«النقد ما بعد الاستعماري»... لِمَ لمْ يتطور في العالم العربي؟

أنشأه مفكرون ونقاد من العالم الثالث لكن الجهاز النظري أوروبي

غرامشي
غرامشي
TT
20

«النقد ما بعد الاستعماري»... لِمَ لمْ يتطور في العالم العربي؟

غرامشي
غرامشي

كان من الطفرات النقدية الأبرز في الخمسين عاماً الماضية. إنه النقد ما بعد الاستعماري، أو ما بعد الكولونيالي، الذي يؤرخ ابتداؤه بكتب تأسيسية أشهرها كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد (1978)، لكن شيوعه وتطوره في المشهد النقدي العالمي المعاصر كان عملية شارك فيها وأسهم بقوة وجدارة نقاد هنود يعملون في أوروبا والولايات المتحدة إلى جانب بعض الأوروبيين.
كان سعيد مطلق الشرارة التي واصل إذكاءها بعد أن اشتعلت بإسهامات له أخرى. لكن اللافت أن ذلك النقد لم ينطلق من البلاد التي عرفت الاستعمار مباشرة، من المعايشة الفردية والثقافية والسياسية للاستعمار وأثره على الثقافة عامة، ومنها البلاد العربية. السؤال لماذا لم يحدث ذلك؟
قبل العثور على إجابة للسؤال لعل من المناسب توضيح بدئي للمقصود بالنقد ما بعد الاستعماري. الدلالة الشائعة للنقد ما بعد الاستعماري، هي أنه النقد الذي يتناول الأعمال الأدبية التي تأثرت بالاستعمار الأوروبي، أي التي جاءت ردة فعل للاستعمار بتصوير آثاره السلبية بما يمثل رداً عليه، أو كما ورد في أحد أهم الكتب التي نظرت لهذا اللون من النقد، كان ما حدث هو أن «الإمبراطورية ترد بالكتابة» The Empire Writes Back، وهو عنوان الكتاب الذي أصدره ثلاثة باحثين في جامعات أسترالية منهم بِل آشكروفت. وعنوان الكتاب مستل من مقالة لسلمان رشدي عنوانها «الإمبراطورية ترد كتابة وبعنف» نشرها عام 1982. الروايات والقصائد والنصوص المختلفة التي تضمنت تعبيراً عن آثار الاستعمار الغربي وتضمنت موقفاً منه، أي أدب ما بعد الاستعمار، هي المادة التي يدرسها النقد ما بعد الاستعماري، هي ما أطلق عليه «أدب ما بعد الاستعمار».
منذ أواخر الثمانينات وحتى اليوم صدرت وتصدر أعمال كثيرة في هذا المجال الضخم، الذي صار من أبرز رواده اثنان من نقاد ومفكري الهند هما: غاياتري تشاكرافورتي سبيفاك وهومي بابا. لكن أبحاث هذين وغيرهما أكدت فيما بعد أن آخرين كانت لهم إسهامات نقدية وفكرية تأسيسية لم يلتفت إليها بالصورة التي حدثت فيما بعد، ومن أولئك المناضل والمفكر المارتينيكي فرانتز فانون والمارتينيكي - الفرنسي آيمي سيزير، إلى جانب كتاب أفارقة مهمين أيضاً هما: الكينيان نغوغي واثيونغو والنيجيري تشينوا أتشيبي.

رضوى عاشور

النقد ما بعد الاستعماري أسهم فيه لاحقاً أوروبيون مثل البريطاني روبرت يونغ، وأضافت له إسهامات تلك وغيرهم ضمتها فيما بعد كتب كثيرة وكبيرة من المختارات. يضاف إلى ذلك باحثون من إيران من أشهرهم حالياً حامد دباشي، الذي يدرس في جامعة كولومبيا بنيويورك.
أما على المستوى العربي فقد نشرت بعض الدراسات في هذا الباب لكنها ليست بكثافة ما نشر من قبل غير العرب. يسترعي الانتباه بين أولئك ساري المقدسي الذي يدرّس الأدب في جامعة لوس أنجليس بكاليفورنيا، وهو ابن الباحث المعروف أنيس المقدسي وابن أخت لإدوارد سعيد. لساري المقدسي دراسة لرواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» من زاوية ما بعد كولونيالية أو ما بعد استعمارية. غير أن الأعمال الفكرية الأدبية التي عبرت عن مواقف مضادة للاستعمار كثيرة، وتمتد إلى بدايات الاحتكاك بالمستعمر في سوريا والعراق ومصر والمغرب العربي، ولكنها مما لم يلتفت إليها بالجمع والتحليل لتصير جزءاً من الحراك النقدي والفكري المناهض للاستعمار.
السؤال الذي تطرحه هذه المقالة يتأسس على هذا الوعي بأن الأدب العربي، مثل الثقافة العربية، مر بالتجربة الاستعمارية وتأثر بالاستعمار قليلاً أو كثيراً، كما يتضح من دراسة المقدسي لرواية الطيب صالح، ومع ذلك لم يلتفت النقاد العرب التفاتة جادة إلى أثر الاستعمار في الرواية أو الشعر أو المسرح إلا من باب التأثر بالآخر، وهذا ليس ما يعنى به النقد ما بعد الاستعماري. رضوى عاشور التي نشرت كتاباً حول التابع، الكتاب الذي توقفت عنده في مقالة سابقة، كان رائداً دون شك لكنه لم يستمر فيما أعلم فضلاً عن أن موضوع كتابها لم يكن الأدب العربي وإنما الأفريقي. بل لعل الأهم في هذا السياق المنتج الفكري للجزائري مالك بن نبي الذي وضع أسساً كان يمكن أن يتطور منها نقد ما بعد استعماري، كما في مفهومه الرائد «القابلية للاستعمار». لكن ذلك لم يحدث.
لقد تعرف النقاد العرب على ذلك اللون من النقد، والانشغال الفكري، ليس من خلال إدوارد سعيد فحسب، وإنما من خلال دراسات نشرت بعد ذلك سواء في دوريات مثل «ألف» أو في كتب ومقالات متفرقة، أو في رسائل جامعية. لكن هذا كله لا يعني أن الدراسات ما بعد الاستعمارية قد ازدهرت في العالم العربي، فضلاً عن أن تكون قد تأسست فيها. فلماذا لم يتطور ذلك النقد لدينا وفيما يتصل بأدبنا؟
هنا من الضروري أن أشير إلى أن النقد ما بعد الاستعماري، وإن نشأ على يد مجموعة من مفكري ونقاد ينتمون إلى العالم الثالث، فإن الجهاز النظري، الذي تبلور ذلك النقد من خلاله كان أوروبياً في المقام الأول. في كتاب «الاستشراق» أشار إدوارد سعيد إلى المنطلقين النظريين لنقده للاستشراق: أطروحات الإيطالي غرامشي والفرنسي ميشيل فوكو، مفاهيم مثل «الهيجيموني» (الهيمنة) عند غرامشي و«الخطاب» عند فوكو، فضلاً عن دراسات هذا الأخير لعلاقة المعرفة بالسلطة. لكن هذا لا يعني أن النقد ما بعد الاستعماري ليس سوى نقد أوروبي أو غربي. هو كذلك فيما يتعلق ببنيته النظرية، وفي البيئة التي أتاحت له الظهور والازدهار، لكنه ليس كذلك في الدوافع التي أدت إلى تبلوره، الدوافع التي أدت إلى انتقاء المكونات النظرية ابتداءً ثم البناء عليها بتفاصيل وتفريعات لا يعرفها أو لا يعنى بها الغربيون عامة، ومن ذلك دراسة الاستشراق نفسه، ذلك الحقل الواسع الذي تطور في أوروبا لكن عامة المثقفين الأوروبيين، من مفكرين وعلماء وباحثين، لم يعنوا به. كما أن من ذلك أوضاع العالم غير الغربي سواء كان العالم العربي أو دول آسيا وأفريقيا التي عرفها أبناؤها ولم تعن الكثير لغيرهم. العلاقة بتلك الحقول والأوضاع هي مما يتوقع أن يعنى به مثقف قادم من خارج أوروبا أو في خلفيته الإنسانية والمعرفية ذلك الإرث من الحضارات ومن المعاناة مع المستعمر الأوروبي.
كل ذلك ينطبق بطبيعة الحال على النقاد العرب لا سيما في البلاد، التي عانت بصورة مباشرة وعنيفة من الهيمنة الاستعمارية. وقد أفرزت تلك المعاناة بالفعل أعمالاً اتضح فيما بعد أنها تأسيسية في تطور الدراسات ما بعد الكولونيالية. ففرانتز فانون ناضل، كما هو معروف، مع الثوار الجزائريين وكتابه الشهير «المعذبون في الأرض» كان إفرازاً لذلك النضال. لكن من الصعب القول أيضاً إن فانون وضع أسس النقد ما بعد الكولونيالي على المستوى النظري رغم أهمية تحليله للفكر الغربي وعلاقته بالاستعمار.
إن تطور النظريات في مختلف العلوم الإنسانية يرتبط في نهاية المطاف بالأسس الفلسفية التي تتنامى منها الأسئلة وتتبلور المفاهيم فتنشأ من ذلك قراءات تستكنه حركة التاريخ وتسبر تكوين المجتمعات وتربط ذلك بالاقتصاد والسياسة والمعرفة. المعاناة لا تكفي والحاجة لا تكفي أيضاً. لم تكن الحاجة يوماً أم الاختراع، كما يقول كارل بوبر، أو لم تكن أمه الوحيدة، فإلى جانب تلك الأمومة كان من الضروري أن يكون هناك تراكم معرفي لا فرصة بدونه للاختراع أو الاكتشاف. ولذا فمن من باب أولى أن الحاجة لا تكفي لصياغة النظريات والمفاهيم. النقد العربي الحديث لم يفتقر إلى المعرفة بالفلسفات الغربية أو نظريات علم النفس والاقتصاد والسياسة، لكن المشكلة لدى كثير من النقاد العرب هو غلبة الموقف التتلمذي إزاء تلك الفلسفات والنظريات، أي الاعتقاد الشائع بأن قصارى ما يستطيعه المفكر أو الناقد الأدبي هو هضم ما لدى الآخر هضم المتعلم وليس هضم الدارس الباحث، أي ليس التفاعل معه على نحو مستقل وخلاق.
وتحضرني في هذا السياق صورة ساخرة ومؤثرة تركها الناقد الكبير شكري عياد حين وصف وضع النقد العربي إزاء النقد الغربي بأنه أشبه ما يكون بموقف التلميذ الخجول أمام أستاذه، فالنقد العربي يذهب إلى الجامعات الغربية، كما يقول عياد، ليجلس في الصف «طالباً حيياً متوارياً في زحمة النقد الحديث، لا يتكلم إلا حين يبتسم الأستاذ مشجعاً، فيعلق تعليقه الصغير المؤدب، ثم يعود إلى الاستماع والنقل». إنها بالفعل مشكلة الاستماع والنقل، المشكلة التي اختصرها مالك بن نبي بمفهوم «القابلية للاستعمار»، الذي كان يمكن أن يفضي إلى مفهوم مضاد هو «مقاومة الاستعمار» أو «ما بعد الاستعمار».



قصيدة الرفض العربية مقارنة بنظيرتها العبرية

قصيدة الرفض العربية مقارنة بنظيرتها العبرية
TT
20

قصيدة الرفض العربية مقارنة بنظيرتها العبرية

قصيدة الرفض العربية مقارنة بنظيرتها العبرية

يتناول كتاب «قصيدة الرفض» الصادر في القاهرة عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، ضمن سلسلة «كتابات نقدية» للناقدة والأكاديمية الدكتورة ناهد راحيل، تجليات شعر الرفض الذي يغرّد خارج السرب في الأدب العربي ومقارنته بنظيره في الأدب العبري من خلال دراسة مقارنة بين كل من الشاعر أمل دنقل والشاعر سامي شالوم شطريت.

ويمكن القول إن الإنجاز الذي يحمله الكتاب هو النظر إلى الشعر العبري المعاصر من زاوية تحليلية مختلفة ترصد اختلاف المضمون والرؤية التي يقدمها شاعر ينحدر من أصول عربية، ويشتبك بحس نقدي مفارق مع كثير من القضايا والمفاهيم السائدة. أما فيما يتعلق بأمل دنقل، فلا يكاد يأتي الكتاب بجديد يصنع الفارق في تناول تجربة ضخمة وعميقة ومؤثرة مثل تجربة دنقل، من هذا المنظور.

تشير المؤلفة في البداية إلى أن الرفض لدى الشاعر سامي شالوم شطريت موجّه ضد السلطة التي تتمثل لديه في «الصهيونية»، سواء بصفتها فكرة أطلقها يهود أوروبا لتصبح بمثابة «ديانة» تحمل نبوءة «أرض الميعاد»، أو من خلال رفضه محاولات المؤسسة الصهيونية طمس هوية اليهود الشرقيين ومحوها وإرغامهم على تبني الهوية الغربية.

وتعبر قصائد شطريت عن اعتقاده بأن أتباع الصهيونية الأشكنازية «الغربية» وقادتها لم يكونوا بعيدين عن مشاعر التملك التي انتابت أبناء شعوب أوروبا في نظرتهم إلى بقية شعوب العالم، فعندما نظر يهود أوروبا إلى أفريقيا والشرق الأوسط لم يفرّقوا بين المسلمين واليهود، فكان الجميع في نظرهم «برابرة» مثلما وصفهم هرتزل وطلب أن يتم بناء «درع» من أجل حماية العالم الأوروبي المتمدن منهم.

ويؤكد شطريت في بعض قصائده على رفض اليهود الشرقيين لأي فكر صهيوني، مستدعياً في قصيدته «امرأة مغربية» حاييم نحمان بباليك، وهو أحد الشعراء المعروفين الذين عبَّروا في أشعارهم عن الحركة الصهيونية والدعوة إلى إقامة وطني قومي لليهود، مع وصف أمه مرارا بتعبير «طيَّب الله ذكراها». تحمل القصيدة طابعاً ساخراً، حيث يؤكد شطريت أن شاعرة مغربية يهودية لم تسمع يوماً باسم «بباليك» في إشارة إلى موقف اليهود المشارقة مما يحمله نظراؤهم الغربيون من أفكار متطرفة.

يقول مطلع قصيدة «امرأة مغربية»:

«أعرف شاعرة

امرأة مغربية

لا تعرف بباليك

ولا تعرف أمه «طيَّب الله ذكراها»

وفي إطار الخلط بين مصطلحي «يهودي» و«صهيوني»، يحرص الشاعر العبري على توضيح اختلاف المفهومين، فليس كل يهودي صهيونياً وليس كل صهيوني يهودياً كذلك. ومن ثم يرفض شطريت في قصيدته «لوحة بلا جدار» الخلط بين المفهومين، مؤكداً أن هناك قطاعاً عريضاً من اليهود لا يؤمنون بالصهيونية:

«كيف تستطيع أن تواصل الإصرار على الانتماء إلى اليهود؟

ضحكت له

ماذا تعني... كيف؟

أنا يهودي ولا أعرف أن أكون شيئاً آخر

أية وقاحة، أنا يهودي، لست صهيونياً

لكنني يهودي منذ نعومة أظافر

الإنسان المغربي بداخلي»

وتؤكد قصيدة «بعد الأوبرا» على رفض اليهود الشرقيين محاولات المؤسسات المختلفة لطمس هويتهم الأصلية وصبغها بصبغة أخرى ذات طابع أوروبي أشكنازي:

«بعد الأوبرا

سيفك رابطة العنق

ويغطي جسده جلباب

من صنع فنان «وارد من المغرب»

ثم سيغسل أذنيه

بتدفق لذيذ لأنغام العود»

يتجلى صراع الهوية هنا بين دار الأوبرا ورابطة العنق باعتبارهما ترمزان إلى الغرب من جانب، وبين الجلباب والعود باعتبارهما ترمزان إلى الشرق من جانب آخر. ويبدو اليهودي الشرقي هنا متمسكاً بهويته حريصاً عليها، يتوق سريعاً إلى التحرر من مفردات غربية مفروضة عليه، ولا يجد راحته سوى في التعامل وفق ثقافته الشرقية.