«الداعوقية» اختراع بيروتي فكرته كانت مجرد هواية

حلوى لبنانية متوارثة أباً عن جد

أهم مكون في حلوى الداعوقية هو الفستق الحلبي     -   حلوى مميزة بلونها الأخضر (حساب حلويات الداعوق على إنستغرام)
أهم مكون في حلوى الداعوقية هو الفستق الحلبي - حلوى مميزة بلونها الأخضر (حساب حلويات الداعوق على إنستغرام)
TT

«الداعوقية» اختراع بيروتي فكرته كانت مجرد هواية

أهم مكون في حلوى الداعوقية هو الفستق الحلبي     -   حلوى مميزة بلونها الأخضر (حساب حلويات الداعوق على إنستغرام)
أهم مكون في حلوى الداعوقية هو الفستق الحلبي - حلوى مميزة بلونها الأخضر (حساب حلويات الداعوق على إنستغرام)

كان محمد خير الداعوق يعمل صياد سمك وطيور قبل أن يتفرّغ لهوايته المفضلة، ألا وهي صناعة الحلويات. وكان يهرع إلى مطبخه في كل مرة يجد فيها بعض وقت الفراغ، فيحضّر طبقاً من الحلويات اللبنانية المعروفة. وفي الستينات قرر أن يفتتح محل حلويات «أحمد الداعوق» في الطريق الجديدة في بيروت، تيمناً باسم والده انطلق في مشواره المهني الجديد، الذي لا يزال يعده حتى اليوم مجرد هواية.
«الداعوقية» تتفرد بصنعها محلات أحمد الداعوق، وهي تقفز أمام نظرك ما إن تطأها قدماك. فهي تفترش المحل بموسم رمضان، لأن محمد يتوقف عن صناعة أي حلويات أخرى غيرها في الشهر الكريم.
و«الداعوقية» المغمورة بالأخضر والمحشوة بالقشدة هي بمثابة لوحة تشكيلية تلفتك عند مشاهدتك لها. وهي فكرة راودت محمد خير الداعوق، فقام باختبارات كثيرة في مطبخه كي تخرج إلى النور بهذا الشكل والطعم. وهي تتألف من عجينة تشبه تلك التي تستخدم في صناعة طبق الكنافة، فتمزج مع كميات كبيرة من الفستق الحلبي لتتحول إلى عجينة خضراء. وبعد أن يتم مدّ القشدة على الصينية توضع عجينة الداعوقية فوقها. ويعلق محمد خير الداعوق لـ«الشرق الأوسط»: «هي فكرة استلهمتها من أحدهم ولكني طورتها بعد عدة اختبارات قمت بها لتصبح بهذا الشكل». اليوم يستريح محمد على كرسي بلاستيكي أمام محلاته في الطريق الجديدة. فهو ترك إدارتها لابنه أحمد الذي ورث عنه أسرار المهنة وأبقى على مكوناتها كما هي.
ويقول أحمد لـ«الشرق الأوسط»: «إننا نبيع هذا الطبق منذ عام 1982 أيام الاجتياح الإسرائيلي. عندما ولدت الفكرة مع والدي أثناء انقطاع التيار الكهربائي في المدينة. فكان يقوم بتجاربه على عجينة الداعوقية وطحن الفستق الحلبي يدوياً. وبعد أن جرّبها راح يطورها إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم». وعن سر عجينة «الداعوقية» يروي الابن: «سرّها يكمن في نوعية الفستق الحلبي المستخدم في عجينتها. فمع كل الظروف الصعبة التي مررنا بها في لبنان رفض والدي محمد خير أن يستبدل به صنفا أرخص سعراً وأقل جودة منه».
و«الداعوقية» اللذيذة بعجينتها الخضراء وبمقادير السكر المتوازنة فيها تزين مائدة الإفطار كما مائدة السحور. ويعلق أحمد الداعوق: «البعض يفضلها كطبق أساسي للسحور تماماً كالكنافة بالجبن أو القشدة، فمكوناتها تشعر متناولها بالشبع في ساعات الصوم الطويلة».
حاول كثيرون تقليد «الداعوقية» بعد أن ذاع صيتها كطبق حلويات مميز في بيروت وفي منطقة الطريق الجديدة بالتحديد. وهي لا تتوفر بمكوناتها الأساسية في أي منطقة أخرى في لبنان وحتى في العالم العربي. وتقول نوال التي التقيناها في محلات الداعوق: «لجأت بعض محلات الحلوى المعروفة إلى صنعها تحت أسماء مختلفة كـ(الصفصوفية) و(البحصلينو). ولكننا كذواقة للحلوى يمكننا بسرعة التفريق بين طعمها الأصلي وغيره. لذلك نتوجه مباشرة إلى هنا كي لا نضيع وقتنا في تذوق غيرها مقلدة».
ويتدخل محمد خير الداعوق معلقاً لـ«الشرق الأوسط»: «ليس سراً ما أقوم به، ولكن المكونات تلعب دوراً أساسياً في الداعوقية. فكما أن الأرز لا يتحول إلى برغل في طبخة ما فهكذا الداعوقية. فهي تتألف من مكونات رئيسية أحافظ على استخدامها منذ بداياتي. كما أني لا أعد نفسي (حلونجياً) كغيري، بل ما زلت هاويا لصناعة الحلو. ولذلك تأخذ حلوياتي طعماً مختلفاً مشبعاً بالشغف الذي يسكنني وأنا أحضرها».
وخلال حديثنا مع آل الداعوق يتوقف أحد الزبائن ليخبرنا أنه ومنذ صغره اعتاد شراء «الداعوقية» في رمضان من محلات الداعوق فقط، «أتذكر جيداً والدي الذي كنت أمسك بيده ويصطحبني إلى هذا المكان. فأنا زبون قديم هنا منذ نحو 30 عاماً تقريباً. وفي رمضان خصوصاً أقصد هذه المحلات كي أعرّف أولادي على هذا الطبق من الحلوى اللذيذة. فنحن لا نجدها في أي مكان آخر في لبنان».
ويختم محمد خير الداعوق: «لقد تذوقت كل أنواع الحلوى في مختلف المحلات المشهورة وغيرها الشعبية. والقاعدة الأساسية في عملنا تقول إنه لا أحد يمكنه أن يشتهر في مهنته هذه إذا ما كان يغش أو يسترخص كي يوفر على جيبه. فمن طلب النجاح عليه أن يكون كريماً على منتجاته وإلا فشل. ولكنني أتمسك بالصدق وبالإنسانية، لأن الناس يجب أن تفرح في هذا الموسم. ولا ينبغي أن نزيد من همومهم، بل يجب أن نسهم في إسعادهم مع عائلاتهم».


مقالات ذات صلة

هل تأثرت توابل المصريين بالجاليات الأجنبية؟

مذاقات البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)

هل تأثرت توابل المصريين بالجاليات الأجنبية؟

«رشّة ملح وفلفل»، معادلة مصرية تعود إلى الجدات، تختصر ببساطة علاقة المطبخ المصري بالتوابل، والذي لم يكن يكترث كثيراً بتعدد النكهات.

إيمان مبروك (القاهرة)
مذاقات مبنى «آر إتش» من تصميم المهندس المعماري البريطاني السير جون سوان (الشرق الأوسط)

«آر إتش» عنوان يمزج بين الأكل والأثاث في حضن الريف الإنجليزي

سحر الريف الإنجليزي لا يقاوم، وذلك بشهادة كل من زار القرى الجميلة في إنجلترا. قد لا تكون بريطانيا شهيرة بمطبخها ولكنها غنية بالمطاعم العالمية فيها

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات طبق الكشري المصري (شاترستوك)

مبارزة «سوشيالية» على لقب أفضل طبق كشري في مصر

يبدو أن انتشار وشهرة محلات الكشري المصرية، وافتتاح فروع لها في دول عربية، زادا حدة التنافس بينها على لقب «أفضل طبق كشري».

محمد الكفراوي (القاهرة ) محمد الكفراوي (القاهرة)
مذاقات مطعم "مافرو" المطل على البحر والبقايا البركانية (الشرق الاوسط)

«مافرو»... رسالة حب إلى جمال المناظر الطبيعية البركانية في سانتوريني

توجد في جزيرة سانتوريني اليونانية عناوين لا تُحصى ولا تُعدّ من المطاعم اليونانية، ولكن هناك مطعم لا يشبه غيره

جوسلين إيليا (سانتوريني- اليونان)
مذاقات حليب جوز الهند بلآلئ التابيوكا من شيف ميدو برسوم (الشرق الأوسط)

نصائح الطهاة لاستخدام مشتقات جوز الهند في الطهي

حين تقرّر استخدام جوز الهند في الطهي، فإنك ستجده في أشكال مختلفة؛ إما طازجاً، مجفّفاً، أو حليباً، أو كريمة، وثمرة كاملة أو مبشورة.

نادية عبد الحليم (القاهرة )

هل تأثرت توابل المصريين بالجاليات الأجنبية؟

البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)
البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)
TT

هل تأثرت توابل المصريين بالجاليات الأجنبية؟

البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)
البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)

«رشّة ملح وفلفل»، معادلة مصرية تعود إلى الجدات، تختصر ببساطة علاقة المطبخ المصري بالتوابل، والذي لم يكن يكترث كثيراً بتعدد النكهات، في حين عُرف بالاعتماد على مذاق المكونات الأساسية، مع لمسة محدودة لم تتخطَّ صنفين أو ثلاثة من التوابل.

غير أن الوضع تبدّل الآن، وباتت الأكلات المصرية غارقة في توليفات التوابل، فدخل السماق والزعتر البري والكاري والبابريكا على الوصفات التقليدية. وعلى مدار سنوات عدة قريبة تطوّر المطبخ المصري، وبات أكثر زخماً من حيث النكهات، ليطرح السؤال عن مدى تأثره أو تأثيره في الجاليات التي توجد بالبلاد.

ويرى خبراء الطهي، أن معادلة التوابل لدى المصريين اختلفت بفضل الاندماج الثقافي وتأثير الجاليات العربية التي دفعتهم ظروف الحروب لدخول مصر والاستقرار بها، أيضاً منصات التواصل الاجتماعي التي أزاحت الحدود، ودفعت بمفهوم «المطبخ العالمي»، فنتج خليط من النكهات والثقافات استقبلته المائدة المصرية بانفتاح.

البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)

ورأت الطاهية المصرية أسماء فوزي، في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن المطبخ المصري الآن «بات مزيجاً من ثقافات عربية»، وقالت: «عندما بدأت أتعلَّم الطهي من والدتي وجدتي، كانت توليفة التوابل الأشهر تشمل الملح والفلفل، وفي وصفات شديدة الخصوصية قد نستعين بالكمون والحبّهان على أقصى تقدير، أما الكزبرة المجففة فكانت حاضرة في طبق (الملوخية) فقط».

لكنها أشارت إلى أنه قبل سنوات معدودة لاحظت تغييراً واضحاً في تعاطي المطبخ المصري التوابل، و«بدأتُ للمرة الأولى أستعين بنكهات من شتى بقاع الأرض لتقديم مطبخ عصري منفتح على الآخر».

التوابل والأعشاب المصرية مرت برحلة مثيرة عبر قرون من التاريخ والثقافة، واشتهر المطبخ المصري قديماً بمجموعة من الكنوز العطرية، تشمل الكمون بنكهته العميقة التي ارتبطت بطبق «الكشري»، والكزبرة، تلك الأوراق الخضراء المجففة التي تضيف لطبق «الملوخية» نكهته الفريدة، كما عرف الشبت ذو النكهة العشبية المميزة الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بوصفات التمليح (التخليل) والسلطات.

يتفق محمود عادل، بائع بأحد محال التوابل الشهيرة في مصر، يسمى «حاج عرفة»، مع القول بأن المطبخ المصري تحوّل من محدودية النكهات إلى الزخم والانفتاح، ويقول: «المصريون باتوا يميلون إلى إضافة النكهات، وأصبح أنواع مثل السماق، والأوريجانو، والبابريكا، والكاري، والكركم، وورق الغار، وجوزة الطيب والزعتر البري، مطالب متكررة للزبائن». ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «ثمة انفتاح على المطابخ العالمية بسبب منصات التواصل الاجتماعي انعكس على سوق التوابل، وهو ما يعتبره (اتجاهاً إيجابياً)».

ويرى عادل أن «متجر التوابل الآن أصبح أكثر تنوعاً، وطلبات الزبائن تخطت الحدود المعروفة، وظهرت وصفات تعكس الاندماج بين المطابخ، مثل الهندي الذي تسبب في رواج الكركم وأنواع المساحيق الحارة، فضلاً عن الزعفران»، منوهاً كذلك إلى المطبخ السوري، أو الشامي عموماً، الذي حضر على المائدة المصرية بوصفات اعتمدت نكهات الزعتر والسماق ودبس الرمان، ووضعت ورق الغار في أطباق غير معتادة.

وتعتقد الطاهية أسماء فوزي، أن سبب زخم التوابل وتنوعها الآن في مصر، يرجع إلى «الجاليات العربية التي دخلت البلاد عقب (ثورة) 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011، أي قبل أكثر من عقد». وتقول: «بصمة المطبخ السوري بمصر كانت واضحة، فالجالية السورية اندمجت سريعاً، وقدمت مهارات الطهي من خلال المطاعم و(المدونين)، وانعكس ذلك على اختيارات التوابل، وبات ملاحظاً إضافة توليفات التوابل السوري، مثل السبع بهارات لوصفات مصرية تقليدية».

بهارات متنوعة (صفحة محال رجب العطار على «فيسبوك»)

كما أشارت إلى أن «المطبخ العراقي ظهر، ولكن على نحو محدود، وكذلك الليبي»، وتقول: «ما أتوقعه قريباً هو رواج التوابل السودانية، مع تزايد أعدادهم في مصر بعد الحرب، لا سيما أن المطبخ السوداني يشتهر بالتوابل والنكهات».

انفتاح أم أزمة هوية؟

كلما انعكست مظاهر الانفتاح الثقافي على المطبخ المصري، ازدادت معه مخاوف الهوية، وفي هذا الصدد تقول سميرة عبد القادر، باحثة في التراث المصري، ومؤسسة مبادرة «توثيق المطبخ المصري»: «إنه (المطبخ المصري) لم يعتمد في أصوله على النكهات المُعززة بالتوابل المختلطة»، وترى في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن تفرّد المطبخ المصري القديم يرجع إلى اعتداله في إضافة التوابل... «هذا لا يعني إهماله لسحر مذاق البهارات والتوابل، غير أنه كانت له معادلة شديدة الدقة، كما أن علاقة المصري بالتوابل ذهبت قديماً إلى ما هو أبعد من فنون الطهي».

وأرجعت الباحثة في التراث المصري زيادة الاهتمام بالتوابل إلى (المؤثرين) وطُهاة «السوشيال ميديا»، وتقول: «المطبخ المصري لا يعتمد على التوابل بهذا القدر، في حين هناك عوامل كانت وراء هذا الزخم، أهمها (المؤثرون) و(مدونو) الطعام؛ غير أن إضافة التوابل بهذا الشكل ربما تُفقد المطبخ المصري هويته».

ولفتت إلى أن «المطبخ المصري القديم اعتمد على الملح والفلفل والكمون فقط، أما بقية التوابل فكانت تستخدم لأغراض مثل العلاج والتحنيط؛ وفي العصور الوسطى شهد بعض الاندماج بعد فتح قنوات التواصل مع الدول المحيطة، ولكن على نحو محدود لا يُقارن بالزخم الحالي».