«كونشيرتو كورينا إدواردو» تتبع مراحل الانهيار الليبي في عصر القذافي

رواية الكاتبة الليبية نجوى بن شتوان

«كونشيرتو كورينا إدواردو» تتبع مراحل الانهيار الليبي في عصر القذافي
TT

«كونشيرتو كورينا إدواردو» تتبع مراحل الانهيار الليبي في عصر القذافي

«كونشيرتو كورينا إدواردو» تتبع مراحل الانهيار الليبي في عصر القذافي

من كان يريد قراءة رواية أجيال، تتتبع تاريخ ليبيا المعاصرة في الخمسين سنة الأخيرة، فهو واجد مبتغاه في رواية الكاتبة الليبية نجوى بن شتوان «كونشيرتو كورينا إدواردو» الصادرة في 2022 (منشورات تكوين)، والمرشحة ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية. تاريخ ليبيا المعاصر هو في عبارة أخرى؛ تاريخ ليبيا تحت حكم العقيد معمر القذافي منذ توليه السلطة عقب انقلاب عسكري في 1969 حتى مصرعه في اضطرابات الربيع العربي والحرب الأهلية التي نشبت في ليبيا عام 2011. تصور الكاتبة التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكارثية التي أحدثها في ليبيا نظام القذافي من خلال اقتفاء تأثيرها في حياة أسرة ليبية حضرية من الطبقة المتوسطة وبيئتها المحيطة. بعض عناوين الفصول تشير بوضوح إلى مراحل الانهيار الليبي في عصر القذافي وتداعياتها حتى اليوم، مثل «1973 - 1978 الزحف الأخضر»، «يوليو (تموز) 1977»، «1980 - 1989»، «سنوات الحصار (عشرية الثمانينات)»، «الغارة الأميركية على بنغازي وطرابلس 1986»، «الثورة وتداعياتها 2011». ليس معنى هذا أن هذه رواية تسجيلية أو وثائقية. فالسياسات والوقائع تبقى في الخلفية، بينما الغرض الحقيقي هو تصوير فعلها المأساوي في حياة الناس العاديين من خلال الأسرة، محور الرواية، بعلاقاتها المتشعبة، ليس فقط داخل ليبيا، بل أيضاً عبر المتوسط في إيطاليا عن طريق النازحين من أفرادها.
تُحكى الرواية على لسان المتكلم الذي هو فتاة تُدعى ريم، إحدى توأمين. تعاني من داء التأتأة، ما يجعلها عازفة عن الكلام، إلا أنها تجيد الكتابة. وهي الواعية المركزية في الرواية. تتمتع ريم بحساسية شاعرية، هي فتاة ميّالة للتأمل، ومنعزلة فكرياً ووجدانياً عن المجتمع الفظ الغليظ المحيط بها. وكأن التأتأة رمز لاغترابها عن المجتمع، لعدم قدرتها على التواصل معه. ولفظاظة رفضه لها وعجزه عن رؤية كنوز روحها المتوارية خلف تأتأتها، تحكي ريم قصتها وقصة أختها التوأم التي تجد سبيلاً للتعايش مع مجتمع لا فرار منه، وقصة أبيها الذي تصيبه الكآبة الشديدة بعد تأميم مصنعه، ويموت في سجون القذافي، وقصة آمال ابنة عمها التي نشأت في ألمانيا من أم ألمانية، ولا تكنّ للمجتمع الليبي بتقاليده البالية سوى الاحتقار، ولكن فوق كل ذلك قصة جدها الرجل الصلب العطوف الحكيم المتفهم المتأقلم مع أسوأ تقلبات الدولة وتعسفاتها، الذي يضطلع حتى آخر لحظة في حياته بالرعاية المادية والمعنوية لأسرة ابنه بعد موته في صدر شبابه. ولعل الجد، الذي يمتد ظله فوق المساحة الكاملة للرواية، والذي يحتل المكانة الكبرى في قلب الراوية الرهيفة ذات التأتأة، التي لم يفهمها ويحدب عليها أحد بقدر ما فعل، يرمز لما هو أصيل في الإنسان الليبي، الإنسان الذي كان قبل عصر القذافي بتهوراته ومفاسده وأخلاقياته الزارعة للأحقاد والصراعات، كما تصورها الرواية. وعلى النقيض من الجد، هناك قصة أخيها أيوب، الذي يجرفه التيار الإسلامي المتعصب خارج إطار الأسرة، فينتهي مقاتلاً سافكاً للدماء من أتباع تنظيم «الدولة الإسلامية» في ليبيا.
تنتهي ريم، التي نصاحبها منذ طفولتها دارسة للآثار بتشجيع من جدها، منقبة في أحافير الماضي البعيد لبلادها، وواجدة فيه الصلة التي لم تستطع أن تقيمها مع مجتمعها الحاضر. وليس غريباً أنه وسط التوحش المتنامي لمجتمعها ولانفصالها الوجداني عنه، خاصة لكونها امرأة تعاني أضعافاً مضاعفة من غلظة المجتمع وقيوده الخانقة، لا يخرجها من عزلتها والزهد في الحياة العاطفية الذي فرضته على نفسها إلا رجل من بيئة مختلفة. رجل غربي، نصف إيطالي، ونصف أميركي. عالم آثار يعمل بالتنقيب في ليبيا ويقوم على تدريب ريم التي تنضم لفريقه بعد تخرجها. هذا هو إدواردو الذي يظهر اسمه في عنوان الرواية. يشكو إدواردو من صمتها ويدعوها للكلام: «إدواردو فاجأني بسلوك مغاير لسلوك الرجال لدينا، يفضلون أنثى صامتة تسمع لهم فقط، وإن تكلمت تضايقوا (...) إدواردو أعطاني وقتاً للحديث، وهو يعي أني متأتئة!» (ص 217) تلخص ريم مشكلتها ومشكلة كثيرين في هذه التساؤل: «لماذا يتحطم هنا من وُلدوا بشيء مغاير فيهم؟ لماذا لا يعيشون حياة طبيعية مع شركاء يختلفون عنهم؟» (ص 255) هذا هو بيت القصيد في مشكلتها الوجدانية؛ قبول الاختلاف. قبول المغايرة. قبول الآخر في أي شكل من أشكال اختلافه. قبول مبدأ التعايش من دون القسر على التماثل. المفارقة في الرواية هي أن «الآخر» الغربي هو الذي يقدم لريم الحب والفهم والقبول، مما لم تجده في وطنها. ومن المفارقات أيضاً أن هذا الآخر الغربي هو إيطالي، من البلد الذي نكّل بليبيا شر تنكيل في العصر الاستعماري (1911 - 1943)، إلا أن هذه العلاقة في الرواية، التي لا نملك إلا أن نرى فيها بعداً رمزياً ينطوي على إعلاء القيم الغربية على تلك المحلية، والموقف الفكري، الذي تمثله، ليسا غريبين، ولا منفردين، وإنما هما يمثلان امتداداً لتيار في الرواية العربية في العقود الأخيرة، خاصة منها تلك المكتوبة من قِبَل المرأة، التي تتناول موضوع اللقاء الحضاري بين الشرق والغرب. نجد هذا الموقف على سبيل المثال، لا الحصر، في أعمال حنان الشيخ وغادة السمان وغيرهما، وهو ما فصلته في كتابي Arab Representations of the Occident «London، 2006».
الرواية مكتوبة بأسلوب يعتمد لغة سردية سلسة عصرية، خالية من التعقيد، كما هي خالية من الكثافة الشعرية أو التأملية، فيما عدا بعض الخواطر العابرة هنا وهناك على لسان الراوية ريم، مع ميل في بعض الأحيان للإغراق العاطفي النابع من المواقف المأساوية في الحدث، التي تستسلم لها الكاتبة في غير تحفظ. أما مأخذي الأكبر على الرواية فهو فصلها الأخير، المعنون «عاجل بنغازي». في هذا الفصل الذي لا يتجاوز 20 صفحة من رواية تزيد على 300 صفحة، تقدم الروائية عجالة لاهثة لأحداث الربيع العربي في ليبيا من 2011 حتى اليوم. في هذا الفصل القصير المضغوط ضغطاً شديداً تقع أحداث جسام على مستوى الشخصيات التي عايشناها على مدى الرواية. يموت من يموت، ويصاب من يصاب، ويترمل من يترمل، ويتيتم من يتيتم، ويُفجع من يُفجع، وينزح من الوطن من ينزح. وكأن الروائية سئمت الاستمرار في الكتابة، فقررت أن تهيل السقف على شخصياتها مرة واحدة، وتقدم لنا تقريراً في سطور عما حدث لكل منهم. تعجُّل شديد بعد تأنٍ طويل، ما أدى إلى خذلان الرواية في المرحلة الأخيرة، وهي التي كانت تستحق الصبر عليها.


مقالات ذات صلة

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

مجلة «الأديب الثقافية»: الاغتيال الثقافي

مجلة «الأديب الثقافية»: الاغتيال الثقافي
TT

مجلة «الأديب الثقافية»: الاغتيال الثقافي

مجلة «الأديب الثقافية»: الاغتيال الثقافي

صدر العدد الجديد (الحادي عشر من مجلة «الأديب الثقافية» - شتاء 2025)، وهي مجلة ثقافية تُعنى بقضايا الحداثة والحداثة البعدية يرأس تحريرها الكاتب العراقي عباس عبد جاسم.

تناولت افتتاحية العدد التي كتبها رئيس التحرير «مدن المستقبل: يوتوبية أم سوسيوتكنولوجية؟».

كما تبنى العدد محور «نحو يسار عربي جديد»، وقد تضمّن مقدمة كتاب «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي» للمفكر اللبناني الراحل الدكتور كريم مروة، وفيها دعوة جديدة لنهوض اليسار العربي بعد هزائم وانكسارات ونكبات كبرى أعقبت تفكّك الاتحاد السوفياتي وانهيار الاشتراكية في العالم، وقد عدَّت مجلة «الأديب الثقافية» - المقدمة نواة لمشروع نهضوي جديد لمستقبل اليسار العربي، بعد أن تجمّد عند حدود معينة من موته شبه السريري.

وأسهم في هذا المحور السياسي والطبيب المغترب الدكتور ماجد الياسري، بدراسة هي مزيج من التحليل والتجربة السياسية والانطباع الشخصي بعنوان «اليسار العربي - ما له وما عليه»، وقدّم الناقد علي حسن الفوّاز مراجعة نقدية بعنوان «اليسار العربي: سيرة الجمر والرماد»، تناول فيها علاقة اليسار العربي بالتاريخ، وطبيعة السياسات التي ارتبطت بهذا التاريخ، وبالمفاهيم التي صاغت ما هو آيديولوجي وما هو ثوري.

أما الكاتب والناقد عباس عبد جاسم، فقد كتب دراسة بعنوان «إشكاليات اليسار العربي ما بعد الكولونيالية»، قدم فيها رؤية نقدية وانتقادية لأخطاء اليسار العربي وانحراف الأحزاب الشيوعية باتجاه عبادة ماركس، وكيف صار المنهج الماركسي الشيوعي لفهم الطبقة والرأسمالية في القرن الحادي والعشرين بلا اتجاه ديالكتيكي، كما وضع اليسار في مساءلة جديدة: هل لا تزال الماركسية صالحة لتفسير العالم وتغييره؟ وما أسباب انهيار الفكر الشيوعي (أو الماركسي) بعد عام 1989؟ وهل نحن نعيش «في وهم اللاجماهير» بعصر ما بعد الجماهير؟ وفي حقل «بحوث»، قدّمت الناقدة والأكاديمية هيام عريعر موضوعة إشكالية مثيرة لجدل جندري متعدّد المستويات بعنوان «العبور الجنسي وحيازة النموذج»، وتضمَّن «قراءة في التزاحم الجمالي بين الجنسين».

ثم ناقشت الناقدة قضايا الهوية المنغلقة والأحادية، وقامت بتشخيص وتحليل الأعطاب الجسدية للأنوثة أولاً، وعملت على تفكيك الهيمنة الذكورية برؤية علمية صادمة للذائقة السائدة، وذلك من خلال تفويض سلطة الخطاب الذكوري.

وقدّم الدكتور سلمان كاصد مقاربة بصيغة المداخلة بين كاوباتا الياباني وماركيز الكولومبي، من خلال روايتين: «الجميلات النائمات»، و«ذكريات غانياتي الحزينات» برؤية نقدية معمّقة.

واشتغل الدكتور رشيد هارون موضوعة جديدة بعنوان «الاغتيال الثقافي»، في ضوء «رسالة التربيع والتدوير للجاحظ مثالاً»، وذلك من منطلق أن «الاغتيال الثقافي هو عملية تقييد أديب ما عن أداء دوره الثقافي وإقعاده عن المضي في ذلك الدور، عن طريق وسائل غير ثقافية»، وقد بحث فيها «الأسباب التي دفعت الجاحظ المتصدي إلى أحمد عبد الوهاب الذي أطاح به في عصره والعصور التالية كضرب من الاغتيال الثقافي». وهناك بحوث أخرى، منها: «فن العمارة بتافيلالت: دراسة سيمائية - تاريخية»، للباحث المغربي الدكتور إبراهيم البوعبدلاوي، و«مستقبل الحركة النسوية الغربية»، للباحث الدكتور إسماعيل عمر حميد. أما الدكتورة رغد محمد جمال؛ فقد أسهمت في بحث بعنوان «الأنساق الإيكولوجية وسؤال الأخلاق»، وقدمت فيه «قراءة في رواية - السيد والحشرة».

وفي حقل «ثقافة عالمية» قدّم الشاعر والناقد والمترجم عبد الكريم كاصد ترجمة لثماني قصائد للفنان كاندنسكي بعنوان «أصوات». وفي حقل «قراءات» شارك الدكتور فاضل عبود التميمي بقراءة ثقافية لرواية «وجوه حجر النرد» للروائي حسن كريم عاتي. وفي حقل «نصوص» قدَّم الشاعر الفلسطيني سعد الدين شاهين قصيدة بعنوان: «السجدة الأخيرة».

وفي نقطة «ابتداء» كتبت الناقدة والأكاديمية، وسن عبد المنعم مقاربة بعنوان «ثقافة الاوهام - نقد مركب النقص الثقافي».

تصدر المجلة بصيغتين: الطبعة الورقية الملوَّنة، والطبعة الإلكترونية.