عالمية دون التخلي عن الأصالة والهوية».

وأشار آل عياف إلى أن موضوع المؤتمر لهذا العام، «الصوت في السينما»، اختير لأن «الصوت هو نصف التجربة السينمائية الذي يحكي ما لا تستطيع أن تحكيه الصورة، سواء كان الصوت موسيقى تصل مباشرة إلى الروح، أو حواراً يظهر الحقيقة، أو صمتاً هو أقوى من كل صوت، فإن الصوت هو صنو الصورة في حمل الفيلم والسينما إلى تحقيق التأثير المطلوب».

من جهته، رحب مشاري الخياط، المشرف العام على مؤتمر النقد السينمائي الدولي، بضيوف المؤتمر الذي يجمع نخبة من صناع الأفلام والمثقفين والإعلاميين للاحتفاء بمسيرة النقد السينمائي، الذي بدأ بوصفه أداة للتعبير عن الذات واستكشاف التحديات المجتمعية، وقد تطور مع مرور الزمن ليصبح منارة تضيء دروب الفنانين وتلهم الأجيال الجديدة من المبدعين.

وقال الخياط: «اليوم ونحن نواصل رحلة السينما السعودية، نعتزّ بما تحقق من إنجازات، حيث نجحت السينما السعودية في الوصول إلى أفق العالمية، وأصبح النقد جزءاً لا يتجزأ من هذا التطور، يسهم في تعزيز جودة الأعمال السينمائية وإبراز روحها».

ندوة افتتاحية عن تجربة ومسيرة المخرج السعودي عبد الله المحيسن (الشرق الأوسط)

وأبدى الخياط سعادته وسروره باستضافة مؤتمر هذا العام، للرائد والمخرج السعودي عبد الله المحسين، أحد أهم رموز السينما السعودية والعربية، الذي أثرت أعماله الرائدة في مسيرة السينما، ولدى كثير من صناع الفيلم ومبدعيه.

وأضاف: «كان ولا يزال المحيسن أحد أبرز رواد السينما السعودية، وأحد أعمدتها في توثيق تاريخنا وعكس قصصنا، وجاءت أفلامه مثقلة بتطلعاته وأفكاره بصفته مثقفاً سعودياً وعربياً، تطرح قضايا عميقة تعكس تحولات المجتمع السعودي والعربي، واستحق نظيرها نيل جوائز محلية وإقليمية، بوصفه من أوائل السعوديين الذي شقوا طريق السينما السعودية نحو الساحة العربية والدولية، وأصبح مثالاً في الإبداع والإصرار لدى عدد من الأجيال».

وتستمر أعمال مؤتمر النقد السينمائي⁩ الدولي في نسخته الثانية بمدينة الرياض لأربعة أيام، حيث يلتقي الخبراء وصناع الأفلام والمبدعون في رحلة استكشافية لفن «الصوت في السينما» الذي اختير موضوعاً لمؤتمر هذا العام، ‏ويمثل حدثاً شاملاً لكل محبي السينما لاستكشاف خفاياها ولقاء صنّاعها وروّادها ونقادها في حدث متكامل يضم عشاق الشاشة الكبيرة بكل مجالاتها.