كيف تتعامل واشنطن مع «أوراق الحرب الأوكرانية»؟

الجواسيس الأميركيون قادرون على الوصول إلى أعماق أسرار الحكومة الروسية

البنتاغون... مقر وزارة الدفاع الأميركية (رويترز)
البنتاغون... مقر وزارة الدفاع الأميركية (رويترز)
TT

كيف تتعامل واشنطن مع «أوراق الحرب الأوكرانية»؟

البنتاغون... مقر وزارة الدفاع الأميركية (رويترز)
البنتاغون... مقر وزارة الدفاع الأميركية (رويترز)

تظهر ردود الفعل، سواء المتشائمة، أو المقللة من أهمية ما بات يعرف بتسريبات «حرب أوكرانيا»، التي صنفت على أنها أحد أخطر الخروق العسكرية والاستخبارية في تاريخ الولايات المتحدة، أن تداعياتها على المستوى القصير، قد تجبر واشنطن، على إعادة صياغة عمليات التجسّس. وكذلك قد تؤدي إلى تغيير أوكرانيا وروسيا أيضاً خططهما القتالية. ثم إن بعض حلفاء أميركا، الذين «يشعرون بالتعب» من تكرار عمليات التجسس عليهم، قد يزداد حذرهم من تشارك المعلومات الاستخبارية مع «حليفتهم الاستراتيجية» الكبرى. إلا أن التجربة تفيد بأنه على المدى الطويل سوف تتضاءل آثار التسريب، وستواصل أوكرانيا المضي قدماً في هجومها المضاد المخطط له. وأيضاً ستستمر الولايات المتحدة وحلفاؤها في دعم أوكرانيا، في حين أن حلفاء أميركا سيواصلون تبادل المعلومات معها، حتى لو طالبوا بتأكيدات، أو عبروا عن حذرهم بشأن احتمال حدوث تسريبات.
من نافلة القول أن المسؤولين الأميركيين بالغوا في الماضي بتقدير الضرر الناجم عن التسريبات الأمنية والسياسية التي حصلت في مناسبات عدة. وهي تبدأ من تسريبات موقع «ويكيليكس» للبرقيات الدبلوماسية الأميركية، ولا تنتهي بتسريبات إدوارد سنودن لوثائق وكالة الأمن القومي. وبحسب كثير من المعلقين الأميركيين، كانت تلك التقديرات مبالغاً فيها بشكل كبير. على الأقل، هذا ما يُظهره التسريب الأخير، في حال كانت المعلومات المنشورة صحيحة. إذ أظهرت أن المسؤولين والجواسيس الأميركيين ما زالوا قادرين على الوصول إلى أعماق أسرار أعلى مستويات حكومات الدول الأخرى، خصوصاً روسيا، التي اتهمت في السابق بأنها تقف على الأقل وراء تسريبات «ويكيليكس» وسنودن.
رغم ذلك، تظل التسريبات مبعثاً على القلق، لأنها يمكن أن تكشف لروسيا كيف تجمع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) معلومات استخباراتية مهمة عن القوات والقدرات الروسية. وهي لا تحتوي فقط على معلومات عن القوات الأوكرانية، بل تشمل أيضاً تقييماً مفصّلاً للجيش الروسي، من الدبابات إلى المدفعية والطائرات. وما جرى خلال الفترة القصيرة الماضية، طرح سؤالاً عمّا إذا كانت معرفة الجاسوس بأنه عميل مزدوج أم عميل ثلاثي، يعد أمراً مهماً، ما دام أن المعنيين يعرفون الفرق. إذ إن ما يهم - في نهاية المطاف - أنهم يعرفون ما هو دقيق، وما جرى عكسه والتلاعب به. ومع ذلك، يشدد بعض المسؤولين الأميركيين على أن العمل جارٍ على فحص ما جرى تسريبه رغم «كون الأمور تبدو حقيقية».
- تضليل لروسيا أم إفشال لهجوم الربيع؟
طرحت تساؤلات عدة، من قبيل، هل كُشف عن هذه الوثائق (أي تسريبات «حرب أوكرانيا») من قبل الروس لفضح الضعف الأوكراني وتحطيم الروح المعنوية، بحسب بعض المحللين؟ أم أنها جاءت رداً روسياً مباشراً على تسريبات استخبارية أميركية مماثلة، لطالما أشادت بها واشنطن في كشف خطط الجيش الروسي قبل الهجوم المستمر على أوكرانيا منذ 24 فبراير (شباط) العام الماضي وخلاله وبعده؟
وفي حين اتهم مسؤولون أميركيون روسيا أو عناصر موالية لها، بالوقوف وراء تلك التسريبات، رأى محللون آخرون أن تلك التسريبات ليست سوى «عناصر قياسية» في اللعبة العملياتية للاستخبارات الروسية، وقد لا تكون أكثر من ذلك، وليست لها علاقة بخطط أوكرانيا الحقيقية.
فرضية أخرى أشارت إلى أن أوكرانيا هي من أقدم على نشرها بالفعل - بحسب بعض المواقع الروسية - التي تعتقد أن الهدف من نشرها، هو «تضليل» الكرملين، وإيهامه بأن أوكرانيا ضعيفة، لكنها تخفي قوتها الحقيقية قبل «هجوم الربيع» المضاد الذي تخطط له في الأسابيع المقبلة؟ وبحسب الصحافة الأميركية، كان رد فعل موسكو لافتاً في «هدوئه» غير العادي بشأن التسريبات، رغم قيام وكالة «تاس» الحكومية بنشرها. ذلك أن المدوِّنين الروس عادةً متشككون ويشيرون إلى أخطاء إملائية، وفي المواد المسرَّبة نفسها. ولقد نقلت عن مدوِّن روسي شهير، لديه أكثر من مليون متابع على تطبيق «تليغرام»، قوله إن الأمر هو «تسريب محكم وحملة تضليل ضخمة» لإظهار الأوكرانيين كأنهم غير مستعدين... ما سيشجع روسيا بالتالي على ارتكاب خطأ.
يقول الخبراء إن «اللعبة» تدور حول دراسة «كيف نعرف ما نعرفه»، ويدعون إلى التركيز على الحقائق من خلال فحص بعض المواضيع الأساسية في الوثائق التي تتوافق مع المعلومات المستقاة من مصادر أخرى. فالمدوّنون العسكريون الروس نشروا بالفعل الوثائق المسرّبة على نطاق واسع، بما في ذلك تلك التي تقدّر عدد أنظمة الدفاع الجوي والطائرات المقاتلة التي تنشرها أوكرانيا. لكن أوكرانيا تواجه، في الحقيقة، نقصاً حاداً في أسلحة الدفاع الجوي ما قد يكلفها الحرب. والولايات المتحدة، تعلم هذه المشكلة، وأعلنت قبل أسبوعين عن تسريع تقديم 2.6 مليار دولار إضافية لدعم أنظمة الدفاع الجوي والأسلحة الأخرى المرتبطة بها. ومع أن تقييمات «البنتاغون» وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وفق التسريبات، تشير أيضاً إلى أن أوكرانيا لا تستطيع تحمل سوى بضع موجات أخرى من الضربات الصاروخية الروسية، مع توفير خريطة لمكان وجود أنظمة دفاعها الجوي. بيد أن أياً من الوثائق لا يحتوي على أي معلومات مهمة ما كان يعرفها من قبل حلفاء «ناتو» والاستخبارات الروسية. ورغم أن الضرر يتركز حول كشف المعلومات المتعلقة بالدفاعات الجوية الأوكرانية، باعتبارها الجزء «الأكثر سوءاً» من الوثائق المسربة، فإن ذلك لا يُعد أزمة مهولة.
- مجموعة أسئلة بناء عليه، طرحت مجموعة أسئلة عمّا كشفته تلك الوثائق:
أولاً: هل الوثائق حقيقية؟ يقول المسؤولون الأميركيون إنها صحيحة... على الأقل، بالنسبة للجزء الأكبر منها. ويضيفون أن بعض الوثائق جرى تغييرها على ما يبدو. ولذا يشعر المسؤولون الأميركيون بالقلق من هذا الكشف عن معلومات سرّية، الأمر الذي دعا «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (إف بي آي) إلى فتح تحقيق لتحديد مصدر التسريب.
ثانياً: من أين أتت المواد؟ تشير الدلائل إلى أن الأمر «تسريب» وليس «اختراقاً قوياً». وعلى الرغم من ظهور المواد على منصات التواصل الاجتماعي، مثل «ديسكورد» و«تويتر» و«شان4» و«تليغرام»، فإن ما يُتداوَل مجرّد صور لتقارير موجزة مطبوعة.
ثالثاً: ما الذي تكشفه عن الحرب في أوكرانيا؟ توضح الوثائق بالتفصيل خطط واشنطن و«ناتو» السرية، لبناء الجيش الأوكراني قبل «هجوم الربيع» المتوقع. وكذلك تشير إلى أن القوات الأوكرانية «في حالة يرثى لها أكثر مما اعترفت به حكومة كييف علناً».
رابعاً: هل اخترقت الولايات المتحدة الاستخبارات الروسية؟ تكشف الوثائق المسربة مدى عمق قدرة الولايات المتحدة على اختراق أجهزة الأمن والاستخبارات الروسية، وهو ما سمح لواشنطن بتحذير أوكرانيا في التوقيت الحقيقي، بشأن الضربات الروسية المخطط لها، واكتساب نظرة ثاقبة على قوة آلة الحرب الروسية.
خامساً: ما الدول الأخرى التي جرى التنصت عليها؟ يبدو أن التسريب يتجاوز المواد السرّية المتعلقة بأوكرانيا. إذ يقول المحللون إن مجموعة الوثائق تشمل أيضاً مواد حساسة عن كندا والصين وإسرائيل وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى المسرح العسكري في المحيطين الهندي والهادي والشرق الأوسط.
وبينما لم يوضح «البنتاغون» ما إذا كان من المحتمل ظهور مزيد من الوثائق على الإنترنت، أو عدد المسؤولين في وزارة الدفاع الذين تمكنوا من الوصول إلى هذه الوثائق، يقول المسؤولون إن التسريب دفع الوزارة إلى اتخاذ خطوات لمراجعة كيفية مشاركة بعض المعلومات السرّية... ومع مَن. ومن ناحية ثانية، بادرت الإدارة الأميركية إلى إجراء اتصالات مكثفة مع حلفاء واشنطن منذ شيوع الأنباء عن تلك التسريبات. ولقد نفت كوريا الجنوبية صحة التسريبات المتعلقة بها، قائلة إنها «مزورة». وأيضاً نفى جهاز «الموساد» الإسرائيلي الادعاءات بأنه لعب دوراً رئيسياً في تأجيج الاحتجاجات ضد حكومة بنيامين نتنياهو على خلفية مشروعه الخاص بالتعديلات القضائية.
مع هذا، يعد التسريب أحد أوسع الانتهاكات نطاقاً على صعيد المعلومات الدفاعية في الولايات المتحدة خلال عقد من الزمان. وهو يسلط الضوء على الأسرار العسكرية، بينما يصار إلى الكشف عنها في بعض الأحيان بتسريبات صغيرة، تظل إلى حد كبير سرية في «البنتاغون» وأروقة الصناعات الدفاعية.
- تسريبات سابقة غيرت سياسات
بالمناسبة، لطالما تعرّضت الولايات المتحدة لعمليات تجسس وقرصنة إبان حقبة «الحرب الباردة»، ربما كان أشهرها تسريبات ما يعرف بـ«أوراق البنتاغون» عام 1971، وقضية تجسّس روبرت هانسن الموظف الكبير في الـ«إف بي آي» لمصلحة الاتحاد السوفياتي، منذ عام 1976. وبعد انتهاء «الحرب الباردة»، وإثر صعود روسيا بزعامة فلاديمير بوتين، شكّلت تسريبات «ويكيليكس» عام 2010 حول «حرب العراق»، أول التسريبات الكبرى في المعركة التي فتحها ضد «الهيمنة» الأميركية. ثم في عام 2013، كشفت تسريبات إدوارد سنودن، أحد المطلعين على مجتمع الاستخبارات، عن تفاصيل مفاجئة حول مراقبة الحكومة الأميركية لملايين الأميركيين سراً. وفي عام 2016، كشفت «ويكيليكس» عن البريد الدبلوماسي لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون والبريد الإلكتروني لقيادة الحزب الديمقراطي. وهو المفصل الذي اعتُبر سبباً مباشراً لهزيمتهم في انتخابات الرئاسة لمصلحة دونالد ترمب. وأيضاً، كثيرون الذين يعتقدون أن تلك التسريبات أدّت في كل مرة إلى تغييرات جوهرية في قرارات الولايات المتحدة وسياساتها، وهو ما يخشى حصوله اليوم مع تسريبات أوكرانيا.
- أوراق «البنتاغون»
أخيراً، مع استمرار الصراع في السبعينات، سُرّبت دراسة دفاعية بالغة السرّية حول تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام، التي لم تعد تحظى بشعبية لدى الأميركيين، إلى صحيفة «نيويورك تايمز» في مارس (آذار) عام 1971. ويومذاك أطلقت التقارير التي نشرتها الصحيفة العنان لعاصفة من الانتقادات ضد الحكومة الأميركية، بعد كشفها بالتفصيل تورّط البلاد منذ عقود في حرب فيتنام، مثبتة صحة كثير من الانتقادات المناهضة للحرب. أيضاً، أوضحت الوثائق، بالتفصيل قرارات ومداولات السياسة الأميركية بين عامي 1945 و1967، جرى تسريبها إلى الصحيفة، من قبل المحلل العسكري دانيال إلسبيرغ، الذي تولى تصوير التقرير سرّاً، وقدمه إلى صحافيي الجريدة.
وكذلك الأوراق أدلة دامغة، بما في ذلك الخطوات التي اتخذها رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبون، من هاري ترومان ودوايت أيزنهاور وجون كيندي وليندون جونسون، لإثارة الصراع في المنطقة بشكلين سرّي وعلني. وعدّ التسريب ضربة كبيرة للجيش الأميركي والإدارة السياسية، كونه أدى إلى كشف التفاصيل التي عمل المسؤولون على إبقائها سرية لسنوات. ونتج عنها واحدة من أضخم المعارك بين الإدارة الأميركية والصحافة، عندما أصدرت وزارة العدل أمراً مؤقتاً بمنع نشر التقارير. ولكن في نهاية يونيو (حزيران) 1971، سمحت المحكمة العليا لصحيفتي «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، بمواصلة نشر التقارير، في قرار حصل على أصوات غالبية 6 مقابل 3 من قضاة المحكمة. ونُظِر إلى ذلك القرار على أنه إحدى أهم القضايا المتصلة بحرية الصحافة في تاريخ الولايات المتحدة.

تسريبات إدوارد سنودن

> في عام 2013، كشفت تسريبات إدوارد سنودن، وهو أحد الموظفين في وكالة الأمن القومي، عن كيفية إقدام الحكومة الأميركية على مراقبة ملايين الأميركيين بشكل سرّي. واتهمت روسيا بالوقوف وراء العملية، خصوصاً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أشاد بسنودن، ومنحه الإقامة الدائمة ومن ثم الجنسية الروسية.

إدوارد سنودن

وكشفت التسريبات، عن برنامج مراقبة وضع في أعقاب «هجمات 11 سبتمبر (أيلول)»، بعدما رأى المسؤولون حاجة ماسة إلى تعزيز البرامج الأمنية وعمليات المراقبة لتحديد نطاق التهديدات الإجرامية والإرهابية المحتملة. لكنها كشفت أيضاً أن الحكومة كانت تجمع معلومات عن المواطنين العاديين، وليس فقط عن تهديدات إرهابية محتملة. وفضحت معلومات سنودن - الذي فر أولاً إلى هونغ كونغ، ثم إلى روسيا، واتُهم بسرقة ممتلكات حكومية وجرائم أخرى - وجود برامج أميركية للتجسس على الحكومات الأجنبية، بينها ألمانيا وفرنسا، والتنصت على عدد من مكاتب الاتحاد الأوروبي، والتجسس على 38 سفارة أجنبية في واشنطن على الأقل.
وأيضاً أثارت الوثائق عالية السرّية التي سرّبها سنودن - الذي ينظر إليه البعض على أنه إمّا مخبر شجاع أو خائن للحكومة - قلق الأميركيين بشأن «بصماتهم» الرقمية وبياناتهم الشخصية، في معركة لا تزال مستمرة حتى اليوم، لكنها أدت في نهاية المطاف، إلى وقف البرنامج.

سجلات «ويكيليكس» عن «حرب العراق»

> في عام 2010، نشرت «ويكيليكس»، وهي منظمة إعلامية أسسها جوليان أسانج، مجموعة من الوثائق العسكرية السرّية المسرّبة، توضح بالتفصيل تصرفات القوات الأميركية و«قوات التحالف» في «حرب العراق» بين عامي 2004 و2009. وفي حينه، عُدّت التسريبات من أكثر النظرات الواقعية عن الصراع في المنطقة، وكشفت عن عدد من الديناميكيات المقلقة للحرب، من بينها عدد القتلى المدنيين. إذ تبين أنه بحلول عام 2009، قتل 66 ألف مدني، أي أكثر من 60 في المائة من قتلى الحرب. كما أظهرت أن المئات من هؤلاء المدنيين قتلوا على أيدي «قوات التحالف»، مع أنه لم يُعلن حتى الآن عن آلاف القتلى المدنيين.

جوليان آسانج

وتزعم الوثائق أيضاً حدوث انتهاكات في السجون، حتى بعد الإبلاغ عن انتهاكات واسعة النطاق للمعتقلين في سجن أبو غُريب في المراحل الأولى من الحرب. وخلصت إلى أن القوات الأميركية سلّمت سجناء إلى مجموعة عراقية معروفة بتمرسها في أساليب التعذيب.
وتضم التسريبات ما يقرب من 400 ألف تقرير أو سجل، سجلها جنود على الأرض في الحرب. وساعد تسريب تلك الوثائق، التي يعتقد أن روسيا تقف وراءها، في إضعاف التأييد الشعبي للحرب، الذي كان بدأ يتضاءل بالفعل. وبحلول الوقت الذي أعلن فيه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عن خطط لإنهاء العمليات العسكرية الأميركية في العراق عام 2011، وافق 75 في المائة من المستطلعين تماماً على قرار إنهاء الحرب، وفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة «بيو» للأبحاث في ذلك الوقت.

تجسس روبرت هانسن

> في عام 1976، انضم روبرت هانسن إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) كعميل خاص. وطوال 25 سنة أمضاها في الـ«إف بي آي»، تجسس على حكومة الولايات المتحدة لصالح الاتحاد السوفياتي وأجهزة الاستخبارات الروسية.

روبرت هانسن

هانسن كان طوال «الحرب الباردة» جاسوساً لموسكو، ولم يتسنّ اكتشافه حتى منتصف الثمانينات. وحقاً، بفضل مكانته في الـ«إف بي آي»، تمكن هانسن من الوصول إلى معلومات سرّية للغاية، وباع آلاف الوثائق إلى روسيا السوفياتية، التي توضح بالتفصيل الخطط العسكرية الأميركية، والاستراتيجيات في حال نشوب الحرب النووية، وتقنيات الأسلحة. وبحسب ما ورد في أوراق الاتهام التي وجهت إليه، حصل الرجل على 1.4 مليون دولار نقداً ومجوهرات من بيع المعلومات الاستخباراتية. وتمكّنت أجهزة الاستخبارات الأميركية عام 2000، من العثور على تأكيدات روسية، تفيد بأن هانسن جاسوس. وبينما كان على وشك التقاعد مباشرة، قبض المحققون عليه متلبساً بتسليم معلومات سرّية لمصادر روسية في إحدى الحدائق العامة بولاية فيرجينيا وتم اعتقاله. وفي وقت لاحق من العام، أقرّ هانسن بأنه مذنب في 15 تهمة تجسس، وهو راهناً يمضي 15 حكماً متتالياً مدى الحياة في أحد سجون ولاية كولورادو، من دون أي حق في الإفراج المشروط.


مقالات ذات صلة

زيلينسكي يصدر تعليمات لإنشاء آليات لتوريد الغذاء إلى سوريا

أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (قناته عبر «تلغرام»)

زيلينسكي يصدر تعليمات لإنشاء آليات لتوريد الغذاء إلى سوريا

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إنه أصدر تعليمات لحكومته بإنشاء آليات لتوريد الغذاء إلى سوريا بالتعاون مع المنظمات الدولية في أعقاب سقوط نظام الأسد.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا عربة عسكرية أوكرانية تحمل أسرى يرتدون الزي العسكري الروسي بالقرب من الحدود مع روسيا (أ.ف.ب) play-circle 00:45

زيلينسكي: روسيا تنشر مزيداً من القوات الكورية الشمالية في كورسك

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، السبت، إن موسكو بدأت إشراك «عدد ملحوظ» من القوات الكورية الشمالية.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا جنود أوكرانيون يستعدون لتحميل قذيفة في مدفع هاوتزر ذاتي الحركة عيار 122 ملم في دونيتسك أول من أمس (إ.ب.أ)

مسيّرات أوكرانية تهاجم منشأة لتخزين الوقود في وسط روسيا

هاجمت طائرات مسيرة أوكرانية منشأة للبنية التحتية لتخزين الوقود في منطقة أوريول بوسط روسيا.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (قناته عبر «تلغرام»)

زيلينسكي يدعو إلى  تحرك غربي ضد روسيا بعد الهجمات الأخيرة

دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الغرب إلى التحرك في أعقاب هجوم صاروخي جديد وهجوم بالمسيرات شنتهما روسيا على بلاده

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف (د.ب.أ)

الكرملين: التصريح الأخير لترمب بشأن أوكرانيا «يتماشى تماماً» مع الموقف الروسي

نوّه الكرملين الجمعة بالتصريح الأخير لدونالد ترمب الذي اعترض فيه على استخدام أوكرانيا صواريخ أميركية لاستهداف مناطق روسية.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.