موقف الفقهاء من العلم والعلماء

مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي  بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)
مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)
TT

موقف الفقهاء من العلم والعلماء

مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي  بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)
مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)

أشعر بشيء من غيظ مبرر ممن يكتب ليقرر أن موقف الفقهاء من العلم كان جيداً، لأن الأماني لا تفيد شيئاً أمام الحقائق، وهذه الحقائق ليست شيئاً سننبش عنه في بطون الكتب، بل هو موقف حي ظاهر يتجلى في الموقف من دوران الأرض حول الشمس، ورفض الحساب الفلكي لحساب دخول الشهور، وغيرها من القضايا التي نعيشها وتبرز على السطح في مواسمها.
هذا الموقف العدائي من العلم قديم، وللبرهنة على ذلك، سوف نستعرض هنا موقفين لاسمين من أكبر الأسماء في سماء الفقه الإسلامي: الغزالي، وابن تيمية. اسمان يكادان يكونان أكبر المؤثرين في عالمنا. أما الغزالي فينفي مبدأ السببية، ويعتقد أن كل حجر كسر زجاجاً فإنما كسره بإرادة حادثة لله، شيء جديد يخلقه الله في تلك اللحظة، وفي كل مكان وزمان، وهو لا يتوقف عن التدخل في كل لحظة لإحداث هذا الأثر. إنه يرفض قوانين الطبيعة كلها، ولا يصطف مع الذين يؤمنون بقوانين الطبيعة ويردونها إلى الله. لا يوجد قانون طبيعي، من وجهة نظره.
يعتقد عموم الناس اليوم أن قانون السببية صحيح، لكنهم لا يعرفون على وجه التحديد أهمية هذا القانون. والصحيح الذي لا شك فيه، أن العلم الطبيعي الحديث يعترف بكل أريحية أنه بكُلّه وكلكله، بقَضه وقضيضه، يقوم على مبدأ السببية، وحتى في تلك اللحظات التي ندرس فيها قوانين أخرى، كقوانين السرعة الثلاثة لنيوتن، أو قانون السقوط الحر عند غاليلي فمن تبعه، قانون السببية موجود ومستبطن ويعمل، إنه يدخل في كل شيء.
رفضُ الغزالي، وهو الإمام المجدد في القرن الخامس، لمبدأ السببية ومتابعة المسلمين له، هو سبب الخيبة الكبيرة التي عاش فيها المسلمون خلال قرونهم المتأخرة، حيث غاب العلم وساد التخلف والجهل. لقد أخذ الآخرون بأسباب العلم وصنعوا ثورتهم العلمية، التي صنعت علماً جديداً على أنقاض العلم الحديث، ثم أنتجوا التكنولوجيا التي جعلتهم يتحكمون بالعالم، ونحن من ضمنياته، وهكذا تأخرنا وصرنا من دول العالم الثالث، في قصة تعرفونها ولا حاجة لتكرارها.
أما ابن تيمية، فقد حيكت الأكاذيب الكثيرة حوله حتى كاد محبوه يجعلونه سابقاً لجون لوك مؤسس التجريبية، لمجرد أنه انتقد المنطق الأرسطي. إنه يؤمن حقاً بمبدأ السببية، لكن السببية التي تحدث عنها ليست سببية العلم وقوانين الطبيعة، وإنما هي سببية تُعلل أفعال الله وأفعال الإنسان، ولا تتجاوزهما. سببيته لا تدعم العلم التجريبي المادي الحديث بأي شيء، والواقع أنه يرفض طريقة العلم الحديث رفضاً قاطعاً. نرى هذا جلياً في نقده للمعارف الصاعدة، فالعلم نازل لا صاعد، حسب رأيه، أي ينزل من السماء عن طريق الوحي، ولا يصعد من الأرض إلى السماء على طريق دراسة الطبيعة. لا ضرر في التذكير هنا بأن العلم التجريبي كله قائم على دراسة الطبيعة عن طريق التجربة التي تعتمد على الحواس والعقل في دراسة الظواهر، وأنه كله صاعد، يبدأ من الطبيعة ويصعد إلى الأفلاك. هذا النوع من المعرفة القائم على الحواس والعقل هو بالنسبة لابن تيمية يدخل في وضع العقل فوق منزلة النص الديني.
لم يكن ابن تيمية قط تجريبياً وإنما كان يملك نزعة مادية حسيّة لا تجريبية، ومن علامات كونه فيلسوفاً حسياً أنه يفضل علم الطبيعة على علم الرياضيات الذي وصفه بأنه «مجرد تصور مقادير مجردة أو أعداد مجردة». وفي مكان آخر يصفه بأنه كثير التعب قليل الفائدة. وفي موضع ثالث يتكرر في علم الرياضيات ما سبق وقاله في علم المنطق «لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى، وما لم يقم عليه الدليل فظنون وأباطيل»، أي أن الرياضيات تحتاج إلى دليل من القرآن والسنة، فإن لم تجد ولن تجد، فهي ظنون وأباطيل.
هل كان ابن تيمية عالِم رياضيات حتى يحق له أن يصفها بهذا الوصف المجحف؟ الجواب: هو لا، فهو لم يصنف في الرياضيات، بل لم يدرُسها، إنما هي تعليقات وانطباعات، ورجل الدين عندما يتكلم عن انطباعاته حول العلوم الدنيوية يكون في كلامه شطط كبير.
ولا تصمد دعوى من ينسبون ابن تيمية إلى نصرة العلم الحديث بمجرد نقده للمنطق القديم، فقد وجدناه يرفض علم الفلك، ويقرر أنه كثير التعب قليل الفائدة، ووجدناه يرفض معرفة دخول الشهر بواسطته لأننا أمة أمية، حسب رأيه. وفي موضع آخر، يحبذ للمسلم ألا يتعلم الكتابة والحساب إن أمكن تعلم القرآن والعلوم الدينية بدونهما ليكون حاله كحال النبي الأميّ، حسب تعبيره. هذا معناه أنه داعية للأميّة، وأنه لا يعترف إلا بتعلم العلوم الدينية فقط. ولو أنه كان حيّاً اليوم لكان ممن يشترطون الرؤية لدخول شهر رمضان والعيدين بحيث تصوم كل دولة عربية أو إسلامية حسب الرؤية الخاصة بها، رغم أنها فضيحة تتكرر في كل عام ثلاث مرات، تصوم دولة وتفطر دولة مجاورة. مع أنه لا توجد مسافة بينهما تسمح باختلاف دخول الشهر، مع سهولة الرجوع إلى الحساب الفلكي القطعي الذي يعتمد على العلم الحديث وحسابات الفيزياء الفلكية، ويستطيع تحديد بداية الشهور ونهايتها ومواعيد مواليد الأهلة لعشرات السنوات المقبلة بنسبة خطأ قدرها المختصون بواحد في مائة ألف.
أما علمه بالطب فحدث ولا حرج، فقد وجدته يقول في محاولة لتبرير مذهبه في أن لحم الإبل ينقض الوضوء، بأن الإبل فيها «قوة شيطانية»، وأن هذه القوة قد أضرّت من أدمنوا أكلها من الأعراب بحيث امتلأت قلوبهم بالحقد، ولم يُبرر كيف أن الصحابة وهم من ضمن من يأكلون لحمها لم يسرِ فيهم الحقد. وبقي هو وتلميذه ابن القيم دعاة لما أسموه خطأ بالطب النبوي، حتى جاء فقهاء أكثر وعياً، كالطاهر بن عاشور، فقرروا أنه لا يوجد طب نبوي، وأن ما ورد فيه من أحاديث لا ينطلق من كونه وحياً، بل هو من تجارب النبي الشخصية وحركة الطب في زمنه.
أما الكيمياء فقد أفتى ابن تيمية بأن تعاطيها وتعلمها حرام لأنها غش ومضاهاة لخلق الله. وقد حاول بعضهم أن ينفي هذا عنه فقال إنه يقصد «الخيمياء» لا «الكيمياء» ومن يُحول المعدن الرخيص إلى نفيس، وهذا الدفاع كله لا معنى له، فالكيمياء الحديثة المتفق على عظمتها وفائدتها الكبيرة للإنسانية هي علم التبديل والاستحالة، ويدخل في عملها تحويل المعادن من رخيص إلى نفيس. ولا يزال العلماء يهتمون بهذا الحقل المعرفي، وقد كانت لإسحاق نيوتن بحوثه الخاصة في هذا المضمار، وإلى يومنا هذا هو علم قائم يتطور. وتبدو هذه الفتوى الشاذة نتيجة لفكرة خاطئة لم يختبرها، فترسخت عنده بأن لا أحد على الحقيقة يستطيع أن يغيّر عنصراً ما فيحوله إلى عنصر آخر إلا الله. وهكذا تلج الكيمياء في مضاهاة قدرة الله على الخلق، أو هي من أعمال السحرة. ولذلك، وجدناه يشن هجوماً منكراً على عالم كبير ومفخرة لكل تاريخ الأمة العربية الإسلامية، ألا وهو جابر بن حيّان، أحد أكبر رواد علم الكيمياء على مستوى العالم، ويصفه بأنه رجل مجهول لم يُعرف بدين. هذا المجهول هو أبو موسى جابر بن حيان الذي ترجم آر. راسل عدداً من كتبه إلى الإنجليزية، ووصفه بأن أشهر علماء العرب وفلاسفتهم، وعد له زكي نجيب محمود 52 كتاباً في العلوم الطبيعية.
وقد أظهر ابن تيمية موقفه الحقيقي من العلماء والفلاسفة والأطباء والمهندسين والفلكيين في رسالة غاضبة يخاطب بها رجلاً مات قبله بقرون يقال له ابن سينا، قائلاً: «وكون الواحد منكم حاذقاً في طب، أو نجوم، أو غرس، أو بناء، هو لقلة معرفتكم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وعبادته، وقلة نصيبكم وحظكم من هذا المطلب، الذي هو أجلّ المطالب، وأرفع المواهب، فاعتضتم بالأدنى عن الأعلى، إما جهلاً أو تفريطاً». لقد أعدت قراءة هذا النص مرات عدة تعجباً، لأنه أحال الحذق في الطب والإبداع في العلوم إلى الجهل بالله، وكأن الحذق في الطب ومعرفة الله لا يجتمعان.
وبعد هذه، وجدته يكرّ على متخصص في علم الفلك والرياضيات والفلسفة هو نصير الدين الطوسي الذي كان الداعية لإنشاء مرصد مراغة في بلاد فارس، فيقول فيه: «وهل كان الطوسي وأمثاله يَنفُقون عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين، ومكايد المحتالين، المنافية للعقل والدين؟!». هذا السجع، وهذا الحسد لكل من نال حظوة عند الملوك لن يُنسينا أن الطوسي - بغض النظر عن مواقفه السياسية - هو واحد من أكبر علماء الفلك والرياضيات في زمانه على مستوى العالم، شاء من شاء وأبى من أبى. ترجمت كتبه إلى اللاتينية وغيرها من اللغات الأوربية، وخلاصة القول فيه أنه كان من أعظم علماء الحضارة العربية، ومن أكبر الرياضيين، وقد أسهم بشكل كبير في تطوير العلوم، لا سيما الفلك والرياضيات، وبقيَت مؤلفاته مراجع عالمية لقرون عدة، ونالت شهرة كبيرة بفضل ما قدم مؤلفها من إسهامات غنية.
هذا هو موقف ابن تيمية من العلم التجريبي الحديث. وهو كما ترى موقف سلبي للغاية ولا يقارن بموقف من يكثر من النقل عنهم كالفارابي وابن سينا وابن رشد، فهؤلاء كانوا علماء على الحقيقة، وقد بقيت الجامعات الأوروبية تُدرس كتاب «القانون في الطب» لمدة ستة قرون، وبقي هو الكتاب الأساس الذي يقوم عليه علم الطب إلى زمن ليس بالبعيد، وتمت ترجمته لمعظم لغات العالم، وفي عام 1476 طُبع الكتاب في روما باللغة العربيّة ضمن أربع مُجلدات، وقد تقدّم ابن سينا فيه بالعديد من الابتكارات المُذهلة للبشرية، وكان رائداً في علم دراسة الطفيليات، وإليه يرجع الفضل في اكتشاف أمراض عديدة لا تزال منتشرة إلى الزمن الحالي.
هذا هو موقف الفقهاء المشاهير من العلم والعلماء، ولا يمكن لمن يحترم عقولنا أن يلوي أعناق الحقائق، بغير دليل.
* باحث سعودي



ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

TT

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)
معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، الساعة 8:46 صباحاً بتوقيت واشنطن، تصاعدت ألسنة اللهب وراء دخان طائرتين اصطدمتا ببرجي مركز التجارة العالمي. مشاهد صادمة طُبعت في أذهان الأميركيين والعالم إلى الأبد، ورغم أنها الأقوى والأكثر تداولاً، فإن الهجمات لم تقتصر عليها، بل تعدتها لتشمل مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي دُمِّر جزء منه بعد سقوط طائرة من الطائرات الأربع في ساحته، فيما فشلت الطائرة الرابعة في الوصول إلى هدفها المزعوم: مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، فتحطمت بركابها والخاطفين في حقل في ولاية بنسلفانيا.

صور الاعتداءات هذه حفرت جروحاً لم تندمل في المجتمع الأميركي بعد 23 عاماً من ذكراها، وولّدت حرباً مستعرة «ضد الإرهاب» شنتها الإدارات المتعاقبة في العراق وأفغانستان، في سلسلة من القرارات السياسية والخطوات العسكرية التي هدفت إلى تجنب تكرار حوادث مشابهة ومحاسبة المنفذين والمخططين، لكنها أيضاً تجاهلت القوانين الدولية والأعراف الأميركية، ليكون الرمز الأبرز لهذه الممارسات «معتقل غوانتنامو» في كوبا.

اليوم وفي الذكرى الـ23 للهجمات، لا يزال المعتقل مفتوحاً رغم كل الوعود والتعهدات بإغلاقه لطي صفحة لطخت سمعة أميركا في العالم، وساعدت أعداءها في تجنيد عناصر لمهاجمتها.

ومع انسحاب إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن من أفغانستان، واستعداداتها الجارية للانسحاب من العراق (وتمت جدولته لعام 2026) تبقى الآمال معلقة على وعود إغلاق هذه القاعدة العسكرية الموجودة في كوبا والتي استقبلت أول الوافدين العشرين إليها بعد اعتداءات سبتمبر، في 11 يناير (كانون الثاني) 2002 في عهد جورج بوش الابن. ثم وصل عدد المعتقلين إلى قرابة 800 في الأعوام الماضية، قبل أن يتم نقل عدد كبير منهم ويبقى منهم اليوم نحو 30 معتقلاً.

هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز - أرشيفية)

غوانتنامو بين بايدن، وأوباما وترمب

سعت إدارة بايدن جاهدة لتنفيذ وعودها بإغلاق غوانتنامو ونقل المعتقلين، وكانت باشرت في عملية النقل الأولى في 19 يوليو (تموز) 2021، وسعت لاستكمال هذه العملية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ أفادت تقارير صحافية عن خطتها لنقل 11 معتقلاً لسلطنة عمان. وقد أبلغت الكونغرس نيتها الإقدام على هذه الخطوة قبل 30 يوماً من موعد التنفيذ بحسب القانون الأميركي، لكن هجوم 7 من أكتوبر الماضي عرقل المساعي بعدما حذّر أعضاء الكونغرس من المضي قدماً خوفاً من تدهور الوضع في الشرق الأوسط.

وتسلّط هذه الخطوات الضوء على التحديات الضخمة بوجه قرار الإغلاق وتنفيذه وهذا ما يتحدث عنه آدم كليمينتس مدير الاستراتيجية والسياسة السابق لقطر والكويت في وزارة الدفاع الأميركية والمستشار العسكري السابق في هيئة الأركان المشتركة لليمن والسعودية والأردن وعمان، فيقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «من الصعب على إدارة بايدن اتخاذ خطوة من هذا النوع في عام انتخابي لأن خصومه السياسيين سيعثرون على طريقة لاستعمال هذا القرار ضده وضد الديمقراطيين». ويخص كلمينتس بالذكر أفغانستان وانتقادات الجمهوريين المتزايدة لما يصفونه بـ«الانسحاب الكارثي» فيقول: «رغم أن إدارات بوش الابن وأوباما وترمب وبايدن تتحمل مسؤولية مشتركة لفشل السياسة الأميركية في أفغانستان، فإن الجمهوريين يسعون لربط الانسحاب الأميركي من أفغانستان بصفته فشل في سياسة بايدن الخارجية، بأي قرار حول غوانتنامو».

من ناحيته، يشير الكولونيل عباس داهوك المستشار العسكري السابق لوزارة الخارجية إلى تحديات سياسية وقانونية وأمنية حالت دون إغلاق غوانتنامو فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «معظم الأدلة ضد المعتقلين يعتمد على معلومات استخباراتية سرية، مما يعقد استخدامها في محاكمات علنية من دون المخاطرة بالكشف عن معلومات حساسة تصعّب بدورها عقد محاكمات عادلة». ولا تتوقف التحديات عند هذا الحد، بل تشمل، بحسب داهوك، التعاون والتنسيق بين مختلف الوكالات الأميركية بما فيها وزارات الدفاع والعدل والخارجية، مضيفاً: «هذه التعقيدات البيروقراطية تعرقل الإغلاق».

وخيمت هذه التعقيدات على مساعي إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما أيضاً في إغلاق المعتقل، فمع تعالي الأصوات المنتقدة للممارسات الأميركية فيه، وصدور تقارير كثيرة كشفت أساليب تعذيب مبتكرة تخرق اتفاقيات معاملة الأسرى، وصلت إلى حد وصف منظمة العفو العالمية لغوانتنامو بأنه «رمز التعذيب ونقل المعتقلين بطريقة غير شرعية، والاحتجاز إلى أجل غير مسمى من دون تهمة أو محاكمة»، سعت إدارة أوباما إلى وضع خطة لإغلاقه. فأصدر الرئيس الديمقراطي السابق قراراً في 22 يناير 2009 بإغلاق كل العمليات في غوانتنامو خلال عام واحد وتعليق جلسات المحاكمة، كما أمر بتأسيس فريق عمل لمراجعة وضع بقية المعتقلين الذين وصل عددهم حينها إلى نحو 240 رجلاً.

لكن العرقلة جاءت أيضاً من الداخل الأميركي وتحديداً من الكونغرس الذي رفض جهود الإغلاق، ليأتي الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويوقع أمراً تنفيذياً في يناير من عام 2018 لإبقاء المعتقل مفتوحاً و«إرسال المزيد من الإرهابيين إليه».

سمعة ملطخة و«رمز للنفاق»

على مدار السنوات وتبدل الإدارات، لم تقف العرقلات بوجه تحركات الداعين لإغلاق غوانتنامو ومنهم «مركز الحقوق الدستورية» المعني بالدفاع عن المعتقلين. وتقول كبيرة المحامين الإداريين في المركز شاين كاديدال لـ«الشرق الأوسط»: «لقد حان الوقت لإغلاق غوانتنامو وإنهاء الاحتجاز إلى ما لا نهاية من دون تهمة أو محاكمة» وتتابع مذكرة بتصريح الجنرال الأميركي أنطونيو تابوغا الذي أعد تقريراً داخلياً يفصل الانتهاكات في سجن أبو غريب قائلة: «إن السجن أضر بصورة الولايات المتحدة لأسباب تستحقها، وهو مستمر بهذا الضرر، وأذكر تصريح الجنرال تابوغا للكونغرس حين قال إن السببين وراء مقتل الأميركيين في ساحة المعركة في أفغانستان والعراق هما أبو غريب وغوانتنامو فقد تم استعمالهما كأدوات تجنيد لأعداء الولايات المتحدة».

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

وبالفعل يوافق كل من كلمينتس وداهوك مع هذه المقاربة، فيشير الأول إلى وجود الكثير من الإخفاقات السياسية الأميركية المتعلقة بالعراق وأفغانستان مضيفاً: «نعم إن فكرة انتهاك حقوق الإنسان أو انتهاكات الكرامة الإنسانية تؤثر على سمعة الولايات المتحدة في الخارج، وهذه النظرة، حتى لو كانت شرعية تقنياً ضمن القوانين الدولية والأميركية، فإنها قد توفر مادة (بروباغندا) للمجموعات المتشددة».

ويقدم داهوك تقييماً مماثلاً فيقول: «قد يكون غوانتنامو قدم حلولاً قصيرة الأمد للأمن القومي الأميركي من خلال اعتقال أشخاص خطرين وتجنب تهديدات فورية، لكنه أصبح رمزاً للنفاق في السياسة الخارجية. وهذا يؤثر سلباً على جهود القيادة بالمثل في حقوق الإنسان ويعقد من التعاون مع شركاء أساسيين في الحرب ضد الإرهاب. كما أن غوانتنامو أضرَّ الأمن القومي الأميركي من خلال تغذية التشدد وإيذاء التحالفات المهمة مع الشركاء».

تكاليف باهظة وصفقات سرية

بالإضافة إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة، يشير كثيرون إلى أن إغلاق غوانتنامو ضروري بسبب تكاليفه الباهظة. فبحسب مبادرة «ذي بريدج» وهي مشروع أبحاث عن الإسلاموفوبيا في جامعة جورج تاون الأميركية، تخطت تكلفة المعتقل 6 مليارات دولار منذ عام 2002 ووصلت تكلفة احتجاز كل فرد إلى 13 مليون دولار، مما يجعل المعتقل «أكثر برامج الاحتجاز تكلفة في العالم». وفي معرض المقارنة، فإن السجين الواحد في سجن كولورادو الفيدرالي بتصنيف «سوبرماكس»، أي الشديد الحراسة كلف دافع الضرائب الأميركي 78 ألف دولار في عام 2012.

اليوم ومن ضمن المعتقلين الثلاثين الموجودين في غوانتنامو، هناك 3 معتقلين «إلى ما لا نهاية» بموجب قانون الحرب، من دون توصيات بنقلهم، وهم: زين العابدين محمد حسين- أبو زبيدة (فلسطيني) ومصطفى فرج مسعود الجديد محمد (ليبي) ومحمد رحيم (أفغاني).

وهناك 16 معتقلاً تمت التوصية بنقلهم بحسب قوانين الحرب «في حال الإيفاء بالشروط الأمنية» ومعظمهم من اليمن. أما البقية، وهم 11 فقد تم توجيه اتهامات لهم بارتكاب جرائم حرب في المحاكم العسكرية، وينتظر 7 منهم المحاكمة فيما تمت إدانة أربعة.

لا لعقوبة الإعدام

هنا يكمن تحدٍ من نوع آخر، ففي نهاية يوليو من العام الحالي، أعلن البنتاغون إن المسؤول المشرف على اللجان العسكرية توصل إلى اتفاق قضائي مع ثلاثة من المعتقلين المتهمين بالتخطيط لهجمات 11 سبتمبر هم خالد شيخ محمد ووليد محمد صالح مبارك بن عطاش، ومصطفى أحمد آدم الهوساوي، مفاده الاعتراف بالذنب مقابل موافقة الادعاء على عدم المطالبة بعقوبة الإعدام. وتفسر كاديدال لـ«الشرق الأوسط» خلفيات الاتفاق فتقول: «الادعاء يريد الاتفاق لأنه يعلم أن عقوبة الإعدام لن تنفذ. ليس لان الأدلة ملطخة بالتعذيب، بل لأن نظام المحاكمات العسكرية ليس مؤهلاً بما يكفي للمضي قدماً بقضايا معقدة لهذه الدرجة، وعندما تنتهي المحاكمة وعمليات الاستئناف سيكون المتهمون إما في السبعينات من عمرهم أو قد ماتوا لأسباب طبيعية».

خالد شيخ محمد العقل المدبر لـ«هجمات سبتمبر» الإرهابية (نيويورك تايمز)

ويوافق داهوك مع كاديدال على تقييم المحاكمات العسكرية فيصفها بالبطيئة وغير الفعالة، مع وجود بعض القضايا التي استمرت لأكثر من عقد.

لكن هذه الحجج لم تقنع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي عمد إلى اتخاذ خطوة غير اعتيادية وتدخل في الإجراءات معلناً نقضه للاتفاق قائلاً إنه «لطالما اعتقدت بأن عائلات الضحايا والقوات الأميركية والشعب الأميركي يستحق الفرصة بأن يرى المحاكم العسكرية تتخذ مجراها في هذه القضية.» إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فمن غير المؤكد أن أوستن لديه الصلاحية الكافية لنقض قرار من هذا النوع، لهذا فقد عمد القاضي العسكري في قضية الاعتداءات الكولونيل ماثيو مكول إلى السماح للمحامين بالتحقيق فيما إذا كان قرار أوستن ضمن الأعراف والقوانين المعتمدة على أن يتم النظر فيها في الجولة المقبلة من جلسات الاستماع التي ستبدأ في 16 من الشهر الحالي. وعن هذا تقول كاديدال: «أعتقد أن محاولة وزير الدفاع لنقض قرار تم البت فيه سوف تفشل قانونياً، وسوف يتم المضي قدماً بالاتفاق. وهذا أمر جيد، لأن الاتفاق هذا هو الفرصة الوحيد لآلاف العائلات للحصول على نوع من الخاتمة العاطفية، كما أنه قد يولد بعض الأجوبة من المتهمين على أسئلة كثيرة».

وبانتظار المزيد من الوضوح لتبيان تفاصيل المرحلة المقبلة، يدق الديمقراطيون ناقوس الخطر محذرين من أن وصول ترمب إلى البيت الأبيض مجدداً من شأنه أن يعيد الزمان إلى الوراء ويحيي المعتقل، لكن مواقف ترمب غير ثابتة في هذا الخصوص، فبعد أن تعهد بعدم إغلاق غوانتنامو في عام 2018 تحدث عن تكلفته الباهظة في عام 2019 قائلاً: «هذا جنون، إدارة غوانتنامو تكلف ثروة».

أما أغرب تصريح لترمب حول الملف، فهو ما ذكره صحافيا «واشنطن بوست» ياسمين أبو طالب وداميان باليتا في كتاب لهما صدر مؤخراً، ويقول فيه ترمب إنه أراد حجر المصابين بـ«كورونا» في غوانتنامو... فماذا ستكون خطته إذا ما فاز؟