عاد إيمانويل ماكرون، ليل أمس، من «زيارة دولة» استمرت يومين في هولندا، وهي الأولى من نوعها لرئيس فرنسي منذ 23 عاماً. ورغم أهميتها على المستوى الأوروبي نظراً لحاجة باريس لـ«حلفاء» داخل الاتحاد في حين علاقاتها مع برلين تتقلب بين العادية والفاترة، فإن أمرين جاءا ليحرفا الأضواء عن «الرسالة» التي كان ماكرون يريد إيصالها إلى الأوروبيين عبر البوابة الهولندية، التي تتركز حول الحاجة لبناء «الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية في ميداني الاقتصاد والصناعة».
الأول، التشويش الذي واجهه بمناسبة إلقاء خطابه أول من أمس في معهد «نيكسوس» في لاهاي؛ حيث قاطعته مجموعة من الأشخاص على صلة بالمظاهرات التي عرفتها فرنسا بسبب قانون تعديل نظام التقاعد والعنف الذي رافقها، إضافة إلى رفع لافتة كبيرة من أحد المدرجات كتب عليها: «رئيس العنف والنفاق». وتكرر الحادث أمس لدى وصول ماكرون بمعية ملك هولندا فيليم ألكسندر إلى جامعة أمستردام، حيث ألقت الشرطة القبض على شخصين «رجل وامرأة» لشعارات رفعاها، وهي تستعيد أحد شعارات «السترات الصفراء» خلال الحراك الذي عرفته فرنسا في 2019 و2020.
بيد أن الأمر الثاني والأهم الذي ألقى بظلاله على زيارة ماكرون لهولندا، مصدره التصريحات التي أدلى بها في رحلة العودة من الصين إلى فرنسا؛ حيث أجرى زيارة دولة من ثلاثة أيام. وحتى أمس، توالت الردود العنيفة على المواقف التي عبّر عنها، خصوصاً حول التوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة الأميركية والصين بشأن تايوان. وأهم ما جاء على لسانه ونقلته صحيفة «لي زيكو» وموقع «بوليتكيو» ما يلي: «هل لنا مصلحة في تصعيد الوضع في تايوان؟ بالطبع لا. إن أسوأ ما قد يحصل أن يعتبر البعض أن يكون الأوروبيون تابعين، وأن عليهم أن يتكيفوا مع النسق الأميركي أو مع ردة الفعل الصينية المغالية».
وخلال الأيام الثلاثة الماضية، فُتحت النار على ماكرون أميركياً وأوروبياً، وذهبت الأمور إلى حد أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب استخدم كلمات حادّة للتنديد بما صدر عن الرئيس الفرنسي، ما حمل مصادر دبلوماسية فرنسية أمس للدفاع عنه. ونقلت صحيفة «لو فيغارو» عن أحد المصادر قوله: «نحن لسنا تابعين للولايات المتحدة لسبب بسيط هو أن الرئيس ماكرون يدعو لقيام السيادة الأوروبية»، مضيفاً أن فرنسا «حليف موثوق وصلب للولايات المتحدة وملتزم بالتحالف معها، لكننا نحن من يتخذ القرار فيما يخص شؤوننا». وقبل ذلك، قالت مصادر رئاسية إن باريس «ليست على مسافة واحدة من واشنطن ومن بكين»، في حين سارع البيت الأبيض للقول إن «العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة ممتازة»، وكذلك العلاقات بين ماكرون والرئيس بايدن.
كان الترويج لهذه الاستقلالية أحد الأهداف الرئيسية من زيارة هولندا، وقد أتيحت له الفرصة لعرض حججه في خطابه في معهد «نيكسوس»؛ حيث سعى لطرح نظرية اقتصادية أوروبية «تحمي مصالح وقيم الاتحاد الأوروبي» وتوفر النمو وتحافظ على نظامه الاجتماعي وتسنح بتحقيق النقلة البيئوية. وتنهض هذه النظرية على خمسة أعمدة؛ يتناول أولها المنافسة والاندماج الأوروبي وهو يشمل تعزيز الأنظمة التعليمية والإبداع والإصلاح والتأهيل والمساعدة على بروز هيئات أوروبية اقتصادية قوية وأسواق مالية مندمجة توفر التمويل اللازم. وينهض ثاني الأعمدة على إطلاق سياسة صناعية أوروبية طموحة تحمي وتدافع عن المصالح الأوروبية، وثالث الأعمدة يدعو إلى حماية المصالح الاستراتيجية الأوروبية بالتركيز على قطاعات الدفاع والتكنولوجيا والصحة والملكية الفكرية والخروج من تبعية أوروبا في الطاقة وفرض الرقابة على الاستثمارات الخارجية. ولن يتم ذلك، وفق ماكرون، إلا من خلال توفير الأدوات اللازمة لسياسة أوروبية خارجية فاعلة. ويشكل مبدأ المعاملة بالمثل الهدف الرابع الواجب بلوغه في المعاملة التجارية مع الدول الخارجية، مستهدفاً الولايات المتحدة من جهة والصين من جهة أخرى. وأخيراً، رأى ماكرون أن تعزيز التعددية والدفع باتجاه قبول المعايير والقيم العالمية أحد أركان الاستقلالية الاستراتيجية التي يريد أن تسير أوروبا باتجاهها.
كان لافتاً أن ماكرون امتنع عن التركيز على ما دعا إليه سابقاً في العديد من المرات، وهو إقامة دفاع أوروبي مستقل لا يحل محل الحلف الأطلسي بل إلى جانبه. ويرى المراقبون أن الحرب الروسية على أوكرانيا أدت إلى نتيجتين متناقضتين: الأولى أنها أفهمت الأوروبيين أنه يتعين عليهم الالتفات بشكل أكبر إلى موضوع الدفاع، الأمر الذي حمل ألمانيا مثلاً على تخصيص 100 مليار يورو لتحسين قدراتها الدفاعية. بالمقابل، فإن هذه الحرب بينت مدى انكشاف الدول الأوروبية بوجه ما يعتبر «تهديداً روسياً»، وبالتالي جعلت العديد من الدول مثل بولندا، ودول البلطيق والدول المنضوية سابقاً في إطار حلف «وارسو»، تدعو إلى تعزيز الحلف الأطلسي والابتعاد عن مبدأ الدفاع الأوروبي. وحجة هذه الدول أنه «من العبث» مبادلة المظلة الأميركية ــ الأطلسية بمظلة أوروبية غير موجودة حقيقة.
ونتيجة ذلك برزت في إسراع دولتين محايدتين هما فنلندا والسويد إلى طلب الانضمام إلى الحلف الأطلسي، وهو ما حصلت عليه الأولى وما زالت الثانية تسعى إليه من خلال محاولة إرضاء تركيا حتى تتخلى عن معارضتها الشديدة لمشروع السويد. وهذا الواقع يبين ردة الفعل العنيفة على تصريحات ماكرون التي تذهب باتجاه ما يمكن اعتباره موقفاً «حيادياً» بين واشنطن وبكين، أو مسعى باتجاه «عدم الانحياز» فيما يحتاج الأوروبيون بقوة للحليف الأميركي. وأظهرت الحرب في أوكرانيا أهمية الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة؛ حيث تكونت قناعة أوروبية مفادها أنه لولا الدعم العسكري الأميركي الذي يقدر حتى اليوم بنحو 33 مليار دولار لكانت هذه الحرب قد انتهت منذ أشهر لصالح روسيا.