التسول في شوارع لندن إحدى المهن الجديدة لمهاجري أوروبا الشرقية

«اسكوتلانديارد» لـ : نسب الجريمة ارتفعت في السنوات الست الأخيرة

قوات الشرطة في لندن لم تستطع إلى الآن السيطرة  بشكل كامل على نشاط عصابات التسول المنظمة (تصوير: جيمس حنا)
قوات الشرطة في لندن لم تستطع إلى الآن السيطرة بشكل كامل على نشاط عصابات التسول المنظمة (تصوير: جيمس حنا)
TT

التسول في شوارع لندن إحدى المهن الجديدة لمهاجري أوروبا الشرقية

قوات الشرطة في لندن لم تستطع إلى الآن السيطرة  بشكل كامل على نشاط عصابات التسول المنظمة (تصوير: جيمس حنا)
قوات الشرطة في لندن لم تستطع إلى الآن السيطرة بشكل كامل على نشاط عصابات التسول المنظمة (تصوير: جيمس حنا)

أصبحت ظاهرة التسول في شوارع العاصمة البريطانية لندن تجارة يتنافس عليها كثيرون، ومجالا تبدع فيه عصابات منظّمة ويأكل فيه حق الضعيف والمحتاج. وتزداد هذه الظاهرة حدة مع حلول إجازة الصيف، حيث لا تكاد الشوارع، التي يرتادها السياح العرب خصوصا، تخلو من نساء وأطفال وشباب، أغلبهم من المهاجرين الرومانيين، اتخذوا من التسول منهج حياة.
وتتنوع شخصيات من يلجأون للتسول فقد تكون بائعة ورد في مقتبل عمرها، أو سيدة متقدمة في السن، أو شابا ثلاثينيا يعزف بأداة بالية وهو يراقب عن بعد ما جمعته فتيات تحت إمرته من تبرعات المارّة. ما الذي يجمعهم؟ قد تكون جنسياتهم الرومانية أو البلغارية أو البوسنية وضياعهم في بلد توجهوا إليه من أجل حياة أفضل فخذلوا، وبعض الكلمات العربية كـ«السلام عليكم أختي»، و«الله أكبر» و«أرجوك» يستميلون بها العرب والمسلمين.
تراهم يتبعون المارة في شارع العرب الشهير «إدجوار رود»، ويجلسون قبالة المقاهي والبقالات العربية، وينامون تحت جسور لندن وفي مداخل قطارات الأنفاق، ويغسلون ملابسهم ومواعينهم في نافورة «ليدي ديانا» وغيرها من النافورات المركزية في حديقة الهايد بارك، وينتظرون خروج المصلين عند أبواب مساجد العاصمة.
قالت مريم، وهو اسم مستعار لسيدة رومانية في عقدها الستين، لـ«الشرق الأوسط» بعد صلاة الجمعة في مسجد «ريجنتس بارك» المركزي إنها قدمت إلى بريطانيا منذ ثلاثة أشهر لم تتمكن خلالها أن تحصل على عمل. وأضافت أنها هاجرت و7 من أفراد عائلتها إلى بريطانيا، آملة في حياة أفضل من حياتها في تيميشوارا (غربي رومانيا). وبكلمات إنجليزية قليلة وركيكة، قالت إنها اضطرت إلى اتخاذ التسول مهنة وإن «العرب والمسلمون كريمون».
وبيد أن هذه الظاهرة تستمر منذ سنتين على الأقل، إلا أن قوات الشرطة في لندن لم تستطع إلى الآن السيطرة بشكل كامل على نشاط عصابات التسول المنظمة، كما لم تتمكن من ضبط تحركاتهم لضمان سلامتهم وسلامة السياح. ويوضح ماثيو راسل، متحدث باسم شرطة لندن المركزية، لـ«الشرق الأوسط» أن «قوات أمن لندن وشركاءها تقوم بعمليات وقتية تستهدف ظاهرة الحياة (غير المستقرة) بما فيها التسول، والسرقة، وشرب الكحول في الشوارع، والعنف». ويفيد راسل أن «هذه عمليات الشرطة قد تتخذ شكل دوريات توعية يشارك فيها أفراد من الشرطة وشركات أمنية شريكة». كما قال راسل إن الهدف من هذه العمليات المنتظمة هو «دعم هؤلاء الأفراد في الابتعاد عن أسلوب حياة قد يعرضهم وغيرهم إلى الخطر».
ووصل عدد المهاجرين الرومانيين والبلغاريين إلى المملكة المتحدة إلى نحو 37 ألفا في عام 2014 فقط، ما يمثل نحو 6 في المائة من إجمالي المهاجرين، وفقا لآخر الإحصائيات الرسمية. وعرفت بريطانيا توافدا كبيرا للمهاجرين الرومانيين والبلغاريين منذ 2007، وهي السنة التي انضم فيها البلدان إلى الاتحاد الأوروبي، واستمرت الهجرة منذ أن ألغت دول الاتحاد الأوروبي قيود العمل المطبقة على الرومانيين والبلغاريين السنة الماضية. وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، أوضح مصدر في مكتب الإحصاءات الرسمية البريطاني أن ثلاثة أرباع من مهاجري هذين البلدين قدموا إلى بريطانيا للعمل، مسجلا ارتفاعا بنسبة 15 في المائة مقارنة مع عام 2013.
أما عن معدلات الجريمة المرتبطة بهذه الظاهرة، فأفاد مسؤول في «اسكوتلانديارد» في حديث مع «الشرق الأوسط» أن إجمالي المهاجرين الرومانيين الموقوفين في العاصمة البريطانية وحدها خلال السنوات الستة الأخيرة تجاوز 42 ألفا، مسجلا ارتفاعا ملحوظا منذ أواخر عام 2009، ذلك حيث ارتفع عدد الموقوفين الرومانيين من 4093 في مناطق لندن المركزية عام 2009 إلى 7605 عام 2014.
وفي حين ترتكز التغطية الإعلامية البريطانية عموما على جوانب الهجرة السلبية كتلك المتعلقة بالجريمة، والتسول، والفقر، إلا أن ذلك أثار نقاشا حادا في الأوساط الحقوقية البريطانية التي انتقدت التعميمات التي تطال المهاجرين الرومانيين والبلغاريين خصوصا. وتوضّح دورا فيكول وويليام آلن، خبيرين في شؤون الهجرة في مرصد الهجرة التابع لجامعة أكسفورد، أن الصحافة البريطانية والصفحات الصفراء، على حد السواء، يتعاملون مع المهاجرين الرومانيين على أنهم شريحة متجانسة، وعادة ما يربطونهم بالفقر والعنف والتشرد وغيرها. كما اعتادت الصحافة الوطنية كذلك على توقع «غزو روماني وبلغاري» على بريطانيا بعد رفع قيود العمل المفروضة عليهم العام الماضي، إلا أن الإحصائيات تظهر ارتفاعا تدريجيا ومماثلا لنسب الأعوام الماضية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)