عفراء وعروة بن حزام: عناقهما المستحيل نابت عنه شجرتان ملتفّتان على قبرين

لا تختلف قصة الحب المأساوية التي جمعت بين عروة بن حزام وابنة عمه عفراء بنت عقال، عن عشرات القصص المماثلة التي نسبها الرواة إلى شعراء بني عذرة، سواء من حيث رابطة الدم التي تجمع بين العاشقَين المنتميين إلى القبيلة نفسها، أو من حيث التفريق بينهما بذرائع مختلفة وما يستتبع ذلك من مكابدات جسدية ونفسية مضنية، وصولاً إلى النهايات المفجعة للعلاقة، التي يصل مسارها التصاعدي في ذراه الأخيرة إلى تصدع الجسد واختلاط العقل وصولاً إلى الموت.
وفي تفاصيل القصة أن عروة لم يكن يتجاوز الرابعة من عمره حين توفي أبوه حزام، فكفله عمه عقال بن مهاصر. وحيث كان عروة وعفراء يقضيان معظم أوقاتهما معاً، فقد ألِف كلّ منهما صاحبه، بما جعل عقالاً يقول لعروة «أبشرْ فإن عفراء ستكون امرأتك». وحين أدرك كل منهما سن البلوغ وفاتح عروة عمه بأمر زواجه، أجابه الأخير بأنه لا يمانع في الأمر، شرط أن يوفر لابنته الحياة الكريمة التي تحتاج إليها.
وإذ سُرّ عروة مما سمعه، انطلق لتوِّه إلى بلاد فارس طالباً المساعدة من ابن عم له شديد الثراء، فأمدّه الأخير بما يحتاج إليه من المال والإبل وكل ما يلزمه لدفع مهر عفراء. لكنّ الرياح في أثناء غيابه كانت تهبّ عكس ما يشتهي، إذ عمد عمه إلى تزويج ابنته من رجل أُمويّ ثريّ اسمه أثالة بن مالك، وبتحريض من زوجته التي خاطبته بالقول: «أنت لا تعرف ما إذا كان عروة حياً أو ميتاً، وهل ينقلب عليك بخير أم لا، فتكون قد حرمتَ ابنتك خيراً حاضراً ورزقاً سنيّاً». ولم يكد أثالة يعقد قرانه على عفراء، حتى ترك منازل بني عذرة عائداً إلى مكان إقامته في الشام.
ويذهب الأصفهاني في «الأغاني» إلى أن عقالاً عمد، تلافياً للحرج من ابن أخيه، إلى ترميم أحد القبور الدارسة، مدّعياً أن ابنته قضت نحبها بفعل مرض مفاجئ، وأنها ووريت الثرى في ذلك المكان. وبعد أيامٍ من تردد عروة باكياً إلى القبر المزعوم، أشفقت عليه إحدى النساء وأطلعته على الحقيقة، فقصد الشام للتوّ، وراح يسأل عن منزل أثالة حتى اهتدى إليه، فأكرمه الزوج وأنزله في بيته أياماً عدة. ثم أقنع إحدى الجواري بأن توصل خاتمه إلى عفراء، التي عرفته فور رؤية الخاتم وأبلغت زوجها بأن ضيفه الزائر ليس سوى عروة بن حزام نفسه.
وإذ يستوقفنا بالتأكيد السلوك المترفع لزوج عفراء الذي غادر منزله تاركاً زوجته وعروة يتبادلان الأحاديث بحرية تامة، إلا أن طلب أثالة من أحد خدمه التلصص على العاشقَين الوالهين وإخباره بما يقولانه ويفعلانه في غيابه، كان يشير في الوقت ذاته إلى دهائه ومكره، حيث أراد أن يمتحن وفاء زوجته من جهة، ويتثبت مما يشاع عن عفة العذريين وشهامتهم الأخلاقية من جهة أخرى. ولا شك في أن ما نقله الخادم لسيده من تشاكي الطرفين ألم الفراق، وامتناعهما عمّا سوى ذلك، هو أمر يسهل تصديقه، ليس لأنه يتواءم مع قيم العذريين المثالية فحسب، بل لأن الطرفين ليسا من السذاجة ليغفلا احتمال لجوء الزوج إلى تكليف من يتلصص عليهما ويضعه في صورة ما يقومان به.
ومع ذلك فإذا أمكننا تصديق العرض الذي قدمه أثالة لعروة، بالبقاء في منزله المدة التي يشاء، فإن ما يصعب تصديقه في رواية الأصفهاني هو قول الزوج لضيفه: «لقد عرفت خبرك وأنك إن رحلت تلفت، فلئن شئت لأفارقنّها ولأنزلنّ عنها»، ومن ثم شكْر عروة له، وقوله بأن الطمع في عفراء كان آفته الكبرى، وأنه قد حمل نفسه على اليأس الذي يُسْلي. فهل يمكن للزوج مهما بلغت شهامته، أن يتنازل عن زوجته لعاشقها المتيم، أم أنه كان يريد الإمعان في اختبار عروة، حتى إذا قبل العرض، كاشفه بوقاحته وطرده من منزله؟
وإذا كان الزوج صادقاً في عرضه، من ناحية أخرى، فهل إن رفض العرض من عروة، أمر عائد إلى الشهامة وحدها، أم هو وليد نزعة العذريين المتأصلة إلى تعذيب الذات وقهرها، وما وصفه علم النفس الحديث بالنزعة المازوشية؟
قد تكون الإجابة عن هذه التساؤلات مزيجاً من الفرضيتين الأخيرتين، ولكن الرواة يُجمعون على التردي المتسارع لأحوال عروة بعد مغادرته منزل حبيبته، ويضيف بعضهم أنه كان كلما أُصيب بالإغماء أُلقي على وجهه خمارٌ لعفراء كانت قد أهدته إياه فاستردّ وعيه. وإذ التقى في طريقه ابن مكحول المعروف بعرّاف اليمامة، ظن الأخير أن به شيئاً من المس، فنظم عروة في ذلك:
وما بي من سقْمٍ ولا طيف جُنّة
ولكن عمي الحمْيري كذوبُ
عشيّة لا خلفي مكرٌّ ولا الهوى
أمامي ولا يهوى هواي غريبُ
ومع عودة عروة إلى منزل أمه وأخواته، حاولن ردعه عمّا يفعله بنفسه فلم يرتدع، بل «كان يأتي حياض الماء التي كانت إبل عفراء ترِدُها، فيلصق صدره بها، فيقال له: مهلاً أنت قاتل نفسك، فلا يقبل حتى يُشرف على التلف». وقد تكون القصيدة التي نظَمَها في أثناء تلاشيه، واحدة من أعذب قصائد العذريين وأكثرهم تعبيراً عن آلام الحب ومكابداته، ومن أبياتها قوله:
تحملتُ من عفراء ما ليس لي به
ولا للجبال الراسيات يدانِ
كأن قطاة عُلّقت بجناحها
على كبدي من شدة الخفقانِ
جعلتُ لعرّاف اليمامة حكْمهُ
وعرّاف نجدٍ إن هما شفياني
فقالا نعم نشفي من الداء كلّهِ
وقاما مع العُوّاد يبتدران
فما تركا من رقْية يعلمانها
ولا شربة إلا وقد سقياني
فقالا يمين الله والله ما لنا
بما ضُمّنت منك الضلوع يدانِ
أناسية عفراء ذكري بعدما
جعلتُ لها ذكْراً بكل مكانِ
وتتعدد الروايات حول موت عروة، فيذكر ابن أبي عتيق أنه بينما كان يمر بأرض بني عذرة، رأى امرأة تحمل شاباً ملتحياً لا يُحمل مثله في العادة، وحين استفسر منها عن خطْبه أجابته بأنه عروة بن حزام، عاشق عفراء. وإذ سأله الراوي عن حالته، قرأ عليه الشاب أبياتاً من قصيدته النونية، حتى إذا ابتعدا قليلاً سمع الرجل صيحة عظيمة وذهب ليستطلع الأمر، فأخبرته المرأة بأن عروة قد فارق الحياة.
ويروي عروة بن الزبير أنه أراد أن يقف على أحوال ابن حزام فوجده في بيت منفرد خارج وادي القرى، وحوله أمه وخالته وأخوات له وقفن باهتات كالتماثيل، فقال له: أأنت صاحب عفراء؟ قال: بلى، وأنشد أبياتاً له فيها، ثم أسلم الروح. أما مصير عفراء فلم يختلف كثيراً عن مصائر نظيراتها من نساء بني عذرة، حيث يروي صاحب «مصارع العشاق» أنها وقد بلغها نبأ موت عروة، طلبت من زوجها أن يأذن لها بالخروج مع النسوة الأخريات ليرثينه ويبكين عليه. وحين أذِن لها أخذت تندبه وتقول:
ألا أيها الركْب المحبون ويحَكُمْ
بحقٍّ نعيتمْ عروة بن حزامِ؟
فلا هنئ الفتيانُ بعدك غارة
ولا رجعوا من غيبة بسلامِ
ولكي تستقيم الرواية ويبلغ الحب نهايته العادلة، يتابع السراج قائلاً بأن عفراء ظلت تردد هذه الأبيات حتى ماتت، وتم دفنها إلى جانب عروة. ولأن قصص الحب تحتاج لكي تكتمل إلى بعض «التوابل» الأسطورية، يروي معاذ بن يحيى الصنعاني أنه في طريقه إلى صنعاء شاهد قبرين متلاصقين، قيل له إنهما قبرا عروة وعفراء، ورأى «شجرتين اثنتين لم يُعرف لهما شبيه في تلك الأنحاء، وقد خرجتا من القبر والتفّت كل واحدة منهما بصاحبتها، حتى راح الناس يقولون: تآلفا في الحياة وفي الممات». أما ما نسبه الرواة إلى الخليفة معاوية بن أبي سفيان من أنه قال حين بلغه الخبر «لو علمتُ بشأن هذين العاشقين العفيفين لجمعت بينهما»، فقد نسبوا ما يشبهه إلى قادة ونافذين آخرين، حيث كان الشعور بالذنب هو الوجه الآخر للمحظورات القاتلة، وحيث صحوة الضمير الجمعي لا تتحقق، إذا تحققت، إلا بثمن باهظ وبعد فوات الأوان.