أجهزة استشعار للكشف المبكر عن الأمراض

علماء «كاوست» وباحثون في مستشفى الملك فيصل التخصصي يطورونها

من اليسار: أشرف الدادا وساهيكا إينال وستيفان أرولد في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بجدة (كاوست 2023)
من اليسار: أشرف الدادا وساهيكا إينال وستيفان أرولد في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بجدة (كاوست 2023)
TT

أجهزة استشعار للكشف المبكر عن الأمراض

من اليسار: أشرف الدادا وساهيكا إينال وستيفان أرولد في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بجدة (كاوست 2023)
من اليسار: أشرف الدادا وساهيكا إينال وستيفان أرولد في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بجدة (كاوست 2023)

في عام 1998، تم تطوير أول جهاز استشعار إلكتروني بيولوجي، يمكنه اكتشاف مسببات الأمراض، من قبل فريق من الباحثين في معهد كاليفورنيا للتقنية. وقد استخدم المستشعر مزيجاً من الجزيئات البيولوجية والدوائر الإلكترونية، للكشف عن وجود بكتيريا «الإشريكية القولونية» في العينة المدروسة. ومنذ ذلك الحين، استمرت المستشعرات الحيوية الإلكترونية في التطور، وتستخدم الآن في مجموعة متنوعة من التطبيقات، بما في ذلك اكتشاف الفيروسات، ومراقبة مستويات الغلوكوز، واكتشاف السموم في الطعام والماء.
استشعار حيوي
في السعودية، نجح باحثون في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) بتعاون وثيق مع باحثي مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث، في تطوير واختبار فعالية أجهزة استشعار حيوية جديدة، والتحقق من قدرتها على التشخيص السريع للأمراض.
«تكمن كلمة السر وراء بناء تعاون ناجح مع الأطباء في قضاء الوقت معهم، والتعرف عن قرب إلى احتياجاتهم»، كان هذا مستهل حديث الدكتورة ساهيكا إينال، أستاذة الهندسة الحيوية المساعدة في «كاوست»، مضيفة أنّ توفير أدوات للأطباء تساعدهم في تحسين التفاعل مع المرضى، يتطلب فهماً كاملاً لطبيعة عمل المنظومة الصحية، وخبرات العنصر البشري فيها، إذ ترى إينال أن «الافتقار لهذه المعرفة يجعل الأدوات بلا قيمة حقيقية».

يقوم موظفو مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بإعداد عينة لاختبار تفاعل البوليمراز المتسلسل (كاوست 2023)

بشكل عام، فإن المستشعرات عبارة عن أجهزة تكتشف التغيرات في الكمية المادية، مثل درجة الحرارة والرطوبة وتدفق المياه وشدة الضوء وما إلى ذلك، وتحولها إلى كمية يمكن قياسها أو تحليلها.
أما المستشعرات الحيوية الإلكترونية، فهي عبارة عن أجهزة تجمع بين المكونات البيولوجية، مثل الإنزيمات أو الأجسام المضادة، وبين المكونات الإلكترونية، مثل الأقطاب الكهربائية أو الترانزستورات، لاكتشاف وتحديد جزيئات أو عمليات بيولوجية محددة.
وتعمل هذه المستشعرات عن طريق تحويل إشارة بيولوجية، مثل وجود عامل ممرض أو تغيير في نشاط الإنزيم، إلى إشارة كهربائية يمكن قياسها وتحليلها. تحتوي المستشعرات الإلكترونية الحيوية على مجموعة واسعة من التطبيقات، بما في ذلك التشخيص السريري، والمراقبة البيئية، واختبار سلامة الأغذية، وغالباً ما تُستخدم لقدرتها على توفير اكتشاف سريع وحساس ومحدد للأهداف البيولوجية.
وإذا تحدثنا عن الأهمية التي تمثلها أجهزة الاستشعار الحيوية لملايين المرضى حول العالم، فلنتذكر مرضى السكري الذين يستفيدون من هذه التقنية في مراقبة مستويات الغلوكوز لديهم بشكل متكرر ودقيق، وإجراء تعديلات في الوقت المناسب على نظامهم الغذائي، وممارسة الرياضة، والأدوية.
أيضاً المرضى الذين لديهم أجهزة طبية مزروعة، مثل أجهزة تنظيم ضربات القلب، والمفاصل الصناعية. يكونون معرضين بسبب هذه الأجهزة لخطر العدوى، مما قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة، وحتى الموت. يمكن أن تكتشف المستشعرات الإلكترونية الحيوية وجود البكتيريا ومسببات الأمراض الأخرى في محيط الجهاز، مما يسمح للأطباء بتشخيص وعلاج الالتهابات قبل أن تصبح شديدة.

تطويرات حديثة

تتمثل التطويرات الحديثة في تصميم أجهزة الاستشعار التي تستخدم المكونات البيولوجية للتعرف على بعض المؤشرات الحيوية للأمراض، في تحسين حساسيتها وخصوصياتها وانتقائها. وهناك عدة طرق لتحقيق ذلك، من ضمنها استخدام المواد النانوية، (الأنابيب النانوية الكربونية)، والغرافين، وجسيمات الذهب النانوية. أيضاً استخدام الموائع الدقيقة التي تنطوي على التلاعب بأحجام صغيرة من السوائل في القنوات الدقيقة، لتحسين كفاءة وحساسية الكشف عن العلامات الحيوية.
إضافة إلى ذلك، سمح التقدم في علم الأحياء التركيبي بتصميم وهندسة المكونات البيولوجية، مثل الإنزيمات والأجسام المضادة، مع تحسين الخصوصية والألفة للواسمات الحيوية للأمراض. ويمكن دمج هذه المكونات البيولوجية في أجهزة الاستشعار، لتحسين انتقائها ودقتها في اكتشاف المؤشرات الحيوية للمرض.
ويركّز البحث الذي أجرته إينال على تصميم مستشعرات ذات مكونات حيوية، يمكنها التعرف إلى المؤشرات الحيوية للأمراض في عينة واحدة مأخوذة من مريض.
لتحقيق هذا الهدف، تعاونت ساهيكا إينال وفريقها بشكل وثيق مع الدكتور أشرف الدادا، رئيس قسم الباثولوجيا المناعية، والدكتورة فاطمة الهملان، وهي أستاذة مساعدة في قسم المناعة والأمراض المعدية، وزملاء العمل في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث في المملكة العربية السعودية؛ حيث استهدفت الشراكة المساعدة في تطوير واختبار أجهزة الاستشعار الإلكترونية الحيوية، والتي ستساعد بدورها في الكشف عن مسببات الأمراض بتكلفة زهيدة، مع توفر الدقة والسرعة.
وبشيء من التوضيح، تقول إينال: «هدفي هو تسهيل مهمة الأطباء في تشخيص المرضى في أسرع وقت ممكن، عبر توفير تقنية جديدة لتحل محلّ الاختبارات المعملية التقليدية». وتتابع: «نستهدف إتاحة أجهزة الاستشعار هذه للأطباء، لتوفير البيانات التي تساعد على تشخيص الأمراض بشكل أسرع. كما نأمل أيضاً أن تدعم التقنية المتخصصين في الرعاية الصحية في البلدان منخفضة الدخل، وفي المجتمعات النائية، والتي تفصلها مسافات طويلة عن خدمات الرعاية الصحية».
جدير بالذكر أن الدكتورة ساهيكا إينال كانت قد تعاونت سابقاً مع البروفسور ستيفان أرولد، أستاذ العلوم البيولوجية في «كاوست»؛ لتطوير شرائح إلكترونية قادرة على اكتشاف فيروس «كوفيد– 19» في عينات اللعاب؛ حيث تكون رقاقاتها قريبة من الحساسية لاختبارات تفاعل البوليمراز المتسلسل التقليدية، وتقدم النتائج في غضون 15 دقيقة فقط.

ثمار التعاون البحثي

وعن بداية التعاون مع الفريق الطبي في مستشفى الملك فيصل التخصصي، تقول إينال: «للتحقيق في نجاعة هذه التقنية المبتكرة، ومعرفة مدى ملاءمتها في بيئة سريرية، وللتحقق أيضاً من دقة أجهزة الاستشعار التي طورناها، تواصلنا مع الخبراء في مستشفيات السعودية، وفي هذا الصدد، قدّم لنا باحثون من مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث عينات، وقاموا بتقييم النتائج استناداً إلى تقنياتهم التقليدية كأداة مقارنة. ثم أطلعونا على النتائج، مما مكننا من التحقق من فعالية تقنيتنا».
من جهته يقول أشرف الدادا: «يوجد في مستشفانا مركز أبحاث متقدم؛ لدعم الرعاية الصحية السريرية لمرضانا من خلال التشخيصات المبتكرة والدراسات العلاجية». وأعرب الدادا عن سعادته بالتقنية الجديدة ذات الحساسية والدقة العالية في التشخيص، والتي طورها باحثو «كاوست».
يشار إلى أنّ التعاون بين فريقي إينال وأرولد داخل «كاوست» والفريق البحثي داخل المستشفى، قد ازداد متانة منذ التجارب التي أجريت على مستشعرات «كوفيد– 19»، إذ تعمل الفرق البحثية عن كثب لتعظيم إمكانات المستشعرات الحيوية الإلكترونية.
تقول إينال: «الأطباء يجعلون بحثنا وثيق الصلة بالواقع، إذ يزودوننا بالبيانات المفقودة من واقع نمط عملهم اليومي، فضلاً عن إخبارنا بالأدوات التي كانت لديهم الرغبة في امتلاكها، ومن ثم فإن فهم هذا الواقع يعود بالنفع على الأطباء والمرضى على حدٍّ سواء؛ لأن حالات المرضى يمكن علاجها بوتيرة أسرع؛ حيث ستسمح أجهزتنا لمقدم الخدمة الصحية بفحص مؤشرات متعددة في وقت قصير، مما يسمح له ببناء صورة شاملة وأكثر وضوحاً عن الوضع الصحي لكل مريض». وتصف إينال القدرة على التحقق من فعالية أجهزة الاستشعار باستخدام بيانات أصلية عالية الجودة جمعت بعناية، بأنها «فرصة لا تقدر بثمن».
ويعلق الدادا آمالاً واسعة على هذا المشروع، إذ يتطلع إلى أن تنتج عنه تقنية متطورة تُحدث ثورة في تشخيص مسببات الأمراض، وتغير مشهد أدوات التشخيص في مجال الأمراض المعدية، للمساعدة أيضاً في ضمان جاهزية البشرية بشكل أفضل في التعامل مع الأوبئة مستقبلاً.
من جانبها، تأمل إينال في أن تتطور تقنيتهم بسرعة؛ لتوفير تشخيص مبكر ودقيق لكل من الأمراض المعدية وغير المعدية. يمكن القول إنّ إينال والدادا لديهما حماس كبير لرؤية ثمار هذا التعاون تنتشر على نطاق أوسع في المستقبل.
بشكل عام، يمكن القول إن هذه التطورات في تصميم المستشعرات قد تكون لديها القدرة على إحداث ثورة في تشخيص المرض ومراقبته، من خلال تمكين الكشف السريع والدقيق والفعال من حيث التكلفة عن المؤشرات الحيوية للمرض في عينة واحدة مأخوذة من مريض.



9 وسائل لتجاوز المحن والنكبات

9 وسائل لتجاوز المحن والنكبات
TT

9 وسائل لتجاوز المحن والنكبات

9 وسائل لتجاوز المحن والنكبات

المرونة والصمود أكذوبتان، فإن كان الحديد يتمتع بالقدرة على الارتداد فإن البشر لا يتمتعون بهذه القدرة. ولذا فإن عليهم التكيّف مع واقع متغيّر. لذلك يجب على الإنسان البحث للعثور على نموذج ومثل أعلى أولاً، ثم النظر في ثماني نصائح أخرى مستقاة من أحدث بحث في العلوم العصبية.

تجربة مريرة لطبيب نفسي

من بين أمور مميّزة كثيرة صاحبت المسيرة المهنية للطبيب النفسي دينيس تشارني، الباحث لمدة طويلة في مجالات الاكتئاب، وكرب ما بعد الصدمة، وعميد كلية طب «ماونت سيناي» في نيويورك، ورئيس المركز الطبي بها؛ يصعب التعرّف إلى معرفة خمس عشرة سنة من سيرته الذاتية إطلاقاً.

في صباح يوم 29 أغسطس (آب) عام 2016، وفي أثناء وجوده في ساحة انتظار لمتجر في إحدى الضواحي التي توقف عندها لشراء خبز «بيغل» بالزبدة وقهوة مثلجة، ليتمكّن من القيادة لمدة ساعة إلى محل عمله؛ أطلق أحد الباحثين في المركز الطبي -كان قد طُرد منه منذ سبع سنوات بسبب عملية احتيال تتعلّق ببيانات الأبحاث- أطلق 15 رصاصة في صدر تشارني؛ مما أدّى إلى ثقب في إحدى رئتيه، وكسر ضلع له، وتعريض كبده للخطر، لكن دون أن يمسّ القلب أي ضرر.

أدى هذا الهجوم إلى بقاء تشارني في وحدة العناية المركزة لمدة أسبوع، ومروره بتجربة تتسم بأكبر قدر من الفردية.

الصمود: التغلّب على التحديات

وبهدف اختبار الموضوع الذي خصّص له كامل حياته المهنية، وهو كيفية استعادة المرء القدرة على العمل والعيش بعد المرور بتجربة مدمّرة ممزّقة، شرع تشارني بالاشتراك مع زميل له، في تأليف كتاب عن الموضوع، وهو كتاب «الصمود: علم التغلّب على أكبر تحديات الحياة» (Resilience: The Science of Mastering Life’s Greatest Challenges)، ثم كان عليه معايشة الأحداث بسبب مرضه.

من واقع أبحاث وتجربة تشارني وغيره، هناك توافق متزايد على ما تتطلّبه النجاة من الإهانات الكبيرة والصغيرة التي تلقي بها الحياة في طريقنا، سواء كان ذلك طفولة تضمّنت معاناة من التمييز العنصري، أو فقراً وحرماناً، أو خيانة من شخص حميم، أو حادثاً تسبّب في إعاقة، أو زلزالاً، أو موت رفيق بين ذراعيك، أو هجوماً مباشراً على حياتك.

كل تلك الإهانات قادرة على سحق النظام (الخاص بحياتك)، والضغط عليه حتى نقطة الانهيار، وتحطيم الشعور بالأمان الذي يسمح للعقل والجسد بالازدهار، وكذلك زعزعة استقرار الدوائر العصبية التي تمد الحياة اليومية بالطاقة، وهو ما يؤثر فيما نلاحظه وننتبه له، ودرجة سيطرتنا على الأفكار والمشاعر والمخاوف، وشعورنا بذواتنا، وقدرتنا على الحفاظ على الهدوء الداخلي.

قدرات الارتداد المعاكس

كل ذلك قادر على وضع الناس على طريق الاضطرابات العقلية والجسدية، ومن جهة أخرى: ربما لا. فكل ذلك أيضاً قادر على إجبارنا على إعادة رسم علاقتنا بأنفسنا وبالحياة، وجعلنا نشعر بقوة أكبر من ذي قبل.

الصمود (باللاتينية Resilience)، هي كلمة مشتقة من المقطعين اللاتينيين «ري» (re)، و«سالير» (salire)، التي تعني معاً «الارتداد»، أي البدء من جديد، واستعادة التوازن والحالة الطبيعية بعد الصدمات. إنها الرؤية السائدة لكيفية تجاوز الناس للمحن والشدائد. مع ذلك إنها تبدو أكذوبة، فالناس لا يستطيعون فعل ذلك، بل يتغيّرون بلا استثناء بفعل التجربة.

على الأقل، تنقطع الوصلات العصبية، ما يُعيد ترتيب خطوط التواصل بين مراكز التحكم في المخ. وهنا على الناس إصلاح الطرق المعدلة (الجديدة) التي عادة ما دُفعوا باتجاهها، من أجل التفكير والشعور والتصرف؛ بحيث يتمكّنون من مواصلة الحياة في الواقع الجديد لبيئتهم، وذلك بعد قبول ذلك الواقع.

ما الذي يعودون إليه إذا كانوا محظوظين؟ إنها حالة الاتزان، لكنها تكون مختلفة عن سابقتها.

القدرة على التكيّف

إن الصمود في جوهره هو القدرة على التكيّف، وتحديث أنفسنا، والتكيّف مع ظروف جديدة بعد أن هدمت تجارب مفاجئة، وغير مرغوب فيها بأوجه مختلفة، وسائل أماننا القديمة. إنها قدرة ضرورية على إنشاء الخيمة البشرية في عالم متحرك بشكل كبير، ومن غير الممكن توقعه في كثير من الأحوال.

ويقول تشارني: «لا يعني ذلك ألا يعاني الناس من أعراض أو مشكلات، لكنهم يتجاوزونها. وفي كثير من الحالات ينمون ويزدهرون».

نحن ندخل العالم بقدرة معينة على الصمود، وأعصابنا مصممة لتتكيّف، وقدرتها على الاتصال بعضها مع بعض، وقوة تلك الاتصالات تستجيب للتجربة والتدريب والممارسة على الأقل إلى درجة ما.

يتمثّل الجزء الصعب في الحفاظ على عمل الوظائف الإدراكية في مواجهة فرط الإثارة العاطفية الذي يحدث نتيجة الاضطرابات الناجمة عن المحن والشدائد. في النهاية نحن بحاجة إلى قدراتنا الإدراكية لاكتشاف كيفية اجتياز ظروف الحياة المتغيّرة والإبحار فيها، رغم أن الصدمة الناجمة عن الشدائد تميل إلى الهيمنة عليها عبر دائرة الإنذار، التي تصبح في وضع رصد للتهديد، وتزيد سرعة ما يراه الباحثون في الأشعة التي يتم إجراؤها على المخ، مثل إشارات صادرة من شبكة بروز تتسم بفرط التيقظ تهيمن على شبكة تنفيذية مركزية.

تجاوز المحن وسمات الصمود

مع ذلك فإن المشكلة الكامنة في الصمود هي أنها تبدو بشكل مريب مثل مجموعة منظمة مرتبة من السمات الروحانية التي إما أن يمتلكها المرء وإما لا. وفي أعقاب أي كارثة، من السهل أن تشعر أنك لا تمتلك تلك السمات.

استغرق الباحثون عقوداً من السنين لاكتشاف أن تجاوز الشدائد والمحن هو عملية نشطة للغاية، وأحياناً تكون فوضوية للغاية.

مع ذلك يحدث تحول كبير في التفكير؛ ففي الوقت الذي يكون فيه من الضروري معالجة الاضطراب الناجم عن المحنة حين تحدث، من الممكن التحلي بالصمود؛ بحيث يتمكّن المرء من التحكم في الاختلال والارتباك الخطير حين يحدث، وهو أمر مؤكّد بدرجة كبيرة. ويقلّل التعرض المبكر لتحدي ما فرط نشاط نظام الاستجابة للتوتر والضغط النفسي؛ بحيث تكون المعاناة من الاضطراب أقل، وكذلك إدراك الفاجعة.

لا توجد قدرة أو ملكة سحرية واحدة للصمود؛ إذ يحتاج الأمر إلى استخدام مجموعة من القدرات، والانتقال من واحدة إلى أخرى، حسب ما تستدعي الحاجة من أجل إعادة ضبط أنظمة الجسم والمخ.

وفي داخل وحدة العناية المركزة تمسّك تشارني بأنشودة بروس سبرينغستين «أقوى من البقية»، وبإلهام من عنوانها أخذ يتذكّر: «ظللت أقول لنفسي إنني سوف أكون أقوى من بقية الناس في كيفية التعافي... وصدّق أو لا تصدّق، كان تكرار ذلك لنفسي نافعاً للغاية».

استراتيجيات الصمود

مما لا شك فيه أن تجاوز المحن والشدائد صراع ونضال على المرء أن يكون عازماً على خوضه، متحلياً فيه بالإيمان بقدرته على العبور إلى الجانب الآخر. فيما يلي تسع استراتيجيات للصمود يمكن أن تساعد في عبور المرء للأزمات، حسب ما يوضح البحث.

01- > اعثر على مثل أعلى. دائماً ما تكون معرفة أن شخصاً آخر قد مرّ بالتحدي نفسه الذي مررت به أمراً يبعث على الطمأنينة؛ حيث يهدّئ ذلك من وطأة الشعور بالاغتراب الذي تثيره المصاعب. وما يفيد أكثر هو معرفة أن هؤلاء الأشخاص قد اجتازوا المحنة، وكذا معرفة كيفية قيامهم بذلك.

سواء كان هؤلاء الناس بشراً من لحم ودم، أو أشخاصاً في سير حياة، أو شخصيات خيالية، تقدّم النماذج دليلاً ملموساً على إمكانية اجتياز المحن والفواجع، وكذا الإلهام لفعل ذلك.

من الحقائق البديهية المقررة للنفسية البشرية أنه نادراً ما نحاول فعل ما لا نؤمن بقدرتنا على فعله. لذا فإن النماذج والمثل العليا مهمة للغاية؛ لأنها تقدّم إلينا خريطة طريق توضح كيفية اجتياز ما نواجهه، على حد قول تشارني.

02-> اطلب وامنح: الدعم الاجتماعي. نظراً إلى أن النظام البشري قائم على الاتصال الاجتماعي، يتدهور الأفراد عقلياً ونفسياً في غيابه. ويقرّ أي دليل جزئي يتضمّن الوسائل التي يعزّز بها الاتصال الاجتماعي الإيجابي السلامة والصحة، بأنه واحد من أقوى المحركات الإنسانية؛ حيث يدعم تقدير الذات، ويعزّز المناعة، ويخفّض ضغط الدم، ويساعد القلب.

واجه محنتك

03-> واجه محنتك. يُعد الهروب من المواجهة سمة مميزة لاضطرابات القلق. وللأسف يمنع تفادي مواقف متصلة بتجربة محزنة ومفجعة التعافي، ويحول دون حدوثه. إنه شكل من أشكال الهزيمة، فالخوف من المخاطر الذي تنتج إشاراته من اللوزة الدماغية المثيرة للمخاوف، يتحكّم فيما تفعله، بل خصوصاً فيما لا تفعله.

تضخم صور وأشكال التفادي حالة الخوف، وتشوّش الدماغ، وتمنعه من تعلم التمييز بين التهديد والخطر الماضي السابق، والخطر الحاضر الحالي. ومع عدم الاتصال بالفص الأمامي للدماغ بفعل المستويات المرتفعة من «النورابينفرين»، تضعف القدرة على تقييم المواقف بشكل عقلاني، والتوصل إلى طريقة للتكيّف، والمضي قدماً.

04-> قم بأمور صعبة. التعرّض المتعمد لمواقف تتضمّن تحدياً كبيراً في الطفولة، وربما إلى حد ما في مرحلة البلوغ؛ يكون تقبلاً نفسياً وبدنياً للضغوط والتوترات.

ويغيّر التعرّض لظروف صعبة بدرجة معتدلة، حسب ما توضح الدراسات، المحور تحت المهادي النخامي الكظري؛ مما يكبح رد الفعل اللاحق للمحور، ويقلّل الهرمونات التي تضع النظام في وضع الخطر، ومدة تأثيرها. إنه يخفّف من إدراك المرء أنه في حالة انهزام وحزن.

05-> خفّف قبضتك على نفسك. القوة ورباطة الجأش إحدى الطرق المؤدية إلى الصمود، لكنّ هناك طريقاً آخر، وهو ما يطلق عليه اختصاصي العلوم العصبية في جامعة «ويسكونسن»، ريتشارد ديفيدسون، «المسار الهادئ» (quiet path). فعوضاً عن كبح مشاعر الحزن، يتم بناء مهارات السلامة النفسية، ومصادقة الذات من خلال «استراتيجيات التصادق». وبعد ذلك حين تحدث فاجعة أو محنة، وهو أمر مؤكد، فستكون عملية التعافي سريعة. هذا مهم، كما يوضح ديفيدسون؛ لأن سرعة التعافي تحمي من ترسخ القلق وحالة الاختلال العصبي.

الوعي العميق والبحث عن معنى

06-> الوعي العميق. العماد الأول لديفيدسون هو القدرة على تركيز الانتباه نحو مقاومة التشتيت. ويتضمّن أيضاً ما وراء الوعي، ومعرفة ما تتطلّع إليه أذهاننا.

يبدأ الأمر بقبول ما هو حاضر، وتعميق الوعي به، وهو ما يزيد من شدة الشعور بالألم لفترة زمنية، ثم يسرّع عملية التعافي بعد ذلك. يصف ديفيدسون التبصر بوصفه معرفة للذات يقودها حب الاطلاع: «إنها الكيان الذي صنعناه ونطلق عليه (نفسي) أو (أنا)، ويحرر ذلك الناس من الحديث السلبي للذات، الذي يسبّب لكثيرين الشعور بالهزيمة والاكتئاب».

07-> ابحث عن معنى. كتب فيكتور فرنكل في «بحث الإنسان عن معنى»: «من بعض الأوجه تنتهي المعاناة في اللحظة التي نعثر فيها على معنى. ليست الظروف هي التي تجعل الحياة غير محتملة، بل انعدام الشعور بغاية أو هدف، حيث يبني الشعور بغاية، والالتزام بالقيم التي تدعمها، هيكل شيء إيجابي. ويصبح دليلاً على أن جزءاً منك لم يتدمر بفعل المحنة أو الفاجعة».

إن الغاية هي ما تدفع الناس نحو الأمام، فهي قوة تحفيزية تعمل حتى عند مواجهة المصاعب، بل ربما بشكل خاص عند مواجهة تلك المصاعب. وعلى الرغم من أنها مصنّفة بشكل أدنى ضمن مجال الروحانيات فإن لديها آثاراً حيوية على الجسم.

08-> اعكس وضع عقلك. في جوهر وقلب التكيّف، توجد الجاهزية والاستعداد التي يمكن للمرء بها التنقل بانتقائية بين العمليات العقلية الذهنية من أجل توليد استجابات سلوكية تلبي متطلبات موقف ما وتتناسب معه. تتولّى شبكة التحكم التنفيذية عملية فهم أي موقف، وتقييم ما هو ضروري، واختيار الاستراتيجيات النافعة وتطبيقها، وهو أمر ضروري لإنجاز الكثير من المهام؛ لكن الأهم من ذلك قدرته على تعديل مخرج اللوزة الدماغية، المسؤولة عن إطلاق الإنذار بوجود مخاطر وتهديدات، والمشاعر السلبية التي تطلق تلك اللوزة عنانها.

«بصمة الصمود الميكروبية»

09->حافظ على توازن الكائنات الدقيقة المتعايشة داخل جسمك. يتم النظر إلى الصمود بوجه عام بوصفه ظاهرة نفسية، ويستهدف أكثر المناهج والطرق نحو الصمود، العقل.

مع ذلك أوضحت أبحاث جديدة بطريقة مقنعة أن الصمود ظاهرة تشمل الجسم كله، وتحدث واحدة من أكثر العمليات نشاطاً داخل الأمعاء. ومن أجل الوصول إلى دماغ صامد، فإنك بحاجة إلى تأمين كائنات دقيقة صامدة متعايشة داخل جسمك؛ حيث تطلق تلك الكائنات الموجودة داخل الأمعاء «microbiome» مجموعة من المواد الكيميائية الحيوية التي تعمل من خلال المحور الأمعاء - الدماغ gut - brain axis، وتشكّل الدوائر العصبية الكهربائية للمخ، وتحدد كيفية عملها وأدائها للوظائف.

وقد اكتشف باحثون في جامعة «كاليفورنيا لوس أنجليس» أخيراً أن مجموعة محددة من البكتيريا، تُسمّى «بصمة الصمود الميكروبية» (microbial signature of resilience)، تمكّن المركز التنفيذي داخل الدماغ، والموجود في القشرة الأمامية للدماغ، من كبح جماح المراكز العاطفية النشطة بشكل مفرط التي تعمل بصورة سريعة. وتقول الطبيبة النفسية، المديرة المشاركة لمركز الكائنات الدقيقة المتعايشة داخل جسم الإنسان في جامعة «كاليفورنيا لوس أنجليس»، أربانا غوبتا: «لا توجد منطقة وحيدة داخل المخ تعمل بشكل منعزل ومنفصل».

* مجلة «سايكولوجي توداي»

ـ خدمات «تريبيون ميديا»